الغربة والتمكين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فسورة القصص سورةٌ مكية، جميعها خلا آيتين تنازع فيها أهل العلم؛ لكن الطابع العام لهذه السورة يدور حول ذكر الله الاستضعاف، وحول أخذ أسباب القوة، ونحن في أشد الحاجة إلى طرح هذا الموضوع، لاسيما وقد صرنا الآن في مفترق الطرق، وكثير من الناس لا يدري أين يقف بعدما حدث تغريب شامل.

وصف الغربة وصف لازم للاستضعاف، فالاستضعاف والغربة قرينان، قال الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:5-7].

التمكين يحتاج إلى التفكير في هذا الموضوع من وقت الرضاعة، هذه الأجيال المنهزمة التي لا تستطيع أن تجد لها الآن موضعاً على وجه الأرض؛ السبب قديم: من أراد أن يمكن له في الأرض فليبدأ بتربية ولده من وقت وضع النطفة.

ذكر الله عز وجل أنه يريد أن يمن على بني إسرائيل، ويرفع هذا الاستضعاف ويمكِّن لهم، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] هذا هو بداية التمكين لبني إسرائيل، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، هذا هو الوضع العام، الناس شيع وأحزاب ومستضعفون، لا يملكون لساناً ولا يداً مع فرعون، فالغربة والاستضعاف قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

وإنما ساق الله عز وجل هذه القصة للنبي عليه الصلاة والسلام ليقول له: إننا كما مكنا لموسى ومكنا لبني إسرائيل فإننا سنمكن لك وذكر في آخرها قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85].

سورة القصص هي السورة الوحيدة التي تعرضت لميلاد موسى عليه السلام، وقصة موسى عليه السلام ذكرت كثيراً في القرآن، لكن ما عرفناها إلا من بدء رسالته إلى فرعون، فتطرقت هذه السورة إلى ذكر ميلاد موسى.

ما أحلم الله عز وجل! لو أراد أن يأخذ فرعون لأخذه، لكن ربى له رضيعاً، ما أحلمه عن عباده! ولو كان الله عز وجل يعجل كعجلة أحدنا ما أبقى على ظهرها من دابة.

فقه هذا الأمر ضروري: أن تعرف أنك غريب، يعني: مستضعف، ومستضعف يعني: غريب.

إن رجوع الجيش المنهزم رجوعاً صحيحاً، وانسحابه انسحاباً صحيحاً يُعَدّ باباً من أبواب الانتصار، حتى ولو لم يحرز تقدماً، لكن يكفي أن يرجع بلا هزيمة وبلا خسائر جسيمة، لأن المسألة كلها مناورات، فإذا وجدت الفرصة أمامك فتقدم، ولا تندم ولا تحزن إذا رجعت أضعاف ما تقدمت، المهم: أن تكون كما أمرك الله عز وجل فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] لا يضرك أن ترجع مائة خطوة إلى الوراء طالما أنك مستقيم على الأمر، فإن الله عز وجل إذا أراد أن يمكن للمسلمين مكن لهم في أقل من طرفة العين، لكن لابد من وضع الكلام في مكانه الصحيح، والفعل في مكانه الصحيح، مسألة التقدم والتأخر هذه مسألة ترجع إلى الضغط الذي نعيشه، نحن الآن نعيش في زمان الغربة الثانية، لكنَّ هناك فروقاً جوهرية بين الغربة في الأوائل الغابرين، والغربة في الخالفين.

إن فشل الجماهير الغفيرة في الإجابة على سؤال بدهي هو السبب في هذه المأساة التي نعيشها الآن، سؤالٌ مكوّنٌ من كلمتين اثنتين، إذا سألته لأي رجل كأنما باغته، ويضل فترة يفكر في الجواب.

تعثر الجماهير في الإجابة عن هذا السؤال هو سبب المحنة التي يعيشها المسلمون من قرون، هذا السؤال: لماذا نتزوج؟ اسأل أي رجلٍ هذا السؤال يشعر بمفاجأة، ويفكر قليلاً، معنى هذا الوقوف: أنه لا يدري لماذا تزوج، كبر وبلغ ويريد أن يتزوج، هذه كل الحكاية؛ لذلك كانت هذه الجماهير الغفيرة هم أولاد الذين تعثروا في هذه الإجابة، فخرجوا للحياة بلا هدف.

اليهود خمسة عشر مليوناً فقط، لو بصق كل رجلٍ مسلم بصقة لأغرقناهم، يملكون المال والسياسة والإعلام والاقتصاد والزراعة... كل أسباب الحياة في أيدي اليهود.

لما اطلعت مرة على مذكرات جولدا مائير هذه المرأة التي رأست الحكومة في إسرائيل، قالت: إنها بدأت تفكر في محنة الشعب اليهودي وعمرها أربع عشرة سنة، وبدأت تعد نفسها لتحمل المسئولية وهي في هذا السن.. ماذا يشغل أحلام نسائنا؟! أنا لا أسوق هذه القصة على أساس أن جولدا مائير في موضع الحجة.. لا، إذا أردنا الحجة إنما هم الصحابة الأكارم، الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أضرب مثلاً معاصراً.

امرأة كافرة استطاعت أن تصل إلى قمة الهرم -الحكومة- بدأت هذا الشعور وعمرها أربع عشرة سنة!

لماذا يحتقر الإنسان نفسه؟ إنك لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، سل أي عظيم: هل كنت تتوقع أن يقال: فلان الفلاني إمام الأئمة؟ يقول لك: أبداً، ما خطر ببال أي إمامٍ تعقد عليه الخناصر أنه سيكون إماماً، فلو كل إنسان احتقر نفسه، واستسلم للفساد الإداري الذي قتل العباقرة ودفن الأذكياء؛ لما ارتقت أمةٌ أبداً.

لذلك قد تجد اختلافاً في تحديد ميلاد العالم، لأنه يوم ولد كان مولوداً مثل مئات المواليد، لا نباهة له ولا ذكر، ولا ندري أيكون عالماً أم قاطع طريق؟ لكنه يوم مات دونوا وفاته بالساعة، بل بالثانية.. لماذا؟ لأنه ما مات حتى كان علماً كبيراً ملأ الأرض.

فنحن في زمان الغربة، لكن نوعية الغريب اختلفت، الغريب الأول يختلف عن الغريب الذي بعده.

أصل الغربة هو التفرد، ألا يكون لك شكلٌ ولا نظير، هذا هو معنى الغريب، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله يتوجع من هذه الغربة التي شعر بها في بلده وبين أهله لما كان يدعو إلى السنة، وقام له أصحاب التعصب، فأنشد متوجعاً:

وما غربة الإنسان إلا في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل

وإني غريب بين بدٍ وأهلهـا وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

هذا هو معنى الغربة، ليس الغريب هو الذي يترك بلده ويسكن في بلدٍ أخرى، فإن الغريب قد يأنس في دار الغربة، ويتخذ له أصحاباً وأخداناً أفضل من الذين تركهم، وهذه القاهرة أغلب الذين يعيشون فيها ليسوا من أهلها، فكيف استقر بهم المقام حتى أنهم نسوا مسقط رأسهم..؟! إن الغريب قد يأنس في دار الغربة، لذلك لما نصح النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر أن يتجافى عن دار الغرور، قال له: (يا ابن عمر ! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) و(أو) ليست تخييراً أن يختار الغربة وأن يكون عابر سبيل.. لا، إنما ترقى النبي صلى الله عليه وسلم به، (أو) هنا: بمعنى بل، يعني كن في الدنيا كأنك غريب بل عابر سبيل، كقول الله عز وجل: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، يعني: بل هو أقرب من لمح البصر، وكقول الله عز وجل: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147] يعني: بل يزيدون، لأن الغريب قد يأنس في دار الغربة بأن يجد له شبيهاً أو نظيراً.

والمقصود من الموعظة أن يتجافى ويشعر بالوحشة الدائمة وهو في الدنيا، فالغريب قد يأنس، فقال له: لا، لا تكن غريباً، بعدما قال له: ( كن في الدنيا كأنك غريب ) ثم كأنما استدرك فقال له: لا تكن غريباً؛ لأن الغريب قد يأنس، بل عابر سبيل؛ فإن عابر السبيل مستوحشٌ دائماً، لا يكاد يضرب فسطاطه فينام حتى ينقصه ويمضي، ومثل الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، فلو أن صاحب الشقة المفروشة تعطل عليه (صنبور) الماء فإنه لا يصلحه فإذا قلت له: لمـاذا لا تصلح (الصنبور)؟ يقول لك: أصلاً هي مفروشة، وأنا سأتركها وأمضي. لا يهيئ فيها شيئاً، لكن إذا رزقه الله عز وجل، واستطاع أن يشتري شقة تمليك.. فإنه يتصرف تصرف الذين لا يموتون، كل شيء يخطر بباله من أسباب الرفاهية والنعيم يأتي به..

الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، المفروض أن العبد العاقل يكون مستوحشاً دائماً وهو يمضي إلى الله؛ لذلك ترقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام: لا تكن غريباً بل كن عابر سبيل، فليست الغربة أن تترك بلدك وتترك أهلك وتدخل مع آخرين، ليست هذه هي الغربة، وهذا هو معنى كلام الخطابي رحمه الله:

وما غربة الإنسان في شقة النوى

أي: في البعد.

ولكنها والله في عدم الشكل

ألا يكون لك نظير.

غربة أهل السنة والجماعة

أهل السنة والجماعة في وسط المبتدعة غرباء، فهم يعاملون في وسط المبتدعة معاملة الأقليات المسلمة في بلاد النصارى، فهذا نوعٌ من الغربة، ولذلك عندما تقرأ عقائد أهل السنة تجد أنهم يذكرون من جملة العقائد مسائل فقهية، يعني يقول لك مثلاً:

ومن عقائدنا: أن نصلي خلف كل برٍ وفاجر -مع أن هذه ليست عقيدة- ومن عقائدنا: أن نجاهد مع كل برٍ وفاجر، ونرى المسح على الخفين. متى ذكر المسح على الخفين في العقائد؟! هذه كلها أحكام فقهية. إذاً لماذا ذكروها في العقائد؟ لأنها مباينة لسنن المبتدعة في ذاك الوقت.

لو كتبنا عقائدنا الآن لقلنا: ومن عقائدنا؛ إعفاء اللحية، ومن عقائدنا؛ النقاب.. فلماذا نذكر هذا؟ لأن هذا هو شعار الغريب وشعار الغريبة، شعار الغريب: أن يعفي لحيته، وشعار الغريبة: أن تلبس نقابها، والحرب الضروس قائمة على الاتجاهين، وقائمة على النساء بصورةٍ أشد، وهذا من جملة الغربة.

إنسان يركب حافلة فيها أكثر من خمسين رجلاً، وعندما تقف الحافلة في أي نقطة تفتيش، ينظر المسئول في وجوه الركاب، فإذا رأى رجلاً أعفى لحيته قال له: تعال.. وإن عامله بالحسنى نظر في البطاقة وتحقق، هذا إن أحسن إليه، وإلا فإنهم يأخذونه وينزلونه. ما هي جنايته؟! أنه حمل شعار الغربة، ورفع هذا الشعار، فقط هذه جنايته.

المرأة المنتقبة تحرم من دخول الجامعة، لماذا تحرم من دخول الجامعة، ومحكمة القضاء الإداري العام قبل الماضي أخرجت حكمها، ونشر في جريدة الأهرام -الجريدة الرسمية- أنه لا يوجد قانون يحدد زياً معيناً؟ فمن حق المرأة المنتقبة أن تدخل الجامعة، وصدر القرار، واستحدثوا قرارات جديدة، تمنع المرأة المنتقبة من دخول الجامعة فرفعنا قضية فكسبناها، ثم بعد فترة ينزل قرار جديد فتمنع من دخول الجامعة .. وهكذا، هو هذا الجديد في الموضوع، فهذه غربة!

يسمح للمرأة أن تمشي (بالمايوه) على شاطئ الإسكندرية أو في المصايف، ويقال: هذه حرية شخصية! حرية العري، اجعلوا في مقابلها حرية التستر فهذا أيضاً من العدل.

هذه غربة، بعض الغرباء يفرون منها، فنراه يحلق لحيته ليستريح، وهذه تخلع نقابها لتستريح.. نقول: لا، إن شعار الغربة شرف، لا تتركه! إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، ويعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) هذا هو الجزاء، وهذا هو الشرف.. لماذا تتركه؟ (إن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة).

طوبى لهم وحسن مآب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يمشي الجواد المضمر -المسرع- في ظلها مائة عام لا يقطعها) فهذه شجرة الغرباء.

فنحن عندما نذكر المسح على الخفين في جملة عقائدنا فإننا نذكره كما ذكره العلماء قبل ذلك، وكان من شعار المبتدعة ألا يمسح على الخفين، فاضمحل هذا الخلاف، وصار في الكتب، وقلما يتنازع عليه أحد.

اللحية تصلح أن تكون جزءاً من عقائدنا وإن كانت حكماً فقهياً، لكنها صارت قضيةً، وصار يميز بها الغريب في زمن الغربة.

أهل السنة والجماعة في وسط المبتدعة غرباء، فهم يعاملون في وسط المبتدعة معاملة الأقليات المسلمة في بلاد النصارى، فهذا نوعٌ من الغربة، ولذلك عندما تقرأ عقائد أهل السنة تجد أنهم يذكرون من جملة العقائد مسائل فقهية، يعني يقول لك مثلاً:

ومن عقائدنا: أن نصلي خلف كل برٍ وفاجر -مع أن هذه ليست عقيدة- ومن عقائدنا: أن نجاهد مع كل برٍ وفاجر، ونرى المسح على الخفين. متى ذكر المسح على الخفين في العقائد؟! هذه كلها أحكام فقهية. إذاً لماذا ذكروها في العقائد؟ لأنها مباينة لسنن المبتدعة في ذاك الوقت.

لو كتبنا عقائدنا الآن لقلنا: ومن عقائدنا؛ إعفاء اللحية، ومن عقائدنا؛ النقاب.. فلماذا نذكر هذا؟ لأن هذا هو شعار الغريب وشعار الغريبة، شعار الغريب: أن يعفي لحيته، وشعار الغريبة: أن تلبس نقابها، والحرب الضروس قائمة على الاتجاهين، وقائمة على النساء بصورةٍ أشد، وهذا من جملة الغربة.

إنسان يركب حافلة فيها أكثر من خمسين رجلاً، وعندما تقف الحافلة في أي نقطة تفتيش، ينظر المسئول في وجوه الركاب، فإذا رأى رجلاً أعفى لحيته قال له: تعال.. وإن عامله بالحسنى نظر في البطاقة وتحقق، هذا إن أحسن إليه، وإلا فإنهم يأخذونه وينزلونه. ما هي جنايته؟! أنه حمل شعار الغربة، ورفع هذا الشعار، فقط هذه جنايته.

المرأة المنتقبة تحرم من دخول الجامعة، لماذا تحرم من دخول الجامعة، ومحكمة القضاء الإداري العام قبل الماضي أخرجت حكمها، ونشر في جريدة الأهرام -الجريدة الرسمية- أنه لا يوجد قانون يحدد زياً معيناً؟ فمن حق المرأة المنتقبة أن تدخل الجامعة، وصدر القرار، واستحدثوا قرارات جديدة، تمنع المرأة المنتقبة من دخول الجامعة فرفعنا قضية فكسبناها، ثم بعد فترة ينزل قرار جديد فتمنع من دخول الجامعة .. وهكذا، هو هذا الجديد في الموضوع، فهذه غربة!

يسمح للمرأة أن تمشي (بالمايوه) على شاطئ الإسكندرية أو في المصايف، ويقال: هذه حرية شخصية! حرية العري، اجعلوا في مقابلها حرية التستر فهذا أيضاً من العدل.

هذه غربة، بعض الغرباء يفرون منها، فنراه يحلق لحيته ليستريح، وهذه تخلع نقابها لتستريح.. نقول: لا، إن شعار الغربة شرف، لا تتركه! إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، ويعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) هذا هو الجزاء، وهذا هو الشرف.. لماذا تتركه؟ (إن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة).

طوبى لهم وحسن مآب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يمشي الجواد المضمر -المسرع- في ظلها مائة عام لا يقطعها) فهذه شجرة الغرباء.

فنحن عندما نذكر المسح على الخفين في جملة عقائدنا فإننا نذكره كما ذكره العلماء قبل ذلك، وكان من شعار المبتدعة ألا يمسح على الخفين، فاضمحل هذا الخلاف، وصار في الكتب، وقلما يتنازع عليه أحد.

اللحية تصلح أن تكون جزءاً من عقائدنا وإن كانت حكماً فقهياً، لكنها صارت قضيةً، وصار يميز بها الغريب في زمن الغربة.

هناك فرقٌ بين الغرباء الأوائل وسبب تمكينهم، وبين غربتنا نحنُ وعدم تمكيننا.

انظر إلى مؤتمر صانعي السلام والذي كان أحد أعضائه الرئيس الروسي الذي حارب الشيشان ودهسهم بالدبابات، أهذا يوضع في صانعي السلام؟ وشمعون بيريز الذي ما زالت يده تقطر من دماء المسلمين!

إنها المأساة، أو قل: هي الملهاة، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك؟!

إن هذا المؤتمر كان سرادق عزاء للقتلى في إسرائيل، كأنما يقولون لهم: لا تخافوا حتى وإن قتل منكم مائة رجل؟ قد حشرنا لكم الدنيا كلها لتؤيدكم، وليقولوا لكم: نحن معكم.

لماذا لم يعقد هذا المؤتمر يوم قتل الوغد الكافر -شمعون - مائة مسلم ساجد في المسجد الإبراهيمي؟

وهناك نشروا بعد حرب الخليج أنهم يفكرون في الدولة البترولية الجديدة التي تخضع للنظام العالمي الجديد، وإن لم يستيقظ المسلمون من غفلتهم فإنهم سينفذون هذا المخطط كما نفذوا حرب الخليج -حرب الخليج تطبق من سنة خمس وسبعين- ما عرفنا هذا إلا بعد نشر المذكرات السافرة، والمفروض أن هذه المذكرات تكون سرية؛ حتى ينفذوا الدولة البترولية الجديدة على الأقل، لكنهم يعلمون أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نفعل، هم متأكدون من ذلك، لذلك ما عندهم سر، السر عندهم علانية، والعلانية سر، إذا كان عدوه بهذا الاستضعاف وهذا الهوان..!

فالدولة البترولية الجديدة -التي هي المنطقة الشرقية في السعودية مع الخليج- قالوا: ليس معنى أن البترول في أرضكم أنكم ستتحكمون بنا.. لا، البترول هذا ملك البشرية، وليس من العدل أن توضع مصادر الطاقة في يد جماعة من الأعراب، لابد أن النظام العالمي الجديد والمقصود به هيئة الأمم المتحدة متمثلةً باللجنة الثلاثية والرباعية والخماسية، توزع البترول على العالم، فمثلاً: أمريكا تحتاج الكثير من البترول، فنعطيها، والدول العربية لا تحتاج إلى بترول بالمرة فلا نعطيها، هذا هو النظام العالمي الجديد، وهذه هي الدولة البترولية التي ستكون منزوعة رغم أنف مالكي الأرض، هل توجد غربة أكثر من هذه؟! ويظهرون علينا كل يوم بمثل هذا ونحن نشجب ونستنكر، فلو سمعت عن محجمة دم أريقت في أي مكان في الكرة الأرضية فاعلم أنه دم مسلم، حتى عبّاد البقر الذين هم أذل الخلق أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، وكأنه لا يوجد مليار مسلم على وجه الأرض، كأنهم موتى جميعاً.

هذه غربة طاحنة، أين الغرباء الذين ما عرفوا حقيقة غربتهم؟! اختلف بعضهم مع بعض في قضايا جزئية وسع السلف الخلاف فيها، تعجب لغريب يتشاجر مع غريب وعدوهما ممسك بالسلاح، لابد من دراسة الخلاف، ولابد من معرفة أدب الخلاف، ما وسع السلف الخلاف فيه يسعنا، لسنا أفضل منهم ولا أورع، ولا أفقه في دين الله منهم، ما يسعك فيه الخلاف امض واترك أخاك، وادخر هذا الجهد لعدوك وعدوه أيضاً، نحن غرباء ليست لنا رسالة، وليس لنا هدف واضح.

الصحابة الأوائل كان هدفهم واضحاً كالشمس؛ فانصرفوا بقوة قلبٍ لا يلوون على شيء، إذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، فاتركها، فأنت ما خلقت لتكون مصرياً ولا لتكون سعودياً ولا فلسطينياً، خلقت لتكون عبداً، فإذا عجزت عن تحقيق العبودية في مكانٍ ما وجبت الهجرة، وهذه الهجرة الواجبة إلى يوم القيامة والتي لا تنقطع؛ هجرة تحقيق العبودية لله، الهجرة من السيئة إلى الحسنة، ومن المعصية إلى الطاعة، هجرةٌ دائمة.

قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن على فتوى لشيخنا الإمام، حسنة الأيام، وعالم بلاد الشام، بل عالم ديار الإسلام، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ومتع به، لما سأله سائل: قال له: نحن في فلسطين لا نستطيع أن نقيم شعائر ديننا، فماذا نفعل؟ قال: اتركوها. فقال السائل مستنكراً: نتركها لليهود..؟! قال: نعم، اتركوها ثم ادخلوا عليهم الباب.

قامت الدنيا ولم تقعد، وحرفت فتوى الشيخ، فقيل: إن الشيخ يقول هاجروا من فلسطين ودعوها لليهود. وتعرض للطرد من الأردن بسببها لولا شفاعة الشافعين، أهو قال ذلك أم أن المفتي أسير السؤال؟ صار عندي قناعة: إذا أخطأ عالمٌ في فتوى يكون السؤال خطأً، فنسبة الخطأ للسائل أولى من نسبتها للعالم، فلو لم يكن في المسألة إلا خطأ السائل أو خطأ المجيب لكان إلصاقه بالسائل أولى، السؤال خطأ، فخرج الجواب على مقتضى الخطأ.

لا تستطيع أن تقيم أو تحقق العبودية في أرض ما، لا تكن أسير الأرض، وخذ الأسوة والقدوة من أبي بكر رضي الله عنه، كما رواه البخاري في صحيحه أن زيد بن الدغنة قبل أن يسلم رأى أبا بكر متجهاً إلى ناحية البحر:

- فقال له: إلى أين يا أبا بكر ؟

- قال: أسيح في الأرض وأعبد ربي. أخرجني قومك.

- قال: يا أبا بكر ! مثلك لا يَخرج ولا يُخرج -خروج مثلك خسارة، سواء خرج من تلقاء نفسه أو أخرج- إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، ارجع وأنا جارٌ لك. أنت في حمايتي وفي عهدي، لكن لا تخرج، وذاك مسلم وهذا كافر.

فرجع أبو بكر ، وذهب زيد إلى الكعبة ونادى:

- يا معشر قريش! أبو بكر في جواري.

خلاص كلمة شرف، والعرب كانوا يحترمونها، فابتنى أبو بكر له مسجداً داخل الدار، ثم بدا له أن يبني مسجده في فناء الدار، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً رقيق القلب، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، وكانت هذه صفة عنده رضي الله عنه، حتى لما مرض النبي عليه الصلاة والسلام مرض الموت، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة : يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -كثير الأسف، كثير الحزن، متصل العبرة- إذا بكى لا يتبين الناس قراءته من البكاء. فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).

(صواحب يوسف): عائشة خشيت أن يتشاءم المسلمون بـأبي بكر ؛ لأنه هو الذي خلف النبي عليه الصلاة والسلام فيتشاءموا به، فأرادت أن تجنب والدها هذا الشعور الذي تشعر به، فقال: إنكن صواحب يوسف: أي تقلن غير الذي في بطونكن، ليست المسألة أن المسألة أنه يبكي أو لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فهذه كانت طبيعة الصديق الأكبر رضي الله عنه.

فلما كان يصلي في الفناء كان يبكي، ويتجمع النساء والولدان عليه ليشاهدوه، منظر غريب! أول مرة يرون رجلاً يقرأ ويبكي، فلغرابة المنظر كانوا يتقذفون عليه، فخشي كفار قريش أن يؤمن الناس إذا رأوا هذا المنظر، وسمعوا آيات الذكر تخرج من قلبٍ حار بلسان حار أن يدخل هذا في القلوب، فقالوا لـزيد : مر أبا بكر فليصل داخل بيته، ولا يستعلم، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا.

فقال زيد لـأبي بكر : يا أبا بكر ! ما على هذا اتفقنا، صل داخل الدار وإلا فرد علي جواري، فإني لا أريد أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري، أي شخص يضربك، أو يمتهنك فهذا امتهان لـزيد ، إذاً لم يستطع حماية الذي كان في جواره، فيتحدث العرب أن زيداً لا يستطيع أن يحمي أحداً، فتضيع كلمته، ولا يستطيع أن يجير أحداً.

- فقال: إما أن تصلي في الداخل، وإما أن ترد علي جواري.

- قال: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل. ورد عليه جواره.

أهذا الغريب يهزم؟ أهذا الغريب يرجع القهقرى؟ لا والله، لو عندنا مائة رجل كالصحابة لفتحنا العالم.

إن القوة قوة القلب، فـجعفر الطيار تقطع يده وفيها الراية، فيأخذ الراية باليد الأخرى، فتقطع يده الأخرى، فضمها بعضديه.. أي قوةٍ هذه؟! لا يشعر بهذا الألم ولا بذاك، ويضمها إليه؛ لأنها راية، والراية رمز، فلا يجوز أن تنكس..!. إن القوة قوة القلب، ليست قوة الجوارح، القلب هو ملك البدن، وهذه العضلة تستمد قوتها من القلب، فإذا ضعف القلب لم تنفع العضلة .

ولذلك ترى الرجل البدين القوي مفتول العضلات إذا سمع خبراً شديداً كالصاعقة يقع عليه تجده ينهار.. لماذا؟ خانته عضلاته؛ لأن عزم قلبه انفسخ، وهذه العضلة جندي مأمورٌ من القلب الذي هو ملك البدن.

الذي كان يميز الجيل الأول من الغرباء عن الأجيال التي جاءت بعد ذلك: قوة القلب، ووضوح الهدف، وصدق الانتماء.

جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع لفيف من الصحابة فيهم خباب بن الأرت ، فقال عمر : والله ما أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال . يعني: أولى رجل أن يكون أمير المؤمنين هو بلال بن رباح .. لماذا؟ لأنه أوذي في الله، فقال خباب : انظر يا أمير المؤمنين! وكشف خباب عن ظهره ففزع عمر لما رأى هذا المنظر، وقال: ما رأيتك اليوم. قال: أوقدوا لي ناراً عظيمةً، والله ما أطفأها إلا ودك ظهري.. ومع ذلك لا يتحولون.

فلماذا أيها الغريب إذا تعرضت لأي بلاء، وخيِّرت بين الدين والدنيا، اخترت الدنيا وضحيت بدينك؟ إن سليمان عليه السلام لما استعرض الخيل، وكان يعدها للجهاد في سبيل الله كما قال الله عز وجل: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:30-31]، الخيل الممتازة، فظل يتفقد الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فقال: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] (توارت): يعني الشمس، بالحجاب: غربت، رُدُّوهَا عَلَيَّ [ص:33] هذه الخيول التي ألهته عن ذكر الله عز وجل، فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33] عقرها جميعاً.

لماذا؟ قال: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ص:32] فالله سبحانه وتعالى زكاه، وقال في أول الكلام: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30].

إن العبد الذي يحقق معنى العبودية إذا حصلت مفاضلةٌ بين الله وبين غيره ينحاز إلى جنب الله، هذا هو العبد المزكى، الذي يقال فيه: نِعْمَ الْعَبْدُ [ص:30].

لو قيل لأحدهم: إما أن تحلق لحيتك أو نفصلك من العمل. فإنه سيقول: لا. بل أحلق لحيتي، أليست هذه الصورة منتشرة؟ ويخدع نفسه فيقول -إذا كان مدرساً-: أنا لا أريد أن أترك التدريس، فالتدريس رسالة، ونستطيع أن ننشر الدعوة من خلاله.

أيها المتوهم: الحصة أربعون دقيقة، والمنهج يحتاج إلى الأربعين دقيقة كاملة، فلو كان المدرس ملتزماً ومتمسكاً بدينه، وأراد أن يظهر الشعار يبتدئ الحصة بقوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، نستفتح بالذي هو خير، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، فإنك لا تستطيع أن تقول هذا في الحصة؛ لأن في الطلبة جواسيس، ومن الطالبات جواسيس.

الذي يريد أن ينشر الدعوة حقاً ينظر في حاله؛ فإذا كان يسكن في عمارة مؤلفة من خمسة طوابق، في كل طابق شقتان نقول له:

- كم عمرك؟

- يقول: اثنان وثلاثون سنة.

- ثلاثون عاماً ولم يلتزم أحد من سكان العمارة على يديك؟!

لو كنت حقاً تحمل هم الدعوة حملاً حقيقياً؛ لبدأت تعمل في إطار العمارة؛ لأنهم يعرفونك ويعرفون ابن من أنت، فأنت ستعفي نفسك من تعريف نفسك للناس، بعض الناس لا يلقي بقلبه ولا بسمعه لبعض الدعاة، يقول لك: لا أسمعه، حتى أعرف أهو متطرف أم لا؟ أهو معتدل أم لا؟ فيظل يتردد سنة أو سنتين أو ثلاثاً إلى أن يحبه ويثق في معلوماته فيبدأ يعطيه قلبه.

لا. أنت رجل تسكن في العمارة وهم يعرفونك، أين جهدك؟ إذا كنت صادقاً في دعوى عدم ترك التدريس لنشر دعوة الله، نقول: الدعوة مجالها واسع جداً، فلماذا تقول: لا، أنا أحلق لحيتي، وأظل مدرساً لمصلحة الدعوة؛ فإنه ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، فإذا عرِّضت لهذه المفاضلة افعل كما فعل سليمان عليه السلام: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ [ص:32-33]، لذلك زكاه الله عز وجل، ونعتُ العبدِ بالعبودية أشرف نعتٍ، وهو أن يقال له: أنت عبد، أو يقول الله عز وجل: يَا عِبَادِيَ [الزمر:53]، فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17]، ولو كان هناك وصفٌ أشرف من العبودية لوصفه الله للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به، قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، فوصفه بهذا الشرف، فتحقيق العبودية يقتضي الانحياز إلى جنب الله عز وجل عند أي مفاضلة، لا تتردد في هذا الانحياز؛ فإن الله ناصرٌ من التجأ إليه، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ [القصص:5]، الإرادة في هذه الآية: هي الإرادة الشرعية، التي باعثها محبة الله عز وجل ورضاه عن العبد، وهذا هو الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.

الإرادة الكونية: هي إرادة القهر والغلبة، وهي تشمل كل الخلق؛ مثل قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وقوله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21] هذه الإرادة الكونية التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجر، إرادة القهر والغلبة، وأن الله يفعل ما يريد ويحكم ما يريد، لكن الإرادة الشرعية خاصة بالمؤمنين قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:26-28]، هذه كلها الإرادة الشرعية، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] هذه الإرادة الشرعية، وهي خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، فالله عز وجل يقول: وَنُرِيدُ [القصص:5] -التي هي الإرادة الشرعية- أَنْ نَمُنَّ [القصص:5].

الذي له حق المن وحده هو الله: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]، لذلك كان جرم المنان من أعظم الجرائم عند الله يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليهم: المنان، والذي ينفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره خيلاء) .

فهذا المنان لماذا عوقب بكل هذه العقوبات؟ لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم، لماذا عوقب بهذه العقوبات؟ لأنه نازع الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما أدخلته النار)، ليس من طبيعة العبد أن يلبس رداء الكبر، هذا اسمه (عبد) ويقال: (طريق معبد): يعني مذلل للأقدام، عبد يلبس رداء الكبر هذا منظر نشاز، إنما المتكبر هو الله، والجبار هو الله، إذاً العبد يلزم موضع قدمه ولا يفارقه، لأن اسمه (عبد) فإذا نازع الله عز وجل في هاتين ألقاه في النار مثل المنان.

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ فقالوا: الله ورسوله أمنُّ.) فهذا المن من الله عز وجل كائنٌ واقع، وهذه الإرادة وقعت وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [القصص:5]، قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لمن؟ لهؤلاء المستضعفين وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137].

أيها الغريب: عدتك الصبر الجميل، وإياك أن تسوي بين فتنة الله وعذابه وبين فتنة العبد وعذابه، فإنه لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26]، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137].