آداب الضحك


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعــد:

فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموضوع درسنا في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية هو (آداب الضحك) الضحك الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] أي: أنه خلق في النفس صفة الضحك وصفة البكاء، فيضحك الإنسان ويبكيه، وكل ذلك مما ركبه الله سبحانه وتعالى في طبعه.

أما بالنسبة للضحك فهو في اللغة: مصدر ضحك، وتعريفه: انبساط الوجه وبدو الأسنان، والفرق بينه وبين التبسم، أن التبسم هو مبادئ الضحك، فأول الضحك يكون تبسماً، ويكون غالباً للسرور، كما قال الله سبحانه وتعالى في الضحك: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39] والضحك أعم من التبسم، فكل تبسمٍ ضحك، وليس كل ضحكٍ تبسماً.

ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوتٍ بحيث يُسمع من بعدٍ فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك؛ وإن كان بلا صوتٍ فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها، وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك.

إذاً: عندنا في المسألة التفصيل على ثلاث مراتب:

المرتبة الأخف: وهي التبسم، إذا كان بلا صوت، انفراج الفم تبسمٌ، وإن كان بصوتٍ فهو الضحك، وإن كان بحيث يسمع هو وجيرانه ومن بَعُدَ فهو القهقهة.

إذاً يُطلق على التبسم ضحك، وما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً، فالضحك أعم من التبسم، وهو نوعٌ منه.

أما بالنسبة للضحك فهو صفة لله تعالى، فإنه عز وجل يضحك ، كما جاء في أحاديث كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد : (أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه).

كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله ضحك من صنيع فلانٍ وفلانة لما آثرا الضيف فقدما له طعام الأطفال، وباتا هما وأولادهما جائعين).. إلى غير ذلك من النصوص الشرعية التي فيها إثبات الضحك، وهو صفة لله عز وجل نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرفها ولا نلعب بها، ولا نقول: الضحك بمعنى الرضا، صحيح أن الله إذا ضحك من شيء فهو يدل على رضاه سبحانه وتعالى، لكن ليس الضحك هو الرضا، وإنما من آثار صفة الضحك الرضا.

فإذا رأيت في كلام بعض المؤلفين تفسير ضحك الله عز وجل بأنه الرضا فاعلم بأنه تأويلٌ منبوذ، وأنه تحريفٌ في الواقع، وقد جاء في الحديث الصحيح أيضاً: (إن الله سبحانه وتعالى ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك) وقد فسَّره ابن كثير رحمه الله في تفسيره لما تعرض للحديث الذي رواه أحمد هذا بأن نطق السحاب وضحكه هو البرق والرعد.

أما بالنسبة للضحك فلا شك أن الإكثار منه مذموم شرعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).

إذاً: حال المؤمن الجاد المتصل قلبه بالله، المستحضر لعظمته سبحانه وتعالى، الذي يتذكر ما في اليوم الآخر وما يحدث يوم القيامة من الأهوال، ويعرف شدة عذاب النار لا يكثر من الضحك، فإننا ما خلقنا للضحك واللهو واللعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم كثرة الضحك وهو يوصي أبا هريرة : (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).

هذا الحديث يبين حكم الضحك، حتى ذكر ابن النحاس رحمه الله في كتابه العظيم تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ، قال في تعداد الصغائر -لأنه ذكر فصلاً يتعلق بالكبائر وفصلاً يتعلق بالصغائر- ومنها -من الصغائر-: كثرة الضحك بلا سبب، كذا عدها العلماء من الصغائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر: (إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب) ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر متصلاً قلبه بربه، فكان لا يُكثر من الضحك، ولا يقهقه كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام وقوراً متزناً هادئاً، فقد جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، قليل الضحك) وهاتان صفتان ينبغي أن يتخلق بهما المسلم الجاد، ولا شك أن هذا يعود إلى تقدير وتذكر ما خلق الإنسان من أجله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وتصف عائشة رضي الله عنها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام البخاري ، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم).

وجاء في رواية أخرى: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى ترى لهواته). واللهاة: شيء في الفم، تظهر إذا أغرق الإنسان في الضحك، فانفتح فمه من شدته، فتظهر هذه اللهوات، ولذلك فإن الإقلال منه والاقتصاد وجعل أكثره تبسماً هو السنة.

وكذلك فإن الضحك منه ما يكون كفراً كما إذا اشتمل على استهزاءٍ بشيءٍ مما أنزله الله سبحانه وتعالى، فإذا ضحك سخرية مما أنزله الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر، وقد أتاك نبأ الكفار من قريش لما اجتمعوا عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي، قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي -انظر كيف يصفون النبي صلى الله عليه وسلم- أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم -أشقى القوم- ابن أبي معيط ، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعضٍ من الضحك.

وفي رواية للبخاري أيضاً: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض حتى جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأزالته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم من شجاعتها بالرغم من صغرها رضي الله عنها.

ومن الأمور المتعلقة بآداب الضحك: أنه لا يجوز الكذب لإضحاك الناس، كما يفعل كثيرٌ من المضحكين الذين همهم إضحاك القوم، فإنهم يكذبون لأجل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: (ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له).

وبهذا تعلمون شيئاً من الأضرار الشرعية الناجمة عما يسمونه اليوم في عالم الفن والمسرحيات (بالكوميديا) الذي من أجله يعملون الأفلام والمسرحيات المضحكة، والغرض منها إضحاك الناس؛ فيكذبون لأجل ذلك، وكثيراً ما يستهزئون بالدين، أو بأسماء الله سبحانه وتعالى، يحرفون فيها، أو يلمزون المطوعين من المؤمنين من عباد الله الصالحين، ولا شك أن هذا كفر.

كثير من المسرحيات التي صدرت مؤخراً فيها هذا الكفر وهي في قالب (الكوميديا)، ثم لو قلنا: إنها لا تشتمل على الكفر فهي تشتمل على الكذب، فإن فيها كثيراً من الكذب، ثم إن قلنا: إنها سالمة من الكذب، فإن مبناها على إضحاك الناس ضحكاً متوالياً حتى أن بعضهم من شدة الضحك قد يُلقى على الأرض، وتعلو أصوات القهقهات من المتفرجين، فهي تقسي قلوب جميع الناظرين إليها، ولا شك أن كثرة الضحك تميت القلب.

وبذلك نعلم مخالفة هذه المسرحيات والأفلام الكوميدية لآداب الشريعة الإسلامية، ولذلك يقوم القائم منها وبطنه موجوعٌ من شدة الضحك، وقد علا قلبه غلاف سميكٌ من الران والغفلة التي نجمت عن مشاهدة هذا الفيلم أو المسرحية، وما عُهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه كانوا يجلسون مجلساً كله ضحك، من أوله إلى آخره، يجمعون به سائر الطرف وسائر الأشياء المضحكة ويعملون مجلساً للضحك، فبهذا يُعلم بأن هذه الأشياء كثيرٌ منها محرم والباقي مكروه.

الآن نتعرف على صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ومن طريقٍ أخرى عنه قال: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، لا رآني إلا ضحك) أي: تبسم، لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقد قلنا سابقاً: إن الضحك يُطلق على التبسم، وإن كل تبسمٍ في اللغة هو ضحك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقاً، قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فصلٍ يتعلق بهديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه: "وكان يضحك مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب"، كان يضحك من الشيء الذي يدعو للضحك، لكن كان غالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسماً، والأشياء التي يُضحك منها فسرها رحمه الله بقوله: "وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب"، وستأتي شواهد لهذا.

وعقد الترمذي رحمه الله في كتاب الشمائل المحمدية : باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث الصحيحة منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مما جاء عنه أنه ربما جلس في مجلسٍ وفيه بعض أصحابه، فذكروا أشياء مما يُضحك منها فتبسم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم : عن سماك بن حرب قال: قلت لـجابر بن سمرة : (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون) أي: حصل في بعض المجالس أنهم كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم.

مثال على هذه الأشياء: أنه ربما ذكروا قصة الرجل الذي كان يجعل صنماً من تمرٍ يزعم أنه إلهه فأينما حل وارتحل جعله معه، وأنزله معه يسجد له، فإذا جاع أكل منه، فهذا مما كان يتبسم منه صلى الله عليه وسلم، وربما كان في بعض أصحابه أناس من الظرفاء الذين عندهم طبعٌ فيه مزاحٌ وظرفٌ، فكان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يحصل منهم من هذه الظرف، كما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإذا وجد في طلاب أو جلساء العالم من عنده روح الدعابة والطرفة، فإذا حصل عند العالم أو هذا الشخص القدوة شيءٌ من الضيق أدخل على نفسه شيئاً من السرور بإضحاكه بحق، وهذا لا بأس به.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد : وللضحك أسبابٌ عديدة هذا أحدها وهو الضحك مما يتعجب منه ويُستندر.

الثاني: ضحك الفرح: وهو أن يرى ما يسره أو يباشره -وسيأتي أمثلة لهذا إن شاء الله-.

والثالث: ضحك الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به، ومن الأشياء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في المناسبات يتبسم فيها تبسم المغضب قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءه متخلفاً بعدما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الغزو، قال كعب : (فلما رآني تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب) فإذاً: التعبير عن الغضب يكون أحياناً بالابتسامة.

وهذه بعض أسباب التبسم أو الضحك، وهي:

مما يتعجب منه، وللفرح، وتبسم المغضب، وقد يكون -كما ذكرنا- ضحك سخرية واستهزاء وقد يكون كفراً، وقد يكون من قلة الأدب إذا كان ضحكاً بلا سبب.

ومن الأمور التي جاءت الشريعة فيها بالندب إلى المضاحكة: ملاعبة الزوجة، والبكر بالذات، كما جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع من حديث جابر لما تزوج ثيباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت يا جابر ؟ فقلت: نعم. فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟... ) الحديث وهذا هو الشاهد منه، أن ملاعبة الزوجة ومضاحكتها لا شك أنها من الشرع الحنيف، ومن الأمور المحمودة.

ومما أورده أهل العلم في الضحك:

كلام الإمام الماوردي في الضحك

ما قاله الإمام الماوردي رحمه الله في كتاب: أدب الدنيا والدين تحت عنوان: (آفة الضحك) قال: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغلٌ عن النظر في الأمور المهمة"، أي: أن الإنسان الذي يكثر الضحك إنسان غير جاد، وكثرة الضحك من علامات عدم الجدية المطلوبة من المسلم.

وقال في مفاسد الضحك: "والإكثار منه مذهلٌ عن الفكر في النوائب الملمة"، أي: إذا نزل بالإنسان نائبة ملمة وصار يُكثر من الضحك، لم يستطع فكره أن يجتمع لأجل مواجهتها، "وليس لمن أكثر منه هيبةٌ ولا وقار"، وهذه مضرة ثانية، فالشخص المكثر من الضحك يزول وقاره وهيبته من نفوس الناس، ولذلك يجترئون عليه، لما صار مكثراً للضحك، وتسقط هيبته من قلوب الناس، ولا شك أن هذه السلبية قاتلة لأثر الداعية على الآخرين، فإن الداعية لا ينبغي أن يكون من المكثرين من الضحك، فإن كثرة الضحك منه تزيل أثر كلامه أو لا تجعل لكلامه أثراً ووقعاً في قلوب الناس، وغاية ما يكون مع المدعو أنه يتندر معه ويأتي بالطرف.. ونحو ذلك.

نعم! إن الإتيان بالطرف أحياناً بأدبٍ وحكمة لها فوائد، منها: إيناس الشخص الآخر ، وملاطفته للدخول إلى قلبه، لكن إذا كان الهدف إنما هو ضحك في ضحك، فأي شيءٍ هي الدعوة؟ هذا ما صار عبوراً إلى قلبه، بل صار كل شيءٍ هو الضحك.

ولذلك تجد بعض الذين يؤدون الأدوار الهزلية حتى من بعض المنتسبين إلى التدين يَسقط شيءٌ من هيبتهم من قلوب المشاهدين والحاضرين، لأجل أن الدور الهزلي لا يناسب الشخصية الجادة.

قال: "وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار"، لأن الناس يقولون: هذا مضحك القوم، اذهب إلى فلان يضحكك، اذهب إلى فلان تجلس إليه يوسع صدرك بالنكت والطرائف، ويا ليتها نكتاً يستفاد منها.

روى أبو إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] قال: [ الصغيرة الضحك، والكبيرة القهقهة ].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من كثر ضحكه قلت هيبته].

وقال علي بن أبي طالب : [إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم مجة]، وقيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة في قلبه.

والقول في الضحك كالقول في المزاح: إن تجافاه الإنسان بالكلية -لا يضحك أبداً- نُفر عنه وأُوحش منه، وإن ألفه .. دائماً يضحك، كان حاله ما وصفناه، أي: من عدم الهيبة والوقار، وعدم اجتماع الفكر للأشياء المهمة، وأنه يلهي عن الأشغال والأمور المهمة.

قال: "فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسماً وبشرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [التبسم دعابة]، وهذا أبلغ في الإيناس من الضحك -لأن التبسم يؤنس الشخص أكثر من الضحك- الذي قد يكون استهزاءً وتعجباً، وليس ينكر منه المرة النادرة"، كمن يضحك نادراً، لا بأس لطارئٍ استغفل النفس عن دفعه، فبعض الأحيان تهجم الضحكة فلا يستطيع مدافعتها فهي تأتي فجأةً.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه قد تبسم حتى بدت نواجذه، وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه.

كلام صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك في الضحك

قال صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك : "اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذمة والقبح، ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب؛ لما به من زوال الهيبة، وذهاب الوقار، وقلة الأدب، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به، ولكن لا بد أن يرى الإنسان أو يسمع ما يغلب عليه الضحك منه، أو تمسه الحاجة إليه، لإيناس الجليس، فينبغي إذا طرأ شيءٌ من ذلك أن يجعله تبسماً"، إذا جاء الضحك وطرأ عليك فاجعله تبسماً من غير قهقهة واسترسال، وبالنسبة للذي لا يضحك أبداً أو يتطرف في القضية ويقول: ينبغي علينا ألا نضحك ألبتة، ولذلك دائماً يكون عبوساً وكالحاً، ويكون دائماً ممن لا يلقى الناس بوجهٍ سهلٍ لينٍ، ولا يتبسم مطلقاً، ويعتبر ذلك من علامات الجدية، وأنه من الوقار ومن السمت، هذا كله من تسويلات الشيطان.

كلام الإمام الذهبي في الضحك

هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام : لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون:

أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق.

والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً.

إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً.. ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ.

إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن.

قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ، وقال جرير : (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب.

وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا. بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها.. ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله.

إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر:

كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
"

القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب". انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى.

وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء ، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة ، لا. لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته- وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي : لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).

ما قاله الإمام الماوردي رحمه الله في كتاب: أدب الدنيا والدين تحت عنوان: (آفة الضحك) قال: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغلٌ عن النظر في الأمور المهمة"، أي: أن الإنسان الذي يكثر الضحك إنسان غير جاد، وكثرة الضحك من علامات عدم الجدية المطلوبة من المسلم.

وقال في مفاسد الضحك: "والإكثار منه مذهلٌ عن الفكر في النوائب الملمة"، أي: إذا نزل بالإنسان نائبة ملمة وصار يُكثر من الضحك، لم يستطع فكره أن يجتمع لأجل مواجهتها، "وليس لمن أكثر منه هيبةٌ ولا وقار"، وهذه مضرة ثانية، فالشخص المكثر من الضحك يزول وقاره وهيبته من نفوس الناس، ولذلك يجترئون عليه، لما صار مكثراً للضحك، وتسقط هيبته من قلوب الناس، ولا شك أن هذه السلبية قاتلة لأثر الداعية على الآخرين، فإن الداعية لا ينبغي أن يكون من المكثرين من الضحك، فإن كثرة الضحك منه تزيل أثر كلامه أو لا تجعل لكلامه أثراً ووقعاً في قلوب الناس، وغاية ما يكون مع المدعو أنه يتندر معه ويأتي بالطرف.. ونحو ذلك.

نعم! إن الإتيان بالطرف أحياناً بأدبٍ وحكمة لها فوائد، منها: إيناس الشخص الآخر ، وملاطفته للدخول إلى قلبه، لكن إذا كان الهدف إنما هو ضحك في ضحك، فأي شيءٍ هي الدعوة؟ هذا ما صار عبوراً إلى قلبه، بل صار كل شيءٍ هو الضحك.

ولذلك تجد بعض الذين يؤدون الأدوار الهزلية حتى من بعض المنتسبين إلى التدين يَسقط شيءٌ من هيبتهم من قلوب المشاهدين والحاضرين، لأجل أن الدور الهزلي لا يناسب الشخصية الجادة.

قال: "وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار"، لأن الناس يقولون: هذا مضحك القوم، اذهب إلى فلان يضحكك، اذهب إلى فلان تجلس إليه يوسع صدرك بالنكت والطرائف، ويا ليتها نكتاً يستفاد منها.

روى أبو إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] قال: [ الصغيرة الضحك، والكبيرة القهقهة ].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من كثر ضحكه قلت هيبته].

وقال علي بن أبي طالب : [إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم مجة]، وقيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة في قلبه.

والقول في الضحك كالقول في المزاح: إن تجافاه الإنسان بالكلية -لا يضحك أبداً- نُفر عنه وأُوحش منه، وإن ألفه .. دائماً يضحك، كان حاله ما وصفناه، أي: من عدم الهيبة والوقار، وعدم اجتماع الفكر للأشياء المهمة، وأنه يلهي عن الأشغال والأمور المهمة.

قال: "فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسماً وبشرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [التبسم دعابة]، وهذا أبلغ في الإيناس من الضحك -لأن التبسم يؤنس الشخص أكثر من الضحك- الذي قد يكون استهزاءً وتعجباً، وليس ينكر منه المرة النادرة"، كمن يضحك نادراً، لا بأس لطارئٍ استغفل النفس عن دفعه، فبعض الأحيان تهجم الضحكة فلا يستطيع مدافعتها فهي تأتي فجأةً.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه قد تبسم حتى بدت نواجذه، وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه.

قال صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك : "اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذمة والقبح، ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب؛ لما به من زوال الهيبة، وذهاب الوقار، وقلة الأدب، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به، ولكن لا بد أن يرى الإنسان أو يسمع ما يغلب عليه الضحك منه، أو تمسه الحاجة إليه، لإيناس الجليس، فينبغي إذا طرأ شيءٌ من ذلك أن يجعله تبسماً"، إذا جاء الضحك وطرأ عليك فاجعله تبسماً من غير قهقهة واسترسال، وبالنسبة للذي لا يضحك أبداً أو يتطرف في القضية ويقول: ينبغي علينا ألا نضحك ألبتة، ولذلك دائماً يكون عبوساً وكالحاً، ويكون دائماً ممن لا يلقى الناس بوجهٍ سهلٍ لينٍ، ولا يتبسم مطلقاً، ويعتبر ذلك من علامات الجدية، وأنه من الوقار ومن السمت، هذا كله من تسويلات الشيطان.

هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام : لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون:

أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق.

والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً.

إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً.. ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ.

إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن.

قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ، وقال جرير : (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب.

وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا. بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها.. ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله.

إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر:

كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
"

القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب". انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى.

وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء ، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة ، لا. لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته- وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي : لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).

والآن لنتجه إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الضحك في مناسبات جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك، وننظر من خلال هذه الأحاديث هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في ذلك.

1- عقد البخاري رحمه الله في كتاب الأدب فصلاً بعنوان: باب التبسم والضحك، وقالت فاطمة عليها السلام: (أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت).

وقال ابن عباس : [إن الله هو أضحك وأبكى] أي: أن الله أنشأ هذا في الإنسان، وأنه قد يضحك اليوم ويبكي غداً، بل إنه يضحك في لحظة ويبكي في أخرى بعدها، أو العكس بحسب الدواعي والدوافع كما حصل لـفاطمة رضي الله عنها كما سيأتي، يضحك الإنسان أحياناً في اليوم الواحد ويبكي، فالمشاعر والأحاسيس تتغير.

قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة : يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير ، فقالت: وإنه والله ما معه -يا رسول الله!- إلا مثل هذا الهدبة هذبة أخذتها من جلبابها، قال: وأبو بكر جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول صلى الله عليه وسلم وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، ثم قال: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت هذه المرأة وذكرت هذا الكلام ومقصود المرأة أنه لا يجامعها وأنه ليس له قدرة على الجماع، وأن ما معه إلا مثل هدبة الثوب، فهو غير قادر على الجماع.

ثم جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها تكذب، وإنه ينفضها نفض الأديم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع تعبير المرأة ضحك وتبسم، لأنه فَهِمَ مقصودها، وأنه ضحك ليبين أنه يفهم ماذا تريد؟ ولذلك قال: (لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أي: تريدين الطلاق من زوجك الجديد لترجعي لزوجك الأول، لا. حتى يقع الجماع في الزواج الجديد، لأنه لا يجوز العودة إلى الزوج الأول الذي طلق ثلاثاً وبعده تزوجت ثانٍ إلا إذا حصل وقاعٌ من الثاني في الزواج الثاني.

2- ذكر البخاري في هذا الباب أيضاً حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم)، وهناك أحاديث: (فضحك حتى بدت نواجذه) والنواجذ: جمع ناجذة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة، لكن هل هناك تنافي بين حديث عائشة : (ما رأيته مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) ، وبين هذا الحديث: ( ضحك حتى بدت نواجذه

الجواب: إن المثبت مقدم على النافي، هذا من جهة، وأقوى من ذلك كما رجح ابن حجر رحمه الله أن الذي نفته عائشة غير الذي أثبته أبو هريرة ، فضحك حتى بدت نواجذه لا يصل إلى درجة القهقهة، مستجمعاً ضاحكاً -أي: يقهقه- ربما ينقلب منها الشخص، لا.

وقال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث -كما سنمر عليها إن شاء الله- قال: "والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط لأنه يُذهب الوقار.

وقال ابن بطال : والذي ينبغي أن يُقتدى به من فعله ما واظب عليه في ذلك".

3- وأتى البخاري رحمه الله كذلك في هذا الباب بحديث أم سلمة : (أن أم سليم قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسلٌ إذا هي احتلمت؟ قال: نعم. إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة ، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبم شبهها الولد؟!).

إذاً: المرأة تحتلم ويكون لها ماء، وإلا كيف يكون الشبه لها؟ يخرج الرجل لأعمامه إذا لم يكن لها ماء يعلو ماء الرجل أو يسبق ماء الرجل، فيحصل التذكير أو التأنيث أو يحصل أن يخرج لأعمامه أو لأخواله، فإذاً لا يُقال لها: فضحتِ النساء لإنها جاءت تسأل، وهنا ضحكت أم سلمة ، قال ابن حجر: "والغرض من إيراد البخاري لهذا الحديث؛ لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها، وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة، فأثبت أنها تحتلم".

وأما حديث عائشة : (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) فذكر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث أن اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، أي: لا يكون ضحكاً تاماً، مقبلاً بكليته على الضحك بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم.

4- ومن الأحاديث التي كان فيها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن شيءٍ عظيم هذا الحديث، وهو آخر رجل يدخل الجنة، قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة آخر رجل يدخل الجنة، يأتي وقد أخذ الناس أماكنهم، ويأتي ويقول: قربني إلى الجنة.. أبعدني عن النار.. اجعلني عند الباب.. أدخلني.. قال: (فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يَصْرِيْنِي منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟) الناس قد أخذوا أخذاتهم واعطياتهم، وهذا الرجل لم يكن عنده أمل أن يدخل الجنة، وإنما يسأل الله، والله يقربه خطوة بعد أخرى حتى يدخله الجنة، ويقول له: تريد أن أعطيك ملكاً مثل الدنيا مرتين؟ (قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) فهذا الرجل ما ظن أنه يصل ويحصل على هذا الكرم، فيقول لله: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود -راوي الحديث- فقال: ألا تسألوني مم أضحك! فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر).

فالله عز وجل ضحك من حالة عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحك لأن الله ضحك، وأثبت ضحك الله عز وجل، وابن مسعود ضحك، وهناك أحاديث اسمها (الأحاديث المسلسلة) وهذا مسلسل بالضحك، مثل حديث علي بن أبي طالب في ركوب الدابة فإنه ضحك.

5- وكذلك من الأحاديث التي كان الضحك فيها معبراًُ عن شيءٍ مهم، ولم يكن ليضحك النبي عليه الصلاة والسلام عبثاً، ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك .. أنا الملك .. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله) لقول هذا الحبر اليهودي.

فكان ضحك النبي عليه الصلاة والسلام هنا تعجباً وتصديقاً للحبر، ونفاة الأصابع.. نفاة الصفات يقولون: ضحك سخرية من هذا النقص الذي ألحقه الحبر بالله، والحديث يقول: تصديقاً لقول الحبر، كيف نقول: إنه ضحك منه لأنه نسب لله الأصابع، كما يقول نفاة الصفات؟!

6- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك من الفرح والاستبشار، فإذا بُشر بشيءٍ حسن ضحك، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير، من حديث أم حرام بنت ملحان : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه -وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك -وغالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسم- فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة فقلت: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها الله منهم).

7- ومن البشائر التي أضحكت النبي عليه الصلاة والسلام قصة الإفك، بعد الغم العظيم، والهم الطويل، والعذاب والأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين.. شهر كامل هو وأهل بيته يعيشون في شدة وغم، أخذه ما كان يأخذه من البرحاء لما نزل الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق -اللؤلؤ- في يومٍ شات، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، وهذا ضحك استبشار وفرحة بالوحي الذي جاء مفرجاً للهم العظيم الذي تراكم طيلة هذه الفترة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لـعائشة : (احمدي الله، فقد برأك.. ) الحديث.

8- وضحك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لما بشره الله سبحانه وتعالى بنهر الكوثر، ولذلك جاء عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:1-3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهرٌ وعدنيه ربي عز وجل، عليه خيرٌ كثير، هو حوضٌ ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم...) الحديث.

9- كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك لأجل رؤيته منظراً ساراً يعجبه من دين أصحابه، وتمسكهم بالسنة، كما جاء في حديث البخاري في كتاب الأذان: (بينما المسلمون في صلاة الفجر والنبي عليه الصلاة والسلام كان مريضاً في مرض الموت لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف فتبسم يضحك) أي: إعجاباً بحالهم، واستواء صفوفهم، واجتماعهم على الصلاة وراء إمامٍ واحد ، وهو مريض، وأنه لما غاب عنهم في مرضه خلفوه بخير، قال: (وهم المسَلَّمُون أن يفتتنوا في صلاتهم) أي: من الفرح، وفي رواية أخرى: (ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم).

10- وكذلك من المناسبات التي ضحك فيها النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لما أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالماً وهو رجلٌ كبير، لأنه كان يكثر الدخول عليها ويقع في ذلك حرج، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجلٌ كبير؟! فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: قد علمت أنه رجلٌ كبير) هو يأمرها أليس بوحي؟ فإذاً لا داعي لمراجعته.

11- ومن الضحك الذي حصل: ما مزح به بعض أصحابه معه تفريجاً لهمٍّ حلَّ به، كما جاء في صحيح مسلم في كتاب الطلاق في حديث النفقة وإكثار زوجات النبي عليه الصلاة والسلام عليه النفقة، واعتزال النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فجاء عمر رضي الله عنه فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال: لأقولن شيئاً أُضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -أي: زوجة عمر - سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها -يقول: لو تعلم ماذا يصير ومعي أنا في بيتي مع زوجتي لما تسألني النفقة فأطعن في عنقها، أي: إذا أكثرت عليّ- فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها) فالنبي عليه الصلاة والسلام لما عرف أن هذا الوضع موجود عند نساء أصحابه، ومن مصارحة عمر له بأمرٍ خاص مع زوجته وأنه لا يصبر، النبي عليه الصلاة والسلام ما وجأ أعناق زوجاته، عمر فعل ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحال.

12- ولقد كانت بعض المواقف التي يفعلها الأعراب فيها شيءٌ من الطرفة، أو بعض الكلام الذي يقولونه، فيكون ذلك مدعاةً مثلاً لضحك النبي عليه الصلاة والسلام في موقعٍ مناسب، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب المزارعة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً يحدث وعنده رجلٌ من أهل البادية، وكان يحكي عليه الصلاة والسلام: أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له -أي: الله عز وجل-: ألست فيما شئت؟ -كل هذه الزروع والأشجار وتريد أن تزرع أيضاً- قال: بلى. ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر -ألقى البذر هذا الرجل الذي في الجنة- فبادر الطرف -أي: بطرف العين نباته واستواؤه واستحصاده- فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا بن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي لما سمع الحديث: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم).

فهذا الأعرابي على سجيته وعلى بساطته أطلقها فصارت طرفةً ضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم.

13- وكذلك ما ورد في كتاب الجهاد والسير في صحيح مسلم : (أن أم سليم اتخذت يوم حنينٍ خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته إن دنا أحدٌ من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك).

14- وحدث: (أن رجلاً من أصحابه وهو سعد بن أبي وقاص رمى رجلاً من المشركين وهو يعدو بسهم فأصابه، فوقع المشرك وانكشفت عورته، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أي: من دقة سعد وإصابته لهذا المشرك وهو يجري، ثم انكشاف عورة هذا المشرك وهو يتقلب، وهؤلاء كفار محاربون لو ضحك منهم الإنسان وسخر بهم فلا بأس.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب عيادة المريض 3001 استماع
آداب الدرس والحلقة 2224 استماع
آداب الوليمة 2145 استماع
أدب الإستفتاء 2114 استماع
آداب السلام في الإسلام 2096 استماع
آداب زيارة الإخوان 1820 استماع
آداب الهدية 1653 استماع
أدب الكلام والمحادثة 1618 استماع