أرشيف المقالات

تثبيط الهمم وإشاعة الفشل

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
من صفات المنافقين
تثبيط الهمم، وإشاعة الفشل
وإيقاد نار الفتن بين المسلمين، وتخذيل أهل الإيمان عند الشدائد


يتخاذلون عن نصرة المؤمنين، ويُخَذِّلون عن الكافرين، ويشيعون الفشل في صفوف المسلمين حتى لا ينتصروا على الكافرين.
فهم يخذلون أهل الإيمان عند الشدائد، وفي الجهاد، والغزو.
فيفضح الله تعالى تكذيبهم، وما يُقسِمون عليه بالإيمان أنهم مسلمون منَّا.
• قال تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 47 - 48].
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ [التوبة: 56].
 
• قال تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 167].
وسبب نزول هذه الآية: هو "أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلى غَزْوَةِ أُحُدٍ في ألْفِ رَجُلٍ مِن أصحابِهِ.
حَتَّى إذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمدِينَةِ وَأُحُدٍ، انْخَزَلَ (تراجع وتخاذل) عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ، أذكِّركم اللهَ أَلَّا تَخْذُلُوا قومكم ونبيّكم عِنْد مَا حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لَا نَرَى أَنَّهُ يَكُونُ قِتَالٌ.
قَالَ: فَلَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلَّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ، قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللهُ أَعْدَاءَ اللهِ، فَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ نَبِيَّهُ"[1].
فهؤلاءِ المنافقون كانوا يعلمون تمام العلم، ويوقنون تمام اليقين أن القتال لا محالة واقع، غير أنهم أرادوا تبرير مسلكهم السَّيِّئ.
في أنهم يُظهِرون خلاف ما يُبطِنون.
 
• قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154].
بعد غزوة أحد، وبعد أن قُتل من المسلمين ما يزيد على السَّبعين، ويُجرَح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَسيل دماؤه، ويُشاع قتله، يخرج هذا المنافق ليكون داعية للفشل والهزيمة ويقول: "هل لنا من الأمر شيء؟ أين ما وعدنا به من نصر من محمد وربه؟".
هم دعاة للفشل والفوضى، مثبِّطون لهمم المسلمين العالية، ليوهنوا العزائم، ويُضعفوا النفوس، ويُفرِّقوا الصفَّ ليكونوا عونًا للأعداء، ذلك حين تقع الهزيمة، ويمتحن بها المؤمنون، غير أن المؤمن القوي، الثابت في إيمانه، لا تزعزعه النكبات، ولا تضعفه البلايا والخطوب.
 
• وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [آل عمران: 156، 157].
كلمة نسمعها كثيرًا، قالها المنافقون الأوائل، ويقولها المنافقون في هذا الزمان ﴿ لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾، يريدون بلبلة الأفكار، وتثبيط همم الدعاة إلى الله، ودعوة منهم للهزيمة والاستسلام.
وعندها يُصغي إلى هذه الأقاويل مرضى القلوب، وضعاف النفوس من الأمهات والأخوات والأزواج...
مشهد مؤلم، لكن الله تعالى ردَّ على هذا القول الباطل ليطمئن المؤمنين، ويبشرهم بالمغفرة والرضوان، طالما كانوا يقاتلون في سبيل الله صادقين.
 
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168].
هي دعوةٌ، الهدف الرئيسي منها التثبيط، ليكون ذلك مدعاة لعدم خروجهم مرة ثانية، وسببًا في تمرُّدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والملتزمين والمتمسِّكين بهديه في كل زمان ومكان.
إنها دعوة للهزيمة والفرقة.
وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 72].
تثبيط وإرجاف قبل بدء المعركة: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾، وعقب عودة المسلمين من المعركة: ﴿ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾، وهذا كقولهم: ﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾، فهم يغتنمون أي فرصة في أي وقت للإحباط وإشاعة الفشل، وتثبيط الهمم.
وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [الأحزاب: 12، 13].
يريدون بأي شكل تعويق الأمة عن الجهاد في سبيل الله، وإشاعة الفشل.
أولًا بالقول: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ ﴿ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ﴾، وثانيًا بالفعل: ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾.
وقال تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 18].
وهذه الصفة من أهم آفات النِّفاق، فهي جزء من برنامج الطابور الخامس، الذين يعملون لحساب أعداء الأمة.
وانظر وتأمل دعاءهم ونداءهم للمجاهدين ليتمتعوا بالظلال والثمار والماء البارد.
وتزيين التقاعد لهم.
 
ومن هنا يتضح لنا كيف أن المنافقين كانوا يقومون بدور خطير لصالح الأعداء، سواء كان ذلك عن قصد منهم، أو دَفَعَهُم الحقد والحسد والرغبة في الانتقام، يشيعون الأقاويل التي تحطِّم الروح المعنوية للمجاهدين، يبغون من وراء ذلك قتل روح حبِّ الجهاد والشهادة في سبيل الله عز وجل، وترغيبهم في البقاء.
سبحان الله! فنٌّ في التعويق غريب وخطير، ولكن أنَّى لهم من سبيل في زعزعة عقيدة الموحِّدين، قد ينجحون في إيجاد الفرقة والانقسام، وإغراء ضعاف الإيمان، ولكن يفشلون بجهلهم أنهم سبب قدري في التمحيص والتصنيف حتى يرتدَّ مَن يرتدُّ، وينافِقَ مَن ينافِقُ، ويُداهِنَ مَن يداهِنُ، ثم تثبت الفئة المؤمنة، فيجعلها الله تعالى ستارًا لقدرته، وأداة لنصرة دينه في الأرض، ويمكِّن لهم، وينصرهم.
 
• ذلك فضل الله تعالى الذي كَلَأَ به دعوته، وتلك رحمته التي خَصَّت رسوله والمؤمنين من عباده.
هل كان للمسلمين أن ينتصروا إزاء تلك النكبات والتحديات التي أحاطت بهم في غزوة الأحزاب؟ هل كان لهم أن يتمتعوا بالحياة مرة أخرى بعد أن تألَّبت عليهم معظم قبائل العرب، وتحالف اليهود مع المشركين، وتنكَّروا للمسلمين؟
لكن الفضل لله تعالى، والمِنَّة منه سبحانه، والرحمة يختص بها من يشاء من عباده.
قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 9 - 11].



[1] السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق السقا (2 / 64).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣