إصلاح ذات البين


الحلقة مفرغة

الحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك والخلق، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، له الحمد، أعظم علينا المنة بالقرآن والسنة، ووفقنا برحمته للاتباع وعصمنا من الابتداع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون! اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

عباد الله! إن المؤمنين جسد واحد، وهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، فإذا مرض عضو من ذلك الجسد ولم يبادر بالإصلاح، أوشك أن يردى بقية الجسد، وإذا تهدم ركن من البنيان ولم يتم تشييده أوشك أن ينهار.

عباد الله! هناك مرض خطير إذا دب في المجتمع أوشك أن يقضي عليه، وهذا المرض هو فساد ذات البين، بما يقع من المشاكل والخلافات والتقاطع بين الأقارب والأزواج والجيران، وإنك لتسمع عجباً، تسمع التقاطع بين الأقارب بما يدوم أشهراً، وقد يصل إلى سنة، كل ذلك بأسباب تافهة، وقد يكون بأسباب مالية، كميراث ونحوه، وتسمع أيضاً التقاطع بين الأصدقاء والخلان، والتقاطع بين الجيران.

عباد الله! لقد أمر الله سبحانه بإصلاح ذات البين، فقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وذلك أولاً: لأن المؤمنين جسد واحد وكيان متماسك، فإذا انهدم منه ركن، أو اعتل منه جزء فسد حاله، وضعف شأنه، قال الله عزوجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103].

وثانياً: لأن قوة المسلمين دائماً في تماسكهم واتحادهم، وفشلهم في تفرقهم وانفراطهم، قال الله عز وجل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ولهذا كان الإصلاح بين المسلمين وإزالة ما بينهم من ضغائن من أعظم القربات وأجل الحسنات، روى أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؟ قال: قلنا: بلى! قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)، وفي رواية: (لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)، والله عز وجل يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114] ويقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، ويقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].

وكما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإصلاح فقد فعله بنفسه، ففي صحيح البخاري ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني عمرو بن عوف؛ لكي يصلح بينهم ).

معاشر المسلمين! إن إصلاح ذات البين هو السياج الواقي للأخوة الإسلامية، والدرع الحصين لوحدتهم وأمنهم، وفساد ما بين المسلمين هو الضياع، كما تقدم في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن فساد ذات البين هي الحالقة) أي: الماحية المزيلة لكل معاني الفضيلة والقوة.

بلغ من أهمية الإصلاح في الإسلام: أن أباح أخذ الزكاة من أجل أن يصلح بين الناس، ولو كان بين أهل الذمة، وشرع إبطال الأيمان والحنث فيها للقيام بالإصلاح، فإذا حلف على عدم القيام بالإصلاح فينبغي له أن يحنث في يمينه ويكفر ويزاول ما أحجم وحلف عليه، قال الله عزوجل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224]، وسبب نزول هذه الآية: أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات، من صلة الرحم أو إصلاح ذات بينٍ أو إحسان ٍإلى أحد، ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك عمل البر والخير، فقيل له: لا تجعل هذا الحلف مانعاً من عمل الخير والإصلاح بين الناس، وهذا لخطر ترك الإصلاح وفعل الخير بين المسلمين.

وأيضاً فإن الله عز وجل أباح الكذب للإصلاح بين المؤمنين، وسواءٌ كان ذلك الإصلاح عاماً أو خاصاً.

أما عن الإصلاح العام فإنه يكون في الأسر والجماعات والقبائل وما شابه ذلك.

وأما الإصلاح الخاص فهو بين الرجل وأخيه وصاحبه، وبين المرء وزوجه، وبين القريب وقريبه، وبين الرئيس ومرءوسه، وبين الأجير وصاحب العمل، إلى غير ذلك من الأمور الخاصة.

روى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة وكانت من المهاجرات، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً )، كأن يقول: إن فلاناً يذكرك بالخير، أو إن بني فلان يحبون لكم الخير، يقصد إزالة وغر الصدور وطرد الأحقاد وفتح مغاليق القلوب.

وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب والحرب خدعة، والرجل يكذب الرجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك)، رواه البخاري .

قال الخطابي رحمه الله تعالى: هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول، ومجاوزة الصدق؛ طلباً للسلامة، ودفعاً للضرر، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد، لما يؤمل فيه من الإصلاح الكبير، فالكذب في الحرب بين الأعداء أن يظهر في نفسه قوة، ويتحدث بما يقوي أصحابه ويكيد به عدوه.

وأما كذب الرجل على زوجته، فهو أن يظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها وألفتها، ويصلح به ما بينه وبينها، وكذلك يكون من المرأة لزوجها مثل ما قال لها.

عباد الله! إن عدم الإصلاح سبب لحصول التهاجر والتقاطع والتدابر، مما يترتب على ذلك شؤمه وإثمه على المتقاطعين والمتدابرين، وعلى من لم يسع بالإصلاح بينهما، روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس، فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرئ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجر أخاه فوق ثلاثٍ فمات دخل النار)، رواه أبو داود ، قال النووي رحمه الله تعالى: على شرط البخاري.

وروى حدرد بن أبي حدرد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هجر أخاه سنه فهو كسفك دمه) رواه أبو داود ، قال النووي رحمه الله تعالى: بإسناد صحيح.

وفي حديث أبي أيوب في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).

اللهم جنبنا أسباب الفرقة والخلاف والشقاق، وارزقنا الوحدة والاتفاق والإصلاح، يا ذا الجلال والإكرام.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الحمد لله رب العالين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله! إن على كل مسلم أن يسعى في الإصلاح، وأن يقوم بهذه الشعيرة، وأن يحقق هذه السنة، وأن يسعى في استلال وغر الصدور، وأن ينزع الأحقاد؛ لكي يحقق سنة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، ولكي ينال الأجر من الله عز وجل، وعلينا أن نحارب أسباب الفرقة والخلاف، فلا غيبة ولا نميمة، ولا تتبع للعورات، ولا حسد ولا بغضا ولا تدابر ولا تقاطع، ولا قسوة ولا بغياً على أحد، وإنما إخاء ومودة، وإحسان وتعاطف ورحمة، وتعاون على البر والتقوى، وستر للزلات، وتفريج للكربات، وصدق مع الله وصدق مع الناس، وأمانة وعفة وطهارة، فكل ذلك يثمر إصلاحاً ونوراً ومحبةً وإخاءً وعطفاً وشفقة.

عباد الله! وحينما نتجاوز الجانب النظري إلى الجانب العملي بالنسبة إلى الإصلاح بين الناس، يجد المسلم عجباً، فنجد متخاصمين في الطريق نتيجة لحادث مروري مثلاً، ولا نجد من يكلف نفسه ويقوم بالإصلاح بينهما، ونتجاوز ذلك إلى الأحياء، فتجد فيها من حالات الخلاف والخصام بين بعض الجيران، أو بين بعض الأزواج والزوجات، أو حتى بين الأشقاء، ومع ذلك يتسامع بها الكثيرون، ويتحدثون بها، ولا نجد من يحاول أن يصلح بين هؤلاء أو أولئك، إن هذا زهد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم بركة هذه الشريعة.

إننا بحاجة ماسة إلى إيقاظ الشعور بهذه الشعيرة العظيمة، ولو تعاون الجميع وقام كل مسلم مع إخوانه تجاه هذه الشعيرة لحصل في ذلك خيرٌ وبركة، ولاستراحت المحاكم والدوائر الأمنية في كثير مما تعاني من هذا النوع من الإشكال.

عباد الله! إذا سعي في الإصلاح حصل الخير والبركة، فمن بركة ذلك: الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: حصول الأجر عند الله عز وجل، ومن ذلك: القيام بحقوق المسلمين والأقارب والجيران، ومن ذلك: التباعد عن شؤم الفرقة والاختلاف، وإثم التقاطع والتهاجر، ومن ذلك: سلامة المجتمع من الاختلاف والتفرق، إلى غير ذلك من مصالح كثيرة.

فعلى المسلم كلٌ بحسبه، ومع إخوانه أن يجتهد في ذلك، وأن يتلمس أسباب الخلاف بين المتخالفين، وأن يسعى في الإصلاح بينهما.

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، وانصرهم على أعداهم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولات أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحه يا رب العالمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك.

ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا، ربنا ولا تحمل علينا أصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكفرين.