كيف تقضي الإجازة؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة يوم القيامة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتَرَكَنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عبـاد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: بعد أيام قليلة أو أقل من قليلة يستقبل كثير من الشباب والطلاب، وربما رتَّب بعضُ الموظفين حساباته من أجل أن يوافقهم في استقبال إجازة طويلة تحتاج برنامج عملي جاد وتطبيق نافع، وإلا فستعود على أصحابها بالوبال وضياع أوقاتهم فيما لا جدوى فيه ولا طائل تحته.

أيها الإخوة: الناس أمام الوقت أصناف:

فمنهم من يرى الوقت محنة؛ يبحث ويقلِّب في ألوان السبل للقضاء عليه ولقتله والتخلص من بياض نهاره وسواد ليله، فتراه يبحث عن مواقع اللهو ومواطن السياحة التي لم يفقه أو لم يعبأ أو لم يكترث بمآلها وعواقبها.

وآخرون ينظرون إلى الوقت غنيمة بكل ما تعنيه الغنيمة من معنى، فتحتاج إلى المبادرة بالاستفادة، وإلى الإعداد قبل الدخول فيها.

وأقوام تمر عليهم الأوقات يستوي فيها ليلها ونهارها، وجدها وهزلها، ونافعها وضارها، فهم كما قال القائل:

ولكنها عن قسوة القلب قحطها     فيا ضيعة الأعمار تمضي سَبَهْلَلا

أيها الأحبة في الله: إن هذه الإجازة هي قطعة من العمر، هي قطعة من الحياة والزمن، وكل يوم يمضي منها فهو مقرِّب إلى القبر والموت واللحد والنهاية والآخرة، فالعاقل ينظر إلى هذه الإجازة أنها مطايا تحثه وتسير به إلى آخرته؛ نعم قد يُسَرُّ البعض بحلول هلال شهره، وزوال بدر شهره، وهو كما قال القائل أيضاً:

يَسُرُّ المرء ما ذهب الليالي     وإن ذهابَهن له ذهابا

أيها الأحبة في الله: إن المتأمِّل في هذه الإجازة بعين البصيرة، وبمنطق الدليل، وهُدى الوحي من الكتاب والسنة، ليراها قطعة من عمره، وقطعة من حياته تقربه إلى الآخرة، فما تُراه صانعاً بقطعة من عمره؟!

أيقتل قطعة من عمره؟!

أيفني أياماً وليالي من حياته؟!

أيتخلص من فرصة قد أوتيها ليعمل فيها ويزرعها ويغتنمها؟!

أيتخلص منها حتى تنتهي بلا فائدة؟!

إن ذاك والله هو الغبن الفاحش الواضح البيِّن، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).

ومن تأمل حال المرضى والمشغولين، وَجَدَ الأصحاء والفارغين في نعمة، إما أنهم يستفيدوا منها أو يُغْبَنوا فيها.

انظر صحيحاً لم يجعل من صحته حظاً للصيام، ولم يجعل من قوته مكاناً للقيام والتهجُّد، ولم يجعل من عافيته سبباً لنفع الآخرين أو قضاء حاجاتهم، أو السعي إلى حِلَق الذكر ورياض الجنة، أو الجد في طلب العلم والدعوة إلى الله جل وعلا، أين مضى عُمُرُه؟ وأين ذهبت عافيتُه؟

وانظر إلى آخر لا شغل له؛ أيامه ولياليه مليئة بالساعات الفارغة فلم يصرف شيئاً منها فيما ينفعه في دينه أو دنياه، أو ينفع غيره بأي وجه من سبل النفع ومساعدة الآخرين: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ). ولذا جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتَنِمْ خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وخذ من نفسك لنفسك، ومن دنياك لآخرتك).

الفراغ الذي يقدم عليه كثير من الشباب والبنات والرجال والنساء وغيرهم إن لم يُعد له برامج ومشاريع لتملأه وإلا فستمضي بلا فائدة من أعمارهم.

لذا أيها الأحبة حري بكل واحد منا أن ينظر فيما يملؤ وقته وفيما يشغل فراغه، ولينظر ما هو البرنامج الذي اختاره، هل ينفعه في دينه؟ أو ينفعه في دنياه؟ أو ينفعه في الدنيا والآخرة؟

بعد هذه المقدمة اليسيرة ننتقل إلى طائفة قد ربطوا أمتعة السفر وتهيئوا بحجز وتذاكر إلى دول مختلفة لقضاء إجازة نهاية العام، وهم على أصناف:

فمنهم من لا برنامج له في السياحة إلا رؤية شلالٍ هادر، أو بحيرة واسعة، أو جبل تكسوه الخضرة، أو برج شاهق، أو بناية تنطح السحاب، أو مدنية متقدمة، وحضارة معاصرة، فلا حظ له من سياحته إلا هذا، فذاك -أيها الأحبة- الواقع والعقل والمنطق شهود عليه أنه يخسر أكثر مما يربح، إذ أن كثيراً من البلاد التي توجد بها تلك المشاهد، وتقع بها تلك المواقع الغالب على كثير منها الإباحية والانحلال والتبرج والسفور، وسبل الخنا متاحة، وأبواب الدعارة مُشْرَعَة، والأزقة العامة مليئة بمن يتاجرون بلحوم الفساد والعياذ بالله.

وطائفة يسافرون: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11] يقولون: نسافر للسياحة، وهم أقرب إلى الوقوع في الفساد من السيل إلى منحدره، يقولون بألسنتهم: نسافر لأجل السياحة، فإذا خلوا في فنادق الدرجة الأولى أو الشقق المفروشة أو الأماكن المشهورة التي يعرفها بعضهم أو كثير منهم لم يتمالك نفسه أمام عَرض رخيص، أو فتنة بشعة، أو بين يدي مشهد يهز مشاعر الفساد في النفس، ويدعو النفس إلى الوقوع في الفاحشة، والله جل وعلا يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].

اسأل بعض الذين ذهبوا وسافروا وطاروا وارتحلوا، قل لواحد منهم -إن أعطاك لحظة من الصراحة معك-: لماذا تسافر؟ فهل قال: سافرت لأجل الزنا؟! أو قال: سافرت لأجل الخنا؟! أو قال: سافرت لأجل اللحوم العارية؟! لا، وإنما قال: سافرت للسياحة، سافرت للاستطلاع، سافرت لرؤية كذا وكذا.

ووالله لو أن عبداً من عباد الله لم يعرف عن الأبراج حرفاً، ولم يعرف عن الشلالات كلمة، ولم يعرف عن البحيرات جملة، ولم يعرف عن الجبال نثراً، ولم يعرف عن الطبيعة شعراً، ما ضره ذلك يوم يلقى الله جل وعلا، ولن يحاسبه الله أو يقال له: يا عبد الله، لماذا لم تعرف جزر هاواي ، أو الشلالات الهادرة، أو البحيرات الواسعة، أو الجبال المكسية بالخضرة، ولكن: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فِيْمَ أفناه؟ وعن شبابه فِيْمَ أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفِيْمَ أنفقه؟).

السياحة تلك الكلمة التي هي نوع فسادٍ يتربع الجرائد والمجلات فلا يستطيع البعض أن ينكره!

السياحة بوابة من بوابات الخنا!

السياحة بوابة من بوابات الدعارة!

السياحة بوابة من بوابات إثراء الاقتصاد الغربي، ودعم الدول التي تؤذي المسلمين وتضطهدهم!

السياحة بوابة من بوابات تضييع أوقات المسلمين وأبنائهم!

وليست السياحة بجميع جوانبها، بل السياحة في ذاك النوع الذي تحدثنا عنه آنفاً.

نعم أيها الأحبة، إن كثيراً ينفقون تحت دعوى السياحة مئات الآلاف أو عشراتها!

ويقال لأحدهم: إن مرضعة صومالية ورضيعاً أشبه بالهيكل العظمي، عَظْمٌ يتربع على عظم أمه ويمص ثدياً لا قطرة من الحليب فيه، فيقال لأحدهم: ائتِ أو أعطِ أو ابذل من أموال سياحتك لهؤلاء الفقراء، فيقول: لا، هكذا قدر الله عليهم.

قد يمعن الله بالبلوى وإن عَظُمَتْ     ويبتلي الله بعض القوم بالنِّعَمِ

أما يـخشون الله؟! أما يـخافون الله؟! أما يعلمون أن الليالي دول والدهر قُلَّب؟! وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] ينفق أحدهم على علبة المشروبات الغازية خمسة ريالات في الوقت الذي لا تساوي فيه ريالاً واحداً، ولو قيل له: ابذلوا قيمة هذا لمرضعاتٍ وأطفال رُضَّع قد بلغوا من الجوع والعطش مبلغاً؛ لم يبالِ ولم يكترث، وما موت البهائم على قارعة الطريق وموت إخوانه في أرض المجاعة إلا بميزان واحدٍ أو مقياس واحد.

وآخر يقال له: آلافك هذه تكفل مئات الدعاة في الفليبين، أو في القارة الخضراء في أفريقيا، الداعية يُكْفَل في السنة الواحدة بألف ومائتي ريال. فلأَنْ تبذل هذا المال لوجه الله جل وعلا بدلاً من أن يُبْذل المال لفنادق يهودية أو شركات سياحية تعود ملكياتها إلى علمانيين فجرة أو غربيين كفرة، تجده متردداً! تهون الآلاف في الفنادق وفي البرامج السياحية لكنها صعبة شديدة عظيمة ثقيلة يوم أن يقال له: ابذل بعض هذه الآلاف لكفالة الدعاة إلى الله جل وعلا.

وهذا مثال، واللبيب بالإشارة يفهم، وعلى هذا فقِس، ولا تعييك المسائل لكثرة الشواهد والوقائع فيما تراه من واقعك.

أيها الأحبة: نقول لأولئك الذين يهمون بالسفر وقولوا لهم أنتم أيضاً: أنتم أدرى بأنفسكم: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] وما يعرف صراحة الإنسان أحد كمعرفته صراحة نفسه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15] حتى لو أظهر أو أعذر أو صنع أو لفق أو جَمَّع من الأعذار والأقوال، هو أدرى بنفسه؛ هل سافر لأجل أفلام خليعة، أو لمناظر مجردة؟! هو أدرى بنفسه.

من كان هذا همه فليتذكر أن أناساً سافروا أشداء أقوياء وعادوا جنائز في التوابيت، وليتذكروا أن بعضهم سافر مبصراً وعاد كفيفاً، وبعضهم سافر نشيطاً وعاد معوقاً مشلولاً، وبعضهم عاد بكثير من الذنوب والأوزار والسيئات مريضاً، وربما كانت نهايته في سوء خاتمته وسوء مآله وغايته ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وليتذكر أن عليه من الشهود ما لا يحصى، فأرض وطئها تشهد عليه، وملائكة كرام كاتبون يشهدون عليه، وجارحة عصى الله بها تشهد عليه، والخلق شهود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد عليه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] وقبل ذلك وبعده شاهد عليه مَن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] شاهد عليه مَن يعلم كل دقيق وجليل، من يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.

قولوا هذا لمن علمتموه تعود السفر للتبذير وصرف المال هناك بلا فائدة، وبلا غاية وحاجة.

قولوا لمن علمتموه تعود السفر بلا غاية وحاجة: ...

أيها الأحبة: نقول لأولئك الذين يهمون بالسفر وقولوا لهم أنتم أيضاً: أنتم أدرى بأنفسكم: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] وما يعرف الإنسان صراحة أحد كمعرفته صراحة نفسه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15] حتى لو أظهر أو أعذر أو صنع أو لفق أو جَمَّع من الأعذار والأقوال، هو أدرى بنفسه؛ هل سافر لأجل أفلام خليعة، أو لحوم رقيعة، أو لمناظر مجردة؟! هو أدرى بنفسه، من كان هذا همه فليتذكر أن أناساً سافروا أشداء أقوياء وعادوا جنائز في التوابيت، وليتذكروا أن بعضهم سافر مبصراً وعاد كفيفاً، وبعضهم سافر نشيطاً وعاد معوقاً مشلولاً، وبعضهم عاد بكثير من الذنوب والأوزار والسيئات مريضاً، وربما كانت نهايته في سوء خاتمته وسوء مآله وغايته ولا حول ولا قوة إلا بالله! وليتذكر أن عليه من الشهود ما لا يحصى، فأرض وطئها تشهد عليه، وملائكة كرام كاتبون يشهدون عليه، وجارحة عصى الله بها تشهد عليه، والخلق شهود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد عليه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] وقبل ذلك وبعده شاهد عليه: مَن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء، شاهد عليه: مَن يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] شاهد عليه: مَن يعلم كل دقيق وجليل، من يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.

قولوا هذا لمن علمتموه تعود السفر للتبذير وصرف المال هناك بلا فائدة، وبلا غاية وحاجة.

كيف يهنأ لمسلم سياحة

كيف يهنأ لمسلم مُنْتَجَع؟!

وكيف يهنأ لمسلم سياحة وهو يعلم أن الأعراض في البوسنة تُنْتَهَك، يتعاقب الصرب على فرج الفتاة العذراء الصغيرة؟!

وكيف تهنأ السياحة والجياع يموتون في الصومال جوعاً؟!

وكيف تهنأ السياحة والمسلمون في الفليبين الآن في كتباتو وفي مراوي يواجهون حرباً شعواء ضروساً من النصراني راموس ؟!

السياحة كيف تهنأ بها والفتن محيطة حتى ببلادنا هنا؟!

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ

من كان يقول: إن واقعنا اليوم كواقعنا قبل سنتين فقط فلا حظ له من الفهم والوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي: (انتهى وقت النوم يا خديجة).

قال امرؤ القيس لما قُتل أبوه: اليوم خمر وغداً أمر. انتهى هذا العبث، وانتهى ذاك اللهو، وقد آن لنا أن نعمل، وآن لنا أن نجد، وآن لأفعالنا أن تنطق ولو سكتت ألسنتنا.

صامت لو تكلما     لفظ النار والدما

وأخو الحزم لم يزل     يده تسبق الفما

لا تلوموه قد رأى     منهج الحق أظلما

وبلاداً أحبها     ركنُها قد تهدما

وطغاةً ببغيهم     ضجت الأرض والسما

كيف تهنأ السياحة والأبرار الأحرار، الأتقياء الأوفياء الأصفياء خلف القضبان في السجون والزنازين في بلاد تدَّعي الإسلام وقد ملئت سجونها بعشرات الآلاف من المسلمين.

أيها الأحبة: إن القضية والمأساة والأزمة إنما هي في القلوب، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]. (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).

فإلى أولئك الذين قد أعدوا عدة السفر نقول: أحبابنا! اتقوا الله، إخواننا! راقبوا الله، إخواننا! أربعوا على أنفسكم ففينا وفيكم من الذنوب والعيوب والزلات والهفوات ما الله به عليم، فلا حاجة أن تطفح الموازين بمزيد من الذنوب والمعاصي.

نقول لأولئك الذين جمعوا ريالاً مع آخر، وديناراً مع آخر: اصرفوها وابتغوا بها وجه الله تنفعكم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

وما نهاية عبدٍ جوَّال؟! ما من شلال إلا وتمتع بالنظر إليه، أو جبل إلا وأكل وجبة على سفحه، أو سهل إلا وتناول شراباً على خضرائه، أو بحيرة إلا وتناول الشاي على أطرافها، أو بحر إلا وأبحر بزورق في أمواجه، ما هي نهايته؟ نهايته اللحد كنهاية مَن لم يعرف في السياحة ألفاً ولا باءً، مادامت النهاية هي اللحود فاعمل لدار البقاء.

فاعمل لدار غداً رضوان خازنها     الجار أحمد والرحمن بانيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها     إلا التي كان قبل الموت يبنيها

ابنِ ما شئت، واشترِ ما شئت، وعَمِّر ما شئت، فليست تلك بدورك، وليست بقصورك، وليست بمنازلك، إنما منـزلك البرزخي لحد طوله متران وعرضه شبران، هذا هو بيتك، وهذا هو مآلك، وهذا هو مصيرك، ولو كنت ضابطاً مرموقاً فلن يُدفن جندي معك، ولو كنت رئيساً عظيماً فلن يُدفن خادم معك، ولو كنت ثرياً كريماً فلن يُدفن دينار معك، ولو كنتَ مَن كنتَ فلن يُدفن معك ولن يؤنِّسك إلا عملُك الصالح.

بعد هذه الجولة الطويلة في الدنيا بأبعادها وجنباتها يموت ابن آدم، وفي نهاية الرحلة يودعه ويشيعه ثلاثة: عمله، وماله، وولده، فيرجع ماله وولده ويبقى عمله، فاعمل لنفسك.

أيها الأحبة: نقول لأولئك الذين يهمون بالسفر وقولوا لهم أنتم أيضاً: أنتم أدرى بأنفسكم: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] وما يعرف الإنسان صراحة أحد كمعرفته صراحة نفسه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15] حتى لو أظهر أو أعذر أو صنع أو لفق أو جَمَّع من الأعذار والأقوال، هو أدرى بنفسه؛ هل سافر لأجل أفلام خليعة، أو لحوم رقيعة، أو لمناظر مجردة؟! هو أدرى بنفسه، من كان هذا همه فليتذكر أن أناساً سافروا أشداء أقوياء وعادوا جنائز في التوابيت، وليتذكروا أن بعضهم سافر مبصراً وعاد كفيفاً، وبعضهم سافر نشيطاً وعاد معوقاً مشلولاً، وبعضهم عاد بكثير من الذنوب والأوزار والسيئات مريضاً، وربما كانت نهايته في سوء خاتمته وسوء مآله وغايته ولا حول ولا قوة إلا بالله! وليتذكر أن عليه من الشهود ما لا يحصى، فأرض وطئها تشهد عليه، وملائكة كرام كاتبون يشهدون عليه، وجارحة عصى الله بها تشهد عليه، والخلق شهود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد عليه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] وقبل ذلك وبعده شاهد عليه: مَن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء، شاهد عليه: مَن يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] شاهد عليه: مَن يعلم كل دقيق وجليل، من يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.

قولوا هذا لمن علمتموه تعود السفر للتبذير وصرف المال هناك بلا فائدة، وبلا غاية وحاجة.

كيف يهنأ لمسلم مُنْتَجَع؟!

وكيف يهنأ لمسلم سياحة وهو يعلم أن الأعراض في البوسنة تُنْتَهَك، يتعاقب الصرب على فرج الفتاة العذراء الصغيرة؟!

وكيف تهنأ السياحة والجياع يموتون في الصومال جوعاً؟!

وكيف تهنأ السياحة والمسلمون في الفليبين الآن في كتباتو وفي مراوي يواجهون حرباً شعواء ضروساً من النصراني راموس ؟!

السياحة كيف تهنأ بها والفتن محيطة حتى ببلادنا هنا؟!

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ

من كان يقول: إن واقعنا اليوم كواقعنا قبل سنتين فقط فلا حظ له من الفهم والوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي: (انتهى وقت النوم يا خديجة).

قال امرؤ القيس لما قُتل أبوه: اليوم خمر وغداً أمر. انتهى هذا العبث، وانتهى ذاك اللهو، وقد آن لنا أن نعمل، وآن لنا أن نجد، وآن لأفعالنا أن تنطق ولو سكتت ألسنتنا.

صامت لو تكلما     لفظ النار والدما

وأخو الحزم لم يزل     يده تسبق الفما

لا تلوموه قد رأى     منهج الحق أظلما

وبلاداً أحبها     ركنُها قد تهدما

وطغاةً ببغيهم     ضجت الأرض والسما

كيف تهنأ السياحة والأبرار الأحرار، الأتقياء الأوفياء الأصفياء خلف القضبان في السجون والزنازين في بلاد تدَّعي الإسلام وقد ملئت سجونها بعشرات الآلاف من المسلمين.

أيها الأحبة: إن القضية والمأساة والأزمة إنما هي في القلوب، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]. (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).

فإلى أولئك الذين قد أعدوا عدة السفر نقول: أحبابنا! اتقوا الله، إخواننا! راقبوا الله، إخواننا! أربعوا على أنفسكم ففينا وفيكم من الذنوب والعيوب والزلات والهفوات ما الله به عليم، فلا حاجة أن تطفح الموازين بمزيد من الذنوب والمعاصي.

نقول لأولئك الذين جمعوا ريالاً مع آخر، وديناراً مع آخر: اصرفوها وابتغوا بها وجه الله تنفعكم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

وما نهاية عبدٍ جوَّال؟! ما من شلال إلا وتمتع بالنظر إليه، أو جبل إلا وأكل وجبة على سفحه، أو سهل إلا وتناول شراباً على خضرائه، أو بحيرة إلا وتناول الشاي على أطرافها، أو بحر إلا وأبحر بزورق في أمواجه، ما هي نهايته؟ نهايته اللحد كنهاية مَن لم يعرف في السياحة ألفاً ولا باءً، مادامت النهاية هي اللحود فاعمل لدار البقاء.

فاعمل لدار غداً رضوان خازنها     الجار أحمد والرحمن بانيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها     إلا التي كان قبل الموت يبنيها

ابنِ ما شئت، واشترِ ما شئت، وعَمِّر ما شئت، فليست تلك بدورك، وليست بقصورك، وليست بمنازلك، إنما منـزلك البرزخي لحد طوله متران وعرضه شبران، هذا هو بيتك، وهذا هو مآلك، وهذا هو مصيرك، ولو كنت ضابطاً مرموقاً فلن يُدفن جندي معك، ولو كنت رئيساً عظيماً فلن يُدفن خادم معك، ولو كنت ثرياً كريماً فلن يُدفن دينار معك، ولو كنتَ مَن كنتَ فلن يُدفن معك ولن يؤنِّسك إلا عملُك الصالح.

بعد هذه الجولة الطويلة في الدنيا بأبعادها وجنباتها يموت ابن آدم، وفي نهاية الرحلة يودعه ويشيعه ثلاثة: عمله، وماله، وولده، فيرجع ماله وولده ويبقى عمله، فاعمل لنفسك.

وكلمة مودة وعتاب، وهمسة صراحة نقولها لأولئك الذين يسافرون بالنساء والبنات، بالزوجات والأمهات، والصغيرات والكبيرات، ويرون أن هذا صورة من صور التقدم والوعي والمدنية والحضارة: ما ضَرَّ أَمَةً من إماء الله عفيفة شريفة حيية متحجبة تغض طرفها، لا تخضع بصوتها.. ما ضرها أنها لم تعرف شيئاً عن تلك البلدان، ولكن ضَرَّ فتاة من إماء الله أن رأت مشهداً احتقرت به زوجها، أو رأت صورة أبغضت فيه بلادها، أو جلست مجلساً كرهت فيه دينها، أو ارتكبت ما حرم الله عليها، أو عادت إلى بلادها وكأنها تعود من حرية السماء إلى سجن الأرض.

إن كثيراً من الناس يجنون على بناتهم ونسائهم، ولا تقولوا: لن يقع.. فقد وقع، والشواهد كثيرة، أناس ينهون عن الحق وينأون عنه، لا يكتفون في سياحتهم بفساد أنفسهم بل يسافر الواحد منهم ثم تنتهي الرحلة مع الأهل والزوجة والأسرة في مطار لندن أو باريس ، ثم يشق طريقاً منفرداً له، وتشق الأسرة طريقاً آخر منفرداً لها، فلا تسأل عما يفعل، ولا تسل عما يفعلون أو يُفعَل بهم!

أيها الأحبة! نقولها وقلوبنا يعتصرها الأسى غيرةً وحباً وشفقةً لإخواننا الذين ضاقت بلاد التوحيد بأطرافها أن تستوعب مراح قلوبهم وفساح أفئدتهم؛ لكي يبحثوا عن السياحة في بلدان أخرى، فلنكن صرحاء:

إن كانت السياحة بحراً؛ ففي بلادنا بحار.

وإن كانت السياحة جبلاً؛ ففي بلادنا جبال.

وإن كانت السياحة رملاً؛ ففي بلادنا رمال.

وإن كانت السياحة هواءً عليلاً ومواقع في جبال شاهقة؛ ففي بلادنا كذلك.

وإن كانت السياحة خلاعة تُعْرَض، أو خموراً يؤذن بها، أو دعارةً مقننة، أو سينما يحميها النظام والقانون؛ فهذا هو بيت القصيد!

والآن جاءت المسألة!

من أراد السياحة فليسأل نفسه؛ إن كان جاداً يريد أن يغير شيئاً من مكانه فسيجد بنصف تكلفة سفره داخل بلاده إن شاء في الشمال أو في الجنوب وإن شاء في الشرق أو الغرب؛ لكن لن يرى صليباً يُعْبَد، ولن ينقطع الأذان عن مسمعه، ولن يرى فواحش جهاراً نهاراً، أو كبائر إلا الربا، فأقول: خير لك أن تقضي سياحة إجازتك أو إجازة سياحتك في حدود بلدك، ففيها إثراء للقوة الاقتصادية في الداخل، وفيها حفظ لدينك ولدنياك، وحفظ لأهلك ولزوجتك، ولعل إقدام الكثيرين على السياحة داخل بلادهم يجعل المسئولين يعملون جادين في تطوير برامج السياحة في الداخل بما لا يحدث فتنة أو ينشر فساداً.

وأنتقل بعد ذلك إلى السائحين الراكعين العابدين؛ فريق لهم في الإجازة سياحة، ولكنها سياحة الجهاد والدعوة، يخرجون في سبيل الله ولوجه الله، ابتغاء مرضاة الله؛ فيبحثون عن المساجد التي لم يُلتفت لها فيعطون أهل المساجد وعُمَّارها ما جمعوه طيلة هذه الأشهر، ويعلِّمونهم القرآن، ويعلِّمونهم أحكام الصلاة، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويدعونهم إلى كل فضيلة، ويحذرونهم من كل رذيلة، إن وجدوا قبراً أنكروه ولا زالوا بأصحابه حتى ينقلوه أو يهدموه، إن وجدوا بدعة اجتهدوا في بيان مخالفتها للسنة، إن وجدوا منكراً تلطفوا في إزالته حتى يثبِّتوا إخوانهم في تلك البلاد.

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر

نقول: هنيئاً لهم ما فعلوه ويفعلون، ونقول: (إن الأقربين أولى بالمعروف).

فما الذي يمنع أيضاً أن تكون السياحة أو حظ السياحة بحدود بلدك التي رأينا وتعلمون أن فيها أناساً بعضهم لا يحسن الفاتحة، فما الذي يضير شباب الإسلام الذين يحبون التجوال والتطواف والتسيار أن يخرجوا فئاماً وجماعات صغيرة ينطلقون إلى حدود مملكتهم وحدود بلادهم فيخيموا في كل منطقة يحلون بها خمسة أيام يتعرفون على أهل الحي عبر المسجد، يتعرفون على الإمام يعطونه الكتب والأشرطة، وعلى المؤذن، ويتجولون في القرى والهِجَر، وفي تلك المواطن والمضارب، يجمعون الناس ويذكرونهم بالجنة، ويخوفونهم من النار، ويخبرونهم عن مخططات أعداء الإسلام، فإن بلادنا بحاجة كما أن تلك المراكز والمساجد الإسلامية البعيدة بحاجة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2664 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2652 استماع
توديع العام المنصرم 2647 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2552 استماع
من هنا نبدأ 2495 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2461 استماع
أنواع الجلساء 2460 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع
إلى الله المشتكى 2436 استماع