أرشيف المقالات

فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

الصَّديقُ عُمدة الصَّديق وعُدَّتُه، ونصرتُه وعُقدتُه، وربيعُه وزَهرتُه، ومُشْترِيه وزُهرتُه، ومَثل الصَّديقين كاليد تستعينُ باليد، والعينِ بالعين، والحاجةُ إلى الأخ المُعين، كالحاجة إلى الماء المَعين[1].
 
وفي معاشرة الأخ لأخيه قد تظهر له أمورٌ لا يرتضيها، وقد يَبلُغُه أشياءُ يأخذ بها صاحبَه مع أن له عذرًا فيها، فلا يقبلُ منه اعتذارًا، ولا يناصحُه إعذارًا، بل يَقْطعه على ارتياب، ويهجرُه دون استِعْتاب.
 
ومن عجائب إخوة هذا الزمان: أن يغضبَ الأخ من أخيه - لأمرٍ شخصي - فيقاطعَه، ثم كي يبرِّرَ لنفسه الهَجْر والقطيعة، يبحثُ في أخيه عن ذنب ((يعتادُهُ الفَيْنَةَ بعد الفَيْنَةِ، أو ذَنْب هو مُقِيمٌ عليه))، فيقول لنفسه: إنما هجرتُه لله!
 
يا مسكينُ، ألم يكن فيه هذا الذنبُ من قبلُ وأنت تضاحكُه وتمازحُه؟!
فلمَ الآن؟!

قالت الحكماء:
مما يجب للصَّديق على الصديق الإغْضاءُ عن زلاَّتِه، والتَّجاوزُ عن سيِّئاتِه، فإن رجع وأعتب وإلا عاتبتَه بلا إكثارٍ؛ فإن كثرةَ العتاب مَدْرجةٌ للقَطِيعة.
 
وقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لا تَقْطعْ أخاك على ارتياب، ولا تهجرْه دون استعتابٍ".
 
وقالوا: معاتبةُ الأخ خيرٌ من فَقْدِه[2].
تَأَنَّ وَلا تَعْجَلْ بِلَوْمِكَ صَاحِبًا     لَعَـلَّ لَهُ عُذْرًا وَأَنْتَ تَلُومُ
 
قال ابن المقفَّع:
"اجعل غايةَ تشبُّثِكَ في مؤاخاةِ مَن تؤاخي، ومواصلةِ من تواصلُ: توطينَ نفسِكَ على أنه لا سبيلَ لكَ إلى قطيعةِ أخيكَ، وإن ظهر لكَ منهُ ما تكرهُ؛ فإنهُ ليس كالمملوكِ تُعتِقُه متى شئتَ، أو كالمرأة التي تُطلِّقُها إذا شئتَ؛ ولكنهُ عِرْضُكَ ومروءتُكَ؛ فإنما مروءةُ الرجلِ إخوانُه وأخدانُه، فإن عثر الناسُ على أنكَ قطعتَ رجُلاً من إخوانكَ، وإن كنتَ مُعذِرًا، نزلَ ذلك عند أكثرهم بمنزلةِ الخيانةِ للإخاءِ والمَلالِ فيهِ"[3].
 
قال بشَّار:
إذا كنتَ في كـل الأمـور معاتـبًا        صديقَـك لم تلـقَ الذي لا تعـاتبُهْ
وإن أنت لم تشرب مرارًا على القذى       ظمـئتَ، وأيُّ الناس تصفو مشاربُهْ؟!
فعِشْ واحـداً أو صِـلْ أخـاك فإنه       مقـارف ذنـبٍ مـرّة ومُجـانبُهْ
 
وقال آخر:
وَمَن ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا          كَـفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَـايِبُهْ!
 
وانظر إلى هذا الموقف الذي يستحقُّ أن يُكتَبَ بماء الذهب وتأمَّلْه:
قال أبو محمد الزهري: كان لثعلب عزاءٌ ببعضِ أهله، فتأخرتُ عنه؛ لأنه خفِيَ عني، ثم قصدتُه معتذرًا.
فقال لي: يا أبا محمد، ما بك حاجةٌ إلى أن تتكلَّفَ عُذرًا؛ فإن الصديقَ لا يُحاسَب، والعدو لا يُحتَسب له[4].
 
بل هذا أمر الله تعالى لنا في كتابه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
 
قال ابن كثير:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾؛ أي: اتقوا اللهَ في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تَظالَموا، ولا تخاصَموا، ولا تشاجروا؛ فما آتاكم اللهُ من الهدى والعِلم خيرٌ مما تختصمون بسببه[5].
 
وقال صاحب "رُوح البيان":
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾؛ أي: اتقوا باللهِ عن غير الله، وأصلحوا ما بينكم من الأخلاقِ الرَّديئة، والهِمَمِ الدَّنيئة، وهي الحرصُ على الدنيا، والحسدُ على الإخوان، وغيرهما من الصفاتِ الذَّميمة التي يُحجَب بها نورُ الإيمان عن القلوب.
 
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ بالتسليمِ لأحكامهما، والائتمارِ بأوامرهما، والانتهاء عن نواهيهما.
 
﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ تحقيقًا لا تقليدًا؛ فإن المؤمنَ الحقيقيَّ هو الذي كتب اللهُ بقلم العناية في قلبه الإيمانَ، وأيَّده برُوحٍ منه؛ فهو على نورٍ من ربه.
 
واعلم أن شأنَ نور الإيمان أن يُرِقَّ القلبَ، ويصفِّيَه عن كدوراتِ صفات النفس وظلماتها، ويُلِين قسوتَه؛ فيَلِينَ إلى ذكر الله، ويجدَ شوقًا إلى الله[6].
 
وقال في "أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير":
فاتقوا الله - تعالى - بترك النِّزاع والشِّقاق، ﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ بتوثيق عُرَى المحبة بينكم، وتصفيةِ قلوبكم من كل ضغن أو حقد...
﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ في كلِّ ما يأمُرانِكم به، وينهيانِكم عنه، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ حقًّا؛ فامتثلوا الأمرَ، واجتنبوا النَّهْيَ[7].
 
وهذه طائفة من أحاديث المصطفى تبيِّنُ عِظَمَ أمرِ صلاح ذاتِ البيْنِ، وخطَرَ فسادِها:
♦ عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أنبِّئُكم بدرجةٍ أفضلَ من الصلاة والصيام والصدقة))، قالوا: بلى، قال: ((صلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وفسادُ ذاتِ البَيْن هي الحالقةُ))؛ الأدب المفرد، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
 
♦ وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنةَ حتى تُسْلِموا، ولا تُسْلِموا حتى تحابُّوا، وأفْشُوا السلامَ تحابُّوا، وإياكم والبغضةَ؛ فإنها هي الحالقةُ، لا أقول لكم: تحلِقُ الشَّعر، ولكن تحلقُ الدِّين))؛ الأدب المفرد، وقال الشيخ الألباني: حسن لغيره.
 
♦ وعن الزبير بن العوام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دبَّ إليكم داءُ الأمم؛ الحسدُ والبغضاء، هي الحالقةُ، لا أقول: تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أنبِّئُكم بما يثبتُ ذاكم لكم؟ أفشوا السلامَ بينكم))؛ الترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وقال الشيخ الألباني: حسَن.
 
♦ وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَقَاطعوا، ولا تَدَابروا، ولا تبَاغَضوا، ولا تحاسَدوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاث))؛ متفق عليه.
 
♦ وعن أبي أيوبَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاثِ ليالٍ، يلتقيانِ فيُعْرِض هذا، ويُعْرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام))؛ متفق عليه.
 
♦ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعْرَض الأعمالُ في كل اثنين وخميسٍ، فيغفر اللهُ لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيقول: اتركوا هذينِ حتى يصطلِحا))؛ رواه مسلم.
 
♦ وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطانَ قد يئس أن يَعبُدَه المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريشِ بينهم))؛ رواه مسلم.
((التحريش)): الإفساد، وتغيير قلوبهم، وتقاطُعهم.
 
♦ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجر فوق ثلاثٍ فمات، دخل النار))؛ رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاريِّ ومسلم.
 
♦ وعن أبي خراشٍ حدرد بن أبي حدردٍ الأسلميِّ - ويقال: السلمي - الصحابيِّ - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من هجر أخاه سنةً فهو كسفكِ دمِه))؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح.
 
♦ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُّ لمؤمنٍ أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاثٍ، فإن مرَّتْ به ثلاثٌ، فلْيَلقَهُ فليُسلِّمْ عليه، فإن ردَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردَّ عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّمُ من الهجرةِ))؛ رواه أبو داود بإسناد حسن.
 
ربَّنا لا تجعل في قلوبِنا غلاًّ للذين آمنوا، وأصلحْ ذاتَ بيننا، وألِّفْ بين قلوبنا، واجمعنا في الجنَّةِ بإخواننا.
 
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.



[1] مجاني الأدب في حدائق العرب (3/ 121).


[2] العِقد الفريد (2/ 163).


[3] الأدب الصغير والأدب الكبير (1/ 104).


[4] نشوار المحاضرة (5/ 238).


[5] تفسير ابن كثير، ط/ العلمية (4/ 8).


[6] تفسير روح البيان (3/ 238).


[7] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (2/ 284).

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن