خطب ومحاضرات
الربا [1]
الحلقة مفرغة
إن الحمد الله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خيرٍ إلا دلنا عليه، وما علم من سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، واتقوا الله جل وعلا في كل وقتٍ وفي كل لحظة، وفي كل فعلٍ وقولٍ وعمل، فإن الله جل وعلا ما خلقكم إلا تعبدوه، وما خلق الخلائق أجمعين ليستعز بهم من ذلة، أو ليستكثر بهم من قلة، فهو الغني الحميد سبحانه لا إله إلا هو وهو على شيءٍ قدير.
معاشر الأحباب: يقول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
معاشر الأحباب: إن المتأمل لكتاب الله جل وعلا ليجد أن الله سبحانه وتعالى عَظَّمَ جانب الربا في شأن من يتعامل به، وخطورة مآله وحاله، فإنه خطرٌ عظيم، وشرٌ جسيم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ولذلك فقد جاء في آخر سورة البقرة فصلاً مطولاً في شأن الربا، والله جل وعلا يوم أن قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] أي: يوم القيامة، أكلة الربا لا يقومون إلا كما يقوم المصروع الذي يتخبطه الجن والشياطين، وذلك بما أثقل نفسه به من المال الحرام، فإنه عند ذلك لا يستطيع النهوض إلى الحشر إلا بمدافعة نارٍ تلحقه، وكما جاء في الأثر: (يوم أن ينفخ في الصور ويحشر العباد وينفرون، فإن أكلة الربا كلما قاموا سقطوا على وجوههم، وصرعوا على جنوبهم) فشأن الربا عظيمٌ وخطره جسيمٌ جداً يا عباد الله! ولعل من عظيم قول الله جل وعلا فيه، ومن عظيم التهديد والوعيد في شأنه أن الله سبحانه لم يجعل له عقوبةً حسيةً معينة، أي: كالحدود والقصاص والرجم وغيرها، وإنما توعد آكله بحربٍ منه، وتوعد متعامله بحربٍ من رسوله، وما شأن مسلمٍ يحاربه الله ورسوله فهل تبقى له قائمة؟! وهل يكون له في الخير نصيب بعد أن حاربه الله ورسوله؟!
في الحديث: (إذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين إلا أهل الربا، كلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم) وذلك يا معاشر المتقين! بما أثقلوا بطونهم به من المال الحرام، ولقد جاء في حديث المعراج: (أنه صلى الله عليه وسلم لما عُرج به رأى رجالاً بطونهم بين أيديهم كالبيوت فيها حيات وعقارب ترى من ظاهر بطونهم، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هم أكلة الربا).
معاشر المؤمنين: لا شك أن الربا سحرٌ يغري المتعامل به، ويغري صاحب المال أن يقع فيه؛ وذلك لأنه في هذا الزمان تيسرت سبل التعامل به، وتيسر أسباب الربح فيه، إذ أن الكثيرين يرون أن من مصالحهم أن يودعوا أموالهم أو ما يسمونه أرصدتهم في بنكٍ من البنوك التي تدفع فائدة سنوية عليها، فيجد أن ماله يتضاعف، ويجد أن ماله يتكاثر، وهو قابع قاعدٌ في بيته، لا شك أن هذا سحرٌ يغري كثيراً من ضعفاء الإيمان واليقين من الذين لا يرعون أمر الله ونهيه، يغريهم بأن يتعاملوا بأموالهم على هذا الشأن.
ولا شك يا عباد الله! أن أسلوب التعامل بالمال على هذا النحو يوقع المجتمعات في كارثة اقتصادية، إذ أن شأن هذا النوع من التعامل يجعل الأغنياء يتضاعفون غنىً، ويجعل الفقراء يزدادون فقراً إلى فقرهم، ومسكنةً إلى ضعفهم، وحاجةً إلى متربتهم، وبعد ذلك تنشأ الطبقية، وتنشأ الثورات والقلاقل في المجتمع؛ لأن المجتمع حين ذاك ينقسم إلى قسمين أساسين:
طبقة أصحاب الأموال وهم الأغنياء، وطبقة الفقراء وهم الكادحون، وكلكم يعرف أن الثورة البلشفية والثورة الفرنسية نشأت وكان من أهم أسبابها آنذاك يوم أن انقسم المجتمع إلى هذه الطبقات الكادحة وتلك الطبقات الغنية.
إذاً: فأمر الربا خطيرٌ جداً في شأن المجتمعات، نسأل الله جل وعلا أن يقينا مصارع أهل الربا وأن يبعدنا عنه، وأن يقينا من التعامل به، إنه على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.
ثم لنتأمل الآية التي تليها في قول الله جل وعلا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276] فأي شيءٍ بعد أن محق الله الربا؟
ولا يغرنكم رؤية أصحاب الربا في قصورٍ فارهة، أو مراكب وثيرة، أو في أماكنٍ عالية، فإن شأنهم إلى الذلة، وإن شأنهم إلى الصغار، وهي سنة الله لا تتبدل ولا تتحول، ولن تجد لسنة الله تبديلاً بقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276].
فالربا يمحق الله سبحانه وتعالى أهله، ويمحق مشاريعهم، ويمحق استثماراتهم، ويمحق كل شيءٍ جعلوا الربا سبيلاً إلى النماء فيه، وإننا لنرى في هذه الأيام كثيراً من الذين غرتهم المادة، وأحبوا أن ينطلقوا بالمال يمنةً ويسرة، فاقترضوا من البنوك -باسم المشاريع- بالربا أموالاً آلت نهايتهم إلى الانكسار، فترى الواحد منهم يعيش أعظم الدَّين وأثقله على كاهله بسبب عمالةٍ لم يدفع رواتبها، وبضاعةٍ تأخر تسديد قيمتها، وبسبب أعمالٍ لم ينجزها، وما ذلك إلا لأنه بدأ من حرام، بدأ من سحت، بدأ من شيءٍ لعنه الله ولعنه رسوله، فكيف يرجى لرجلٍ يريد بنياناً شامخاً أن يعلو بنيانه وهو قد أسسه على شفا جرفٍ هار فانهار به إلى الدمار والهلاك؟! وإن لم يتب فسينهار به إلى نار جهنم عياذاً بالله من ذلك.
كلكم ترون كثيراً من الذين وقعوا نتيجة هذه المصائب والانكسارات المالية، لو دققتم في شأنهم لوجدتم أن كثيراً منهم استدانوا بالفوائد والربا، واستدانوا بما يسمى بنسبة الفائدة، أو بما يسمونه بالتسهيلات، وما هي والله إلا عين الربا الذي لعنه الله ولعنه رسوله، ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، عياذاً بالله من حالٍ ملعونةٍ كهذه.
معاشر المؤمنين: إذاً فلنعلم أن خطورة الربا ليست على الأفراد وحدهم، وإنما هي على المجتمع، ومن ثم تنقلب هذه المشاكل بلاءً ودماراً على الأمة.
ثم الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:278] نداءٌ ربانيٌ كريم لطيف بالعباد، اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] فمن كان يدعي الإيمان وينتسب إلى الإسلام فلا حق له أن يقيم على الربا، ولا يجوز له أن يتعامل به، والله جل وعلا يناديهم أولاً بهذا الأسلوب اللطيف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] في ذلك فتحٌ لباب التوبة، ونداءٌ إلى العودة والأوبة فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] وإن لم تنـزجروا، وإن لم تتوبوا وتعودوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
وبعد هذا التهديد ما ظنكم بحرب الله على العباد الذين يتعاملون بالربا؟! أتظنونها حرباً كحرب البشر؟!
إنها حربٌ على العبد في ليله ونهاره، إنها حربٌ على العباد في أمنهم وأوطانهم وأبدانهم وأموالهم وذرياتهم وكل شيءٍ يتعاملون به، ولا يغرنكم أن تروا مرابياً يتعامل بالربا وهو يعيش عيشة الأثرياء أو الأغنياء، فإن الله جل وعلا يمهله ثم إذا أخذه أخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، أخذه أخذةً تكون العبرة لغيره، نسأل الله أن يجعلنا من المعتبرين، وألا يجعلنا من الذين يعتبر بهم.
وَإِنْ تُبْتُمْ [البقرة:279] عودةٌ إلى فتح باب التوبة، وهي مفتوحةٌ إلى يوم القيامة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، مفتوحةٌ للعبد قبل أن يغرغر وقبل أن تصل روحه حلقومه: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ليس لكم إلا رءوس أموالكم، أما ما تنامى وتضاعف فما هو إلا زَبدٌ وجُفى فإنه ليس لكم، فإنه ليس من مكسبكم، فإنه ليس من مطعمكم.
ثم الله جل وعلا بعد ذلك يقول خطاباً لطيفاً: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] فيه ربطٌ بهذه الآيات، وشأن الذين يتعاملون بالربا .. الذين إذا استدانوا أو أدانوا أحداً من الناس مبلغاً من المال فإذا حل الأجل قالوا له: إما أن توفي وإما أن نربي عليك المال، أي: تتضاعف الفائدة عليك، أي: يتضاعف الربا عليك، فالله جل وعلا نبه المؤمنين ألا يتعاملوا بالربا ابتداءً، وألا يتعاملوا به بعد حلول الأجل، إذ أن من الناس من يكون في بداية أمره سليم النية، يحب أن يوسع على غيره من إخوانه، فيقرضهم مبلغاً من المال، فإذا حل أجله وضاقت المماطلة به نتيجةً لقلة ذات يده، فإنه قد يعرض عليه هذا الأمر، فيقول: أؤجلك أو أنسئك إلى عامٍ قابل بشرط أن يتضاعف المال كذا وكذا، فهذا عين الربا الذي نهى الله جل وعلا عنه، وهو ملعون آكله وملعونٌ موكله وكاتبه وشاهديه.
ثم بعد ذلك حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية، هي أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه: (أنه لعن آكل الربا) أتظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن توجهت لعنته على أكلة الربا، أتظنونهم يسلمون في مآلهم وحالهم؟!
لا والله إن لم يتداركهم رب العباد بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، وإقلاعٍ عن هذا الأمر.
معاشر المؤمنين: كلكم تعلمون أن خطر الربا عظيم، وأن شره جسيم، وأنه سحت: (وكل جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به) أعيذكم ونفسي بالله من الربا، نعوذ بالله من سخطه، ونعوذ بالله أن نأكل من الربا من قليله أو كثيره، وإن كنا في زمانٍ كما جاء في الحديث: (يأكل الناس الربا، ومن لم يأكله فإنه لن يسلم من غباره) نسأل الله أن يتجاوز عنا، وأن يتوب علينا، وأن يمن على الذين يتعاملون بالربا بالهداية، وأن يعودوا إلى رأس مالهم لا يظلمون الناس ولا يُظلمون.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، الحمد لله له على إحسانه، والشكر له على تفضله وتوفيقه وامتنانه، الشكر لله على نعمةٍ في أبداننا، وأمنٍ في أوطاننا، وأرزاقٍ في أموالنا، له الحمد سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكل محدثةٌ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر الأحباب: الزموا جماعة المسلمين، ألا وإن من لزوم جماعة المسلمين أن نشهد وأن نحضر الصلوات معهم في المساجد جماعة.
عباد الله: كلكم سمعتم هذه الآيات البينات التي لو لم يرد في شأن الربا إلا هي لكانت زاجراً، ولكانت شيئاً يكف فاعل الربا أن يتعامل أو يستمر فيه، ولكانت مانعاً لمن سولت له نفسه أو همت أن يقترض بالربا أن تكون زاجراً ومانعاً له من التعامل فيه.
معاشر الأحباب: لا شك أن كثيراً من الناس يؤولون بعض أحوالهم، ويؤولون بعض ظروفهم، فيقولون: إن الحاجة أو أن الضرورات تبيح المحرمات، وعند ذلك يتوجهون إلى أي جهة تقرضهم بالربا، فهذا لا يجوز، وما نوع هذه الحاجة التي يدعونها؟ أهي حاجةٍ حقيقية؟ أتدرون ما هي الحاجة التي تبيح المحرمات؟ إنها مقدار حاجة يسيرة تدفع عطش الموت بشربةٍ ولو كانت من خمر، وتدفع شيئاً من الجوع الذي يؤدي إلى الهلاك بأكلةٍ ولو كانت بشيءٍ قليلٍ جداً من الميتة أو الحرام حتى تندفع الحاجة.
أما الذين يريدون أن يستثمروا أو أن يتمولوا، وبعد ذلك يتوجهون إلى من يقرضهم بالربا، فإنهم ليسوا بحاجة، وإن ادعوا أن مشاريعهم ستسحب منهم، أو أنهم لا بد أن يكسبوا هذه الفرصة، فهذا تحايلٌ وهذا جهلٌ، والله جل وعلا عليمٌ بالسرائر والظواهر.
فالله الله يا معاشر الأحباب! لا يجرنكم هذا الأمر إلى ذلك، وينبغي لمن كان له حقٌ على مدينٍ معسر وهو يعلم إعساره ألا يضطره إلى أن يقترض بالربا؛ لأن ذلك خطرٌ عليك، وقد يكون هو السبب في أنه اضطره إلى أن يقترض بالربا، ومن هنا جاءت الآية: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] لأن كثيراً من الناس إذا حل له شيءٌ من حقه على معسرٍ من المعسرين لا يبالي بأي وادٍ هلك ما دام يمشي، ولا يقنعه أو يريح ضميره إلا أن يودعه داخل السجن، فما يفعل السجن به، هل السجن يعطيه مالاً؟ وهل السجن يصنع له نقداً؟ إن هذا لا يجديه في قليل أو كثير، وإن صاحب الحق إذا أوقف أو أودع غريمه في السجن لا يزداد إلا أن يتأخر ماله، ولو تركه حراً طليقاً يجمع المال من هنا وهنا، ويقسط ما استطاع عليه من المال، فإنه بذلك ينال ثواب أنه أنظره إلى الميسرة، ورحم عسره، ورحم فقره وحاجته، ويكون بذلك قد نال حقه على التراخي وعلى المهلة، ويكون من الذين ينالون الأجر والثواب؛ بأنه أنظره من حال العسرة التي هو فيها.
معاشر المؤمنين: كثيرٌ من الناس حينما تحل عليه الحاجة، أو يتوجه عليه حلول الدَّين فإنه يتوجه إلى مكانٍ يتورقون الناس فيه، ومسألة التورق تعرفونها جيداً، يسميها بعض العامة بالوعدة، أو يسمونها بالدِّينة، وهي مسألة التورق في حقيقتها، ولها صور وأشكال شتى، فينبغي لمن أراد أن يتعامل بهذا النوع منها أن ينتبه لكي لا يقع في الحرام بحيلةٍ من محللٍ دخل طرفاً في هذه العملية، أو بحيلةٍ من صاحب المحل الذي باعه بضاعةً معينة، ثم اشتراها منه في نفس الوقت في نفس الساعة ودفع له قيمةً أقل منها، ألا وإن ذلك هو ربا العينة الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فينبغي لمن توجه للتعامل بهذا الأمر -لحاجةٍ ماسةٍ به- أن يتعامل به في حدودٍ مشروعة.
ولعل أنقى الصور وأوضحها: أن تشتري بضاعةً إلى أجل، ثم بعد ذلك تحوزها إلى رحلك، ثم تبيعها إلى من شئت من الناس، بسعرها أو بأقل منه أو أكثر، بشرط أن لا يكون هناك حيلة من صاحب المال أن يرسل أحداً يشتريها بقيمةٍ أقل منها، أو أن يكون هناك اتفاقٌ مسبق أن تشترى منك هذه البضاعة بدخول طرفٍ ثالث في هذه العملية.
ولعلَّ من صورها التي يجوز للناس أن يتعاملوا بها: إذا كان الإنسان محتاجاً إلى سيارةٍ معينة، أو محتاجاً إلى مالٍ معين أن يتوجه إلى أحدٍ من الناس، فيقول له: إني بحاجةٍ إلى سيارة، أو بحاجةٍ إلى سلعة، أو بحاجةٍ إلى كذا، فتوجه معي إلى مكانها فاشترها بسعرها، فإذا اشتراها وحازها وامتلكها وكتبت باسمه قال: أنا أشتريها منك بعد ذلك مؤجلةً ولو ازداد شيئاً من المال مقابل نسبة الأجل، فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
أما ما يتعامل به كثيرٌ من الناس، ويتحايلون على الله، والله جل وعلا هو الذي يعلم السرائر والظواهر، فكيف يسلمون من هذا الشر، نسأل الله جل وعلا أن لا يحوجنا إلى ذلك، اللهم لا تحوجنا إلى تورقٍ، أو إلى دينٍ، أو إلى رباً.
ولا حاجة لمسلمٍ في الربا؛ لأنه يعلم أن ما عند الله أحب إليه من ذلك، وأن قَدَرَ الله مهما عظم أرحم به من أن يقع في الربا، وأن فرج الله مهما تأخر فإنه أقرب إليه من أن يتعامل بالحرام.
نسأل الله جل وعلا أن يوفق الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.
سمعنا في هذه الخطبة قول الله جل وعلا في آيات الربا، من آخر سورة البقرة، ولقد جاءت آيةٌ في سورة آل عمران تنهى المؤمنين أن يتعاملوا بالربا، وهو الربا المضاعف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] وتوعد من فعل هذا بالعذاب الشديد، نسأل الله جل وعلا أن ينجينا من الربا، وألا يجعل له سبيلاً إلينا في مآكلنا ومشاربنا ومعاملاتنا.
عباد الله: من يتقي الله يجعل له مخرجاً، ما ضاقت على العبد ضائقة فلن يجد فرجها إلا فيما أحل الله له، وإن كثيراً من الناس قد يتعامل بطريقةٍ نزيهة حتى يأتيه من يهون عليه أو يسهل له أمر الربا فيقترض بالفائدة، وبعد ذلك يعود هذا المال القليل نسبةً إلى البوار والهلاك والخسارة في ماله الكثير كله، وبعد ذلك يتوجه الدَّبور عليه في كل أمرٍ من أموره، ولا غرابة فإن الحرام ممحقٌ للبركة، نسأل الله جل وعلا أن ينجينا من الربا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ونسائنا ضلالاً وتبرجاً وسفوراً؛ اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أذهب سمعه وبصره وعقله، واجعله عبرةً للمعتبرين وعظةً للمتعظين بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم بطانةً صالحة، اللهم ارزقهم بطانةً صالحة، اللهم جنبهم بطانة السوء، اللهم ما علمت في أحدٍ خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في بشرٍ شراً لهم فأبعده عنهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم ارفعهم ولا ترفع عليهم، اللهم سخِّر لهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، وقربهم إلى من تحبهم وترضى عنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً قضيته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا مديناً إلا قضيت دينه، ولا معسراً إلا حللت عسره، يا فرج المكروبين، يا نصير المستضعفين، يا إله الأولين والآخرين، فإن أمرك سبحانك يا حي يا قيوم بين الكاف والنون، وتقلب العسر إلى يسر، وتقلب الضيق إلى فرج، وتقلب الكرب إلى سرورٍ وراحة بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم لا تدم على مسلمٍ ضائقة، اللهم لا تدم على مسلمٍ كربة، اللهم من كان مكروباً في دَين نسألك اللهم يا حي يا قيوم، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا من كان مكروباً في دَين أن تفرج كربته، وأن تفك عسره، وأن ترزقه من واسع فضلك، وأن تغنينا وتغنيه بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، وأغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبينا محمدٍ، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه واشكروه على نعمه واشكروه على ما تفضل به عليكم يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2802 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2664 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2652 استماع |
توديع العام المنصرم | 2647 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2552 استماع |
من هنا نبدأ | 2495 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2461 استماع |
أنواع الجلساء | 2460 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2437 استماع |
إلى الله المشتكى | 2436 استماع |