ذم كثرة السؤال


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) في (باب ما يكره من كثرة السؤال) عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم فيه ما دمت في مقامي هذا. قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء) يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح لهم باب السؤال، وكأنه كان مغضباً من كثرة السؤال، فلذلك قال: ما دمتم تكثرون الأسئلة إذاً فاسألوا، فوالله لا يسألني أحد سؤالاً إلا أجبته عنه.

يقول: (من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامكم هذا. قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء - خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: سلوني، سلوني. قال أنس : فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة . قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر على ركبتيه - علم عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب من كثرة أسئلتهم- وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر).

وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة -وقد كان الناس يطعنون في نسبته إلى أبيه حذافة ، فلما فتح الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الفرصة ليجيب عن أي سؤال سأل هذا السؤال: من أبي يا رسول الله؟ وأراد بذلك أن يحسم هذا الكلام، فلما وقع منه ذلك ورد عليه الصلاة والسلام وقال أبوك: حذافة . قالت له أمه-: (ما سمعت بابن قط أعق لأمه منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف النساء من أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.

هذا الحديث رواه الإمام البخاري في (باب ما يكره من كثرة السؤال)، وذلك في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، والحقيقة أن كثرة السؤال وعدم الانشغال بالعمل، وترك الإعراض عن تشقيق الأسئلة وتفريعها والجدل، والسؤال عما لا يعني .. ظاهرة بلا شك من الأخلاق المضادة تماماً لسلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يحب كثرة السؤال والجدل والمراء والتكلف والتنطع في الأسئلة، وتتبع المغاليق من المسائل، وتتبع سقطات الناس وأغلاطهم.. كل هذا مما يتنافى مع قول السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

وفي بداية الحديث أحب أنبه على أن ما سنذكره لا نذكره من أجل المتعة الذهنية، أو زيادة المعلومات النظرية، وإنما المقصود أن ينعكس على سلوكنا، وإذا ما انشغلنا بالعلم النافع فلن نحتاج إلى كثرة الأسئلة، إذا انشغلنا بالعلم وبالقرآن الكريم، وبحفظ القرآن، وبذكر الله عز وجل لن نقع في هذا الخلق الذي ذمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين.

فأنت ترى كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام غضب لما كثرت أسئلة الصحابة، فوقف وقال لهم: (سلوني) أي: ما دمتم تريدون كثرة الأسئلة إذاً سلوني ما شئتم، فأي شيء تسألون عنه سوف أجيبكم عنه ووقع ما وقع كما في الحديث.

ونفس هذا المعنى هو الذي علمه الله سبحانه وتعالى الصحابة رضي الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:101-102].

فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) يعني: لا تسألوا نبيكم عليه الصلاة والسلام (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر لكم (تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذٍ.

هذا أحد الوجوه في تفسير الآية (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: إذا أنزل شيء في القرآن وكان مجملاً وأنتم تطلبون بيانه فهذا ليس منهياً عنه، بل لكم أن تسألوا عن الشيء الذي يوضح ما أجمل في القرآن، فيبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من مواضع الحاجة التي لا حرج في السؤال فيها.

وثم توجيه آخر، وهو جعل (حين) ظرفاً لـ(تبد)، يعني: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن. وقيل: إن قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يتضمن التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنه في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم، وربما يأتيكم البيان بما يسؤكم. فيحمل معنى الآية على: لا تتعرضوا للسؤال عما يسؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم؛ لأن زمن الوحي زمن التشريع، كما جاء في سبب نزول هذه الآية حينما نزل قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال في الثالثة: أكل عام يا رسول الله؟ قال: لا. ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم أن تحجوا في كل عام) .

فلو أن ملايين المسلمين الموجودة في الأرض تريد الحج إلى مكة خاصة، وكان الحج فريضة كفريضة الصلوات الخمس، فكم سيكون في ذلك من المشقة؟ إذاً هذا الرجل فتح باب السؤال، ولو أتى الجواب موافقاً لكان في ذلك تعنت ومشقة وإساءة للمؤمنين.

وقال بعضهم: إنه تبارك وتعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم أساءتهم، ثم بين ثانياً أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام: إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين: أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم، فالمراد بهذه الأشياء ما يشق عليهم ويضمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشبيه لإساءتهم الأدب، واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما لا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث ولا تعرض لكيفيته وأهميته.

إذا أتى الأمر الشرعي فامتثله ولا تستتبع حتى لا يأتيك الجواب بما يسوؤك ويثقل عليك، كما حصل مع بني إسرائيل، حين أمروا أن يذبحوا بقرة، فالتنطع في الأسئلة وكثرة مراجعتها خلق إسرائيلي يهودي، خلق المغضوب عليهم، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة وذبحوها لكانت تجزئهم؛ لأن الأمر كان بأي بقرة، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [البقرة:67-68] وانظر إلى سوء الأدب مع الله ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68]، اسألوه عن السن، فأتاهم الجواب عن السن: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] وما كفاهم التقيد بقيد السن، بل تنطعوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] هذا هو بيان (إن تبد لكم تسؤكم) لما في ذلك من التضييق والتشديد.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:69-70] فلبركة هذا الاستثناء (وأنا إن شاء الله) أتاهم الجواب الفاصل في النهاية: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] وهذا أيضاً من سوء القول، وكأنه من قبل ما أتى بالحق.

فهذا نموذج من نماذج التنطع والتشدق وتتبع الأسئلة وتقريعها مما يورد هذه المشاق وهذا العنت، فالواجب الاستسلام لأمر الله عز وجل كيفما كان دون السؤال عن الكيفية أو الكمية.

فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة:101] معناه: لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة عليكم؛ لأنه إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه فلن تطيقوها، ونحو بعض أمور مستورة إذا سألتم وبرزت سوف يسوءكم الجهر بها.

وقوله تعالى: (عفى الله عنها) يعني: عفا عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فأنتم بالسؤال قد تفتحون باب التضييق عليكم. أو: عفى الله عن بيانها كي لا يسوءكم بيانها.

قال تعالى: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:102] (ثم أصبحوا بها) أي: بسببها (كافرين) لأنهم لما أجيبوا بما سألوا عنه لم يمتثلوا هذا الذي وجب عليهم بسبب السؤال، ولم يفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.

هذه الآية روى البخاري في سبب نزولها عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءاً، فيقول رجل: من أبي؟ ويقول رجل تضل ناقته: أين ناقتي؟) كما يعمل هذا بعض المستفتين في هذا الزمان عندما يأتون إلى الشيوخ والعلماء لحل أسئلة المسابقات.

وهذا نوع من الاستخفاف بالأشخاص، وهذا الخلق -كثرة الأسئلة- يحمل هذا المعنى، فكان الرجل تضل ناقته فيأتي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عنها، فأنزل الله فيهم هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101].

وعن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فنزلت هذه الآية: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]).

وروى البخاري أيضاً في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة - حتى أحرجوه وأضجروه بكثرة المسائلة - فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم. فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) عرف الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غضب من كثرة السؤال.

فلذلك قال: إذا كنتم تفتحون هذا الباب إذاً اسألوا وسأجيبكم حتى لو كان ذلك فيه ما يسوءكم ويؤذيكم.

ومن أجل ذلك أفاق الصحابة وفهموا أنه في حالة غضب شديد على هؤلاء الذي يسلكون هذا المسلك، ولذلك يقول هنا: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) يعني: خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندماً على ما كان منهم من قبل.

قال: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى -يعني: وقع جدال أو عراك بينه وبين شخص- ينسب إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. ثم أنشأ عمر فقال رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط؛ إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط) فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101].

وعن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فقام خطيباً فقال: سلوني -إلى أن قال مثل ما مضى من الأحاديث- فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وزاد: وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي صلى الله عليه وسلم).

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار -بنحو ما مضى- وفيه فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وفي هذه الزيادة على ما في البخاري من قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أنا؟ قال: في النار) يتضح أن هذه القصة هي سبب نزول قوله تعالى: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

وكيف ستكون حياة هذا الرجل في الأيام أو الشهور أو السنوات المتبقية من عمره وهو يترقب أنه بعد موته يدخل النار؟ وما مقدار المساءة في مثل هذا الخبر الذي يؤذيه ويسوءه بلاشك؟

فالمساءة هنا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فقد جاءت بطريق الجواز، وربما إذا أجاب بأن أباه ليس حذافة تؤذيه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه؛ وبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه كما صرحت بذلك حين عاتبته على هذا السؤال، لكن المساءة هنا جاءت بحكم قاطع أنه في النار.

وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري ، عن علي رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت. قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا. ولو قلت: نعم. لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]).

وجاء أن بعض الصحابة قالوا: (لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: الحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.

ونحن -معشر طلاب العلم- وأخص من ينتسبون إلى المنهج السلفي -نحتاج لتحذير متكرر في غاية الجدية في هذا الأمر؛ لأنني ألحظ بعض الإخوة حينما يجلسون إلى الشيوخ أو يراسلونهم بالأسئلة ويتصلون بهم ألحظ كثيراً من هذه الأغراض، فيتصل بأحد العلماء مثلاً، ويسأله سؤالاً ما، ويعد له كميناً حين يوصل جهاز التلفون بجهاز سري، ودون أن يستأذنه يسجل له فتاوى، ثم إذا به يستعمل كلام هذا الشيخ لنصرة طائفته التي ينتمي إليها، أو مهاجمة الشيخ نفسه أو غيره، ويسخر هذا الكلام في مثل هذه الأذية، وهذا -بلاشك- خلق ينافي سلوك السلف؛ لأنه -بلاشك- نوع من خيانة الأمانة، ولابد من استئذانه في مثل هذه الأشياء، وهناك رسالة جديدة أصدرها العلامة الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله تعالى، تحدث فيها عن مثل هذا بالتفصيل.

أو ربما يكون السؤال على سبيل الامتحان وطالب العلم لديه غرض، لكنه يخفيه في البداية، ثم يفتح الطريق للكلام بطريقة تشبه الاستدراج إلى الموضوع ليجادله، كلما أدلى بحجة يعارضه بحجة.

وهناك فرق بين الاستفتاء السريع الذي هو سؤال وجواب للإرشاد وبين مقام المناظرة، فالمناظرة لها مجلسها ووضعها وأوضاعها، أما الاستفتاء فأمر آخر، فهذا يحصل كثيراً مع كثير من الشيوخ، وهو أن طالب العلم يسأل متعنتاً لا راغباَ في الاستفهام والسؤال.

وقد أدركت بعض الأخوة في مرة من المرات مع أحد الشيوخ الكبار حفظه الله تعالى، وكأن هذا الطالب سهر الليالي حتى يحفظ مسألة معينة، ثم أتى يجادل بها الشيخ بحيث يستدرجه بأن يفتح له الموضوع، ثم إذا به يجادل ويحرج الشيخ ويحاصره كأنه ملاكم أو مصارع يواجه خصمه، فلا شك أنه يوجد كثير من التعنت وتعمد الإحراج أو الامتحان أحياناً، حتى إن الشيخ -حفظه الله تعالى وبارك في عمره وعمله- رد على الأخ بمنتهى البساطة، وقال: يا أخي! إني لا أحسن هذه المسألة. وعلم الله أن الشيخ يحسنها من قبل أن يولد هذا الشاب وألف فيها كتباً.

فالشاهد أن مراعاة الأدب عند السؤال واجبة، وأما امتحان السائل فهذا من البدع.

وفي قصة الإمام البخاري في محنته المشهورة أنه أتى رجل وسأله سؤالاً أمام الناس حتى يمتحنه، كي يأخذ الجواب ويشنع على عقيدة البخاري ، وهذا ما حصل بالفعل، حتى اضطر البخاري إلى الخروج من بلاده، وحصلت له محنة عظيمة بسبب هذا، فلما سأله على مجمع من الناس وهو يقصد امتحانه واختباره وإيقاعه أجابه على مسألة (اللفظ بالقرآن مخلوق) ثم قال له: وامتحان المسلم بدعة.

فليس من الأدب أنك تسأل المسلم لتمتحنه، أو الشيخ لتمتحنه أو لتظهر أنك أعلم منه في هذه المسألة، فالشخص الذي يتعنت ولا يطلب العلم لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، ولا يجاب ولا يستحق جواباً، لكن فليتأدب في السؤال، ويتلطف ولا يتعنت، ولا ينوي الامتحان ولا الإحراج، ولا استعمال هذا الكلام لامتحان بعض الشيوخ في بعض الموضوعات، إلى غير ذلك من هذه الأشياء.

يقول الحافظ ابن حجر: (والحاصل أنها -أي: هذه الآية- نزلت لكثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان).

وأما موضوع الامتحان في الاتجاهات الحزبية والانتماء للجماعات والاتجاهات الفكرية فهذه مشهورة وكأنها خلق عادي، وكثير من طلبة العالم يسأل كي يمتحن، لا محتاجاً للإجابة، فلا تمتحن وتقول: سأبحث عن اتجاه هذا الشيخ، أو اتجاه هذا الرجل فمثل هذه الامتحانات الأفضل للمسلم أن يكون سلوكه فيها حسن الظن إلى أقصى مدى، خصوصاً مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

يقول ابن حجر: (إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لولم يسأل عنه لكان على الإباحة).

بجانب أن كثرة هذه الأسئلة حجة على صاحبها، كما كان بعض الناس يكثر الأسئلة على عالم معين، فلما أضجره وأكثر عليه من الأسئلة قال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها.

وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) ورواه أبو داود والترمذي ، لكن في سنده كلام.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآية الكريمة بقوله في (إعلام الموقعين): لم ينقطع حكم هذه الآية. يعني: الأدب أو الحكم المأخوذ من هذه الآية لم يكن مختصاً بهؤلاء الذين نزلت فيهم وإنما هو حكم عام باق. فيقول ابن القيم رحمه الله: لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله.

ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟

(لا تسأل) لأن الأصل في الماء الطهارة، فالذي كان يمشي مع عمر سأل صاحب الميزاب عن طهارة ذلك الماء، فقال عمر: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لأن الذي سقط ماء، والأصل في الماء الطهارة، فإذا كنت تمشي بجانب مستنقع من الماء وهناك سيارة تسير بسرعة قذفت بالماء عليك -مثلاً- فلا تبحث عنه، أنت غير مكلف بهذا، ولكن إذا خالفت هذا الأدب وظللت تسأل وتستتبع فقد يظهر لك ما يسوؤك فتصير ثيابك نجسة مثلاً، لكن أنت متعبد بعلمك الذي هو اصطحاب أصل الطهارة في كل المياه والتراب.

كذلك نلاحظ بعض الناس يريد أن يصلي في البيت -مثلاً- فيحضر السجادة، فهذا يقال له: صل على أي شيء من تراب أو فرش، ودع الوسوسة بهذه الطريقة، فأنت غير مطالب بالتحري في أي مكان في الأرض، بل صل فقط، أما أن تتتبع وتفتش وتقول: لعل ولعل فلا.

فما دمت لم تر دليلاً حسياً على النجاسة أمامك فابن على الأصل ولا تتعنت، هكذا الإسلام في سماحته وسهولة أحكامه ويسره، وفي الحديث؛ (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فخذ الأمور ببساطة، فإذا زرت أخاك المسلم فقدم لك الطعام فلا تسأل عنه، ولا تقل له: من أين هذا؟ أو تسأل عن اللحم من أين، أو الجزار يصلي أو لا يصلي، فأنت غير مطالب بهذا، والأصل أن المسلم يتقي الله، فتأكل مما قدمه لك، وأنت غير مطالب بتتبع هذا الأمر.

هذا هو الأصل، أما إذا ظهر لك ما ينقلك عن الأصل فهذا شيء يعتبر، لكن لا تفتش عن أشياء قد تضيق عليك حياتك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زار أحدكم أخاه فأكل أو شرب عنده فلا يسأله) لا تسأله، واستصحب هذا الأصل.

يقول ابن القيم : (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له).

وأحياناً بعض الناس لا يقنع بمعاملة العبيد مع العبيد حتى يعامل الناس كأنه رب وهؤلاء العباد عبيد له.

فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنه لا يطلع على ما في صدور الناس إلا الله سبحانه وتعالى رب الناس، أما بعض الناس فإنه يفتش ويتحرى حتى يستتبع خبايا الأمور ودخائل النفوس، وبالتالي يبدأ يحصر نفسه في محيط من العداوات، ولن تستقيم له الحياة أبداً؛ لأنه يحاول أن يتعامل معهم كرب، والرب هو الذي يطلع على ما في القلوب، فاقبل من الناس ظاهرهم ودع عنك باطنهم.

وكنت منذ سنوات بعيدة جداً سمعت عن قصة أو رواية اسمها (نظارة الحقيقة)، هذه النظارة اخترعها رجل زعم أن من لبسها جعلت كل من يحدثه يكلمه بما في قلبه، فيأتي لرجل يتكلم مع زوجته ويسلط عليه نظارة الحقيقة، وبعد أن يكون معها بغاية اللطف والمجاملة إذا به ينقلب الحوار ويكشف كل الأحقاد التي في نفسه تجاهها، ثم إذا سلطها على الآخر يحصل نفس الشيء وهكذا، فظل الرجل يستعمل هذه النظارة فوجد أن الحياة ستصبح جحيماً لا يطاق بسبب أن الناس ستتعامل على حقيقة ما في بواطنها، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل خبايا النفوس مستورة، فاقبل من الناس ما يظهرون، ولا تفتش عن الخبايا؛ لأنك لو فتشت ستطَّلع على ما يسوؤك ويؤذيك، فعامل الناس على أنك عبد مثلهم لا تعلم ما في صدورهم.

ولو أن الإنسان تتبع، وظل يسأل ويحاور ويفتش ويسأل عن النوايا ويتتبعها، فلو قدر أنها كشفت له فهي -قطعاً- سوف تسوءه، والستر سينكشف، والنفس ستفتضح، ومن ثم نعيش في جو بحر من العداوات والأحقاد، ولا يمكن أبداً أن تستقيم معه حياة، فمن رحمة الله أن تترك الأمور مستورة لا تفتش ولا تنقب.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى يكره إبداءها ولذلك سكت عنها).

يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن القيم : (وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها، ويدل له ما رواه له البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).

فقوله: (إن من أعظم المسلمين جرماً يعني: عقوبة. فإذا كان السؤال الذي سأله كان بسببه تحريم شيء كان حلالاً فهذا إنسان يعاقب، وهو من أعظم المسلمين جرماً عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يجسد لنا خطورة موضوع تتبع الأسئلة بهذه الطريقة، (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، ومثل ذلك قد أمن الآن؛ لأن التحريم قد انقطع بانقطاع الوحي.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.

وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فالشيء الذي سكت عنه الشرع لا تبحث عنه ما دام أنه لم يذكر في القرآن ولا في السنة، فالأصل هو استصحاب الأصل الذي هو الإباحة في مثل هذه الأشياء؛ فالحلال بين والحرام بين.

فقوله: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء غير نسيان) ما تركه الله لم يكن عن نسيان، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، فاتركها ولا تتتبعها؛ فإن الله لم يكن لينساها، فكونها لم يحتويها القرآن ولا السنة يدل على أن الأصل فيها هو العفو.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا) يعني: لا تتنطعوا ولا تتتبعوا ولا تفتشوا وتتعنتوا. لماذا؟ لأن من وصف الرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء في القرآن: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] والحديث رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة .

وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي رواية مسلم : (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع)، وانظر إلى شدة تهيب الصحابة رضي الله عنهم من كثرة الأسئلة، حتى إنهم كانوا ينتظرون مجيء الرجل من البادية ليسأل؛ لأنه لن يعامل مثل الصحابي الذي يعيش ليل نهار مع الرسول عليه الصلاة والسلام.

والرسول عليه الصلاة والسلام يعذر من جاء من البادية، فمن جاء من أهل البادية وكان عاقلاً فهذا ما كانوا يفرحون به؛ لأنه سيسأل أسئلة تفيدهم، فلذلك كانوا يفرحون.

وهذا الحديث يبين المعنى الذي نقصده بياناً واضحاً جداً، وكيف أن الصحابة وعوا هذا الأدب والتزموه، حتى إنهم كانوا يمنعون أنفسهم من أن يكثروا من الأسئلة، وما يكاد يوجد لهم منفذ إلا أن يأتيه رجل غريب فيعذره الرسول عليه الصلاة والسلام فيسأل، لكن إذا كان الرجل عاقلاً فإنه يسأل أسئلة جيدة موضوعية فيفرحون بذلك لأنهم سيستفيدون حينها.

(فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق)، إلى آخر الحديث.

وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر : (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها).

ولـمسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: أقمت بصفة أني رجل وافد غريب، وما أظهرت أني أريد الإقامة؛ لأنه إذا أراد الإقامة وصار من المهاجرين المقيمين فلابد أن يلتزم بهذا الأدب؛ لأنه أدب الصحابة المحيطين بالرسول عليه الصلاة والسلام.

فما أجمع إقامةً وهجرةً سنةً كاملةً؛ لأنه سيظل يعامل معاملة الوافد الغريب، فقد كان يعطي نفسه فرصة الأسئلة ويستفيد من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول القاسمي: (ومراده أنه قدم وافداً فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم).

وأخرج الإمام أحمد ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : (لما نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101] كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم -امتثلوا هذا النهي واتقوا أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام- فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء) وهذه رشوة غير محرمة وإن كانت في معنى الرشوة، ولكنها ليست رشوة في الحقيقة، قال: (فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه أعرابي فله أن يسأل، وحتى يحرضوه على أن يسأل أهدوا إليه هذا الرداء كيما يقوم بالسؤال ويستمعوا هم إلى الجواب، وهذا -أيضاً- يعطينا معنى تمكنهم من هذا الأدب الذي أدبهم الله به.

ولـأبي يعلى عن البراء قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -يعني قدومهم- ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها).

وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيحتمل أنه كان قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه فالنهي لا يتناول الأمور التي يحتاج إليها المسلم، وما من شك في أن كل مسلم تعرض له قضايا أو مواقف يحتاج فيها لمعرفة حكم الشرع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال) فالجهل مرض ودواؤه السؤال، فمن يسأل عن شيء واقع له ثمرة فنعم، أما أن يسأل عن الافتراضات والتفريعات وسائر صور التنطع فهذا غير مأذون به.

والمقصود أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يسألونه -فقط- عن بيان أحكام الدين التي يحتاجون إليها، وهذا ليس داخلاً في هذا النهي، كسؤاله عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176] ، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] ، وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] ، ويقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217] ويقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220] وهكذا، فوجود السؤال عما سبق وغير ذلك مما ورد في القرآن يثبت أنهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهة كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريقة الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سبباً للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وأورد الإمام الدارمي في أوائل مسنده باباً أورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين أقوالاً كثيرة في ذلك.

منها: قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر قال: (أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) أي: نحن نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا مما نهينا عن أن نسأل عنه.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا وقع؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون. فلا تسأل عما لم يقع، فإن وقع فحينئذ تسأل.

وعن أبي سلمة ومعاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل، فالأصل أننا نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا نهينا عن أن نسأل عنه.

ومثل ذلك الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع، وهي مسألة نادرة الوقوع جداً، فيفرغ زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولاسيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.

وأشد من كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحكمة، كمثل السؤال عن وقت الساعة، وهذا سؤال عما لا يعني؛ إذ علمها عند الله سبحانه وتعالى، فالسؤال عن وقت الساعة مما لا يفيد ولا ثمرة من ورائه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة نقل السائل إلى ما ينفعه، وأعرض عن جواب سؤاله، وانتقل إلى ما يفيد فقال: (وما أعددت لها) إلى آخر الحديث.

كذلك السؤال عن الروح، كما قال الله عز وجل: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] ، كذلك السؤال عن مدة هذه الأمة، إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا سبيل إلى التعرف على جواب هذه الأسئلة إلا الوحي، وإذا كان الوحي نهانا عن الخوض فيها فلا مطمع أن نجد جواباً صحيحاً لها، فيجب الإيمان بذلك من غير بحث.

وأشد أنواع هذه الأسئلة النوع الذي توقع كثرة البحث بسببه في الشك والحيرة، قال بعضهم: مثل التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتى بالإذن. يعني: يكون الجواب لأول مرة سهلاً، مثل: قوله تعالى حكاية عن موسى في قصة بني إسرائيل: (اذبحوا بقرة) وكانت أي واحدة مجزئة، لكن كلما ترفَّعت وفرَّعت كلما حصلت مشقة أكثر حتى لا تستطيع في النهاية أن تمتثل هذا الأمر.

فيفتيك المفتي بالإذن، ثم تظل تتبعه حتى ينتهي بك إلى المنع، مثال ذلك: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق: هل يكره شراؤها ممن هي في يده قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ أي: هل يكره أن نشتريها منه قبل أن نبحث عن مصيرها وكيف جاءت إليه؟ والمال الذي اشترى به هل هو حلال أم حرام؟ فهل يكره أن نشتريها قبل تتبع هذه الأشياء؟ فيقول المفتي: يجوز أن تشتريها دون أن تتتبع وتتحرى هذا التحري. فإن عاد فقال: أخشى أن تكون من نهب أو احتيال أو أن يكون هذا الرجل سرق مثل هذا الجهاز أو هذه الآلة من شخص آخر أو غصبه. ويكون في نفس الوقت في تلك الأيام وقعت حادثة غصب أو سرقة في تلك الفترة.

فيحتاج المفتي أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك ويقول له: إن ثبت شيء من ذلك حرم عليك أن تشتريه، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى. ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز.

وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى يفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكفر بوقوعها فإنه يسد باب السؤال تماماً حتى في المسائل التي يحتاجها الناس في دينهم وعبادتهم، فيسد الباب حتى فيما الناس محتاجون إلى السؤال فيه، وهم مأمورون بالسؤال والرجوع إلى العلماء، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43]، فهذا طرف من طرفي الإفراط والتفريط.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين شهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم).

ثم نقل القاسمي عن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في نفس هذه المسألة، قال الإمام الشاطبي: (الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح، من ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]) ثم نقل -أيضاً- جملة من الآثار التي ذكرناها.

ثم قال: (والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه).

وعظوا ونهوا عن كثرة السؤال حتى توقفوا عن الأسئلة، وكانوا يحبون أن يأتي الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامهم ويحفظوا منه العلم.

السؤال عما لا ينفع في الدين

قال الشاطبي: (ويتبين من هذا أن الكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع):

الموضع الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين:

كسؤال عبد الله بن حذافة : من أبي؟ فهذا لن يعود عليه بأي فائدة، بجانب أنه لو افترض أن أمه قد قارفت ذنباً في الجاهلية، وأنه كان ثمرة هذا الذنب فأي أذية وأي عقوق يكون قد صدر منه في حق أمه وهي إنما كانت في الجاهلية؟! لكن -والحمد الله- الرسول عليه الصلاة والسلام برأها من ذلك.

فأي فائدة تعود عليه بمثل هذا السؤال؟! إذاً يتحرى الإنسان، وربما يعاقب إذا بحث فيما نهى الشرع عن البحث فيه، فتكون العقوبة بقدر الله أن يصدر ما يسوؤه، كما في حديث: (نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطرق الرجل أهله ليلاً) ، فلم يتخونهم أو يتلمس عثراتهم؟ لأنه إذا كان مسافراً أو غائباً يفاجئ زوجته في البيت في وسط الليل وهو يقصد بذلك التجسس عليها، ومن ثم ينشأ عن هذا شك وريبة، فربما إذا خالف الأدب الشرعي في أنه لا يطرق أهله ليلاً ربما يبتلى بأن يظهر له ما يسوؤه، كما حصل لبعض الناس حينما خالفوا هذا الأدب بشؤم مخالفة الأدب النبوي في عدم طرقهم لأهلهم ليلاً فرأوا ما يسوؤهم ويؤذيهم.

إذاً الموضع الأول من مواضع كراهية السؤال: السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: من أبي؟

وروي أيضاً أن بعض الناس سألوا: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان. فأنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، فأعرض القرآن الكريم عن إجابة السؤال، وأجاب بما يفيد السائل في دينه؛ لأنه سؤال ليس وراءه فائدة.

وفي قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون أنه يحرم على من عاد من الحج وأراد أن يدخل البيت أن يدخله من الباب، ولكن يدخله من الخلف من النافذة، فيمنعون المحرم من الدخول من باب البيت، وبعض العلماء يقول: إن المقصود هنا الإشارة إلى انتقاد هذا الذي سأل عن الأهلة بأن الهلال يبدوا دقيقاً ثم يصير بدراً ثم ينقص ثانية.

فقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) يعني أن المشتغل بهذه المسائل كالذي يأتي البيوت من ظهورها، لكن عليك أن تأتي البيوت من أبوابها بأن تسأل عما يفيدك في دينك لا عما لا يعنيك.

السؤال بعد بلوغ الحاجة

قال: (الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته):

فالنص الشرعي قد يكون واضحاً وظاهراً، ثم بعدما يبلغه العلم يبدأ يشق على نفسه، ويسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، كالرجل الذي سأل عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ مع أن ظاهر قوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] يكفي في امتثاله أن يوقعه الإنسان مرة واحدة في عمره، فظاهره أنه ليس إلى الأبد لإطلاقه، فمثل هذا السؤال يجعل موضعاً من مواضع كراهة السؤال، مع أن ظاهر الآية أنه يكفي أن تحج مرة واحدة، لكنه مصر أن يصرح ويسأل : أفي كل عام؟ حتى قال له: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم).

ومن هذا سؤال بني إسرائيل عن البقرة بعد ما قال لهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] أيَّ بقرة، ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ولأدوا ما وجب عليهم، لكنه التنطع والتشدد، وكان يكفيهم النص الشرعي بذبح بقرة، فالسؤال في مثل هذا الموضع هو استجلاب للضيق وللعنت، وهو من التنطع.

السؤال في غير وقت الحاجة

قال: (الموضع الثالث: السؤال عن غير احتياج إليه في الوقت).

يعني: أن يسأل وهو غير محتاج إلى جوابه في ذلك الوقت، وليس في زمن الاحتياج إليه، وكأن هذا -والله تعالى أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)، وقوله -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها).

السؤال عن صعاب المسائل وشرارها

قال: (الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها).

أما السؤال عن صعاب المسائل وشرارها فكما جاء النهي عن الأغلوطات في حديث معاوية عند أبي داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات) والأغلوطات هي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة، أي: ينصب فخاً لعالم، ويلقي له هذا السؤال كي يصدر منه الجواب، فيحصل بذلك شر وفتنة، وهي جمع أغلوطة.

السؤال عن علة الحكم

قال: (الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم). يعني هنا الحكم الشرعي من الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها، وهي لها معنى وحكمة وإن لم يطلع على ذلك، كتقبيل الحجر الأسود، وبعض مناسك الحج، أو أي أمر تعبدي كما هو معروف، فيكون الأمر من قبيل التعبد، ثم هو يتنطع ويسأل عن علة هذا الحكم مع أنه من الأمور التعبدية؛ كالسؤال عن علة قضاء الصوم دون الصلاة في حق الحائض والنفساء. فعن معاذة رضي الله عنها قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!). أي: أأنت من الخوارج؟! والخوارج يرون أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم، فلم تقف هذه المرأة عند ما ورد وحُدَّ لها في الشرع، ولذلك جاء جواب عائشة رضي الله عنها أولاً بأن وبختها وقالت: (أحرورية أنت؟!) أي: أأنت تذهبين مذهب الخوارج؟! لأن الخوارج ينسبون إلى حروراء، وهي بلدة أو قرية في العراق خرج منها الخوارج. ثم قالت عائشة : (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فقولها: (كان يصيبنا ذلك) أي: في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

بلوغ السؤال حد التكلف والتعمق

قال: (الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق).

ويدل على ذلك قوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، والتكلف هو التنطع في الأسئلة والتعمق، ولما سأل عمر: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا).

وأقوى ما يكون هذا في مسائل الطهارة، خاصة إذا كان الإنسان مبتلى بالوسواس فهذا مما يزيد الوسواس، فيعذب نفسه بيده؛ لأنه يظل يفتش وينقب بهذه الطريقة، ولو أنه أخذ الأمور بيسر وسماحة الإسلام الذي هو دين الفطرة واليسر والتبشير والتيسير ورفع الحرج والجناح لما عذب نفسه بنفسه بهذه الطريقة.

ظهور معارضة الكتاب والسنة بالرأي من السؤال

قال: (الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي).

هذا من المواضع المذمومة، أن يكون واضحاً من صيغة السؤال أنه يريد أن يعارض القرآن والسنة بعقله وبرأيه وبهواه، ولذلك قال سعيد رضي الله تعالى عنه لما سأله رجل سؤالاً من مثل هذه الأسئلة فقال له: (أعراقي أنت؟!). لأن العراق اشتهرت بأنها منبع الفتن في كل زمان، أو: أأنت من الخوارج أو من المبتدعين الذين هم بالعراق؟

وقيل لـمالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: الرجل يكون عالماً بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: (لا. ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت) فمع أنه مع الحق لكنه لا يماري ولا يجادل، وهذه أيضاً من الأخلاق المذمومة، فالجدل والمماراة والملاحاة من الأخلاق الذميمة عند السلف، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) والمراء: الجدال. يعني: حتى لو كنت محقاً فالأفضل أن تترك هذا الذي يريد الجدال وتسكت عنه، ويبشرك الرسول عليه الصلاة والسلام ببيت في ربض الجنة وبأنه ضامن لك بما قال، ولا تقل: أخشى أن أكون قد كتمت العلم. ولكن متى ما بدا لك أن هذا الشخص مجادل تصدق عليه بالسكوت حتى لو كان معك الحق؛ لأنه بجداله حرم نفسه من وصول الحق إليه.

فمتى بدا لك أن الشخص الذي يحادثك يريد الجدل والمماراة فإنك تثاب إذا سكت عنه حتى لو كان معك الحق، وهذه أخلاق السلف، وهذا هو خلق الإسلام.

السؤال عن المتشابهات

قال: (الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات).

وعلى ذلك يدل قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وفي الحديث: (متى رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، هؤلاء هم الذين حذرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منهم، الذين يتتبعون المتشابهات، ولعلنا نجد صورة واضحة جداً في العلمانيين والملاحدة من الكفار، هؤلاء الناس هذه مهنتهم وهذه حرفتهم، فهم يتقنون صناعة الشبهات والخوض في الأمور المشتبهة، وعدم رد المتشابه إلى المحكم، فالتمسك بالمتشابه والإعراض عن المحكم مما ينبئ عن وجود هذا المرض والزيغ في القلب، والعياذ بالله عز وجل.

وقد روى يحيى بن يحيى التميمي ، وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله ! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد في شيء كما وجد فيه من مقالته. يعني: ما رأى الإمام مالك غضب من أحد كما غضب من مقالة هذا الرجل.

قال: وعلاه الرحضاء -من شدة غضب الإمام مالك احمر وجهه، والعرق ظل يتصبب من وجهه وجبينه -وأطرق ثم قال: (الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) وأمر به فأخرج. فحملوه وطردوه خارج المسجد.

وهنا ملاحظة، وهي أن بعض الإخوة يريد أن يسلك مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الخوض في أمور هي من علم الكلام وما أشبهه نتيجة الولع الشديد بمحبة شيخ الإسلام ابن تيمية ودوره التجديدي في الدفاع عن المنهج السلفي، ولأنه أنفق جزءاً كبيراً من عمره في المنافحة عن أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع، والظروف التي وجد فيها شيخ الإسلام اقتضت كثيراً من التفاصيل، حتى إنه لجأ أحياناً إلى مجادلتهم بنفس أسلحتهم سواء في المنطق أو علم الكلام أو غيره، وهذه حالة خاصة بـشيخ الإسلام، ولا يطلب من كل مسلم أو طالب علم أن يخوض هذا الخوض في هذه الأمور.

وقد رزقنا الله سبحانه وتعالى السلامة من الشبهات في هذا الباب، فلا تعتبر أنك قصرت في دراسة التوحيد إن لم تخض مثل هذا الخوض، فما دمت في عافية لا تخض في هذه المسائل، إنما شيخ الإسلام وأمثاله من العلماء المجاهدين في سبيل الدفاع عن المنهج السلفي وعقيدة أهل السنة والجماعة لهم وضع خاص، كالشخص الذي يرد على النصارى، وهل نطالب كل المسلمين أن يخوضوا في مثل هذا بهذه التفاصيل؟ هذه تعتبر من الفروض الكفائية، لكن مادمت في عافية من الخوض والتعمق في هذه التفاصيل فهذا أحد الملامح الأساسية للمنهج السلفي، أما شيخ الإسلام فلأنه كان في مرحلة تجديد ودفاع، والبيئة الثقافية أو العلمية في مجتمعهم كانت تحمل هذه الأمراض التي غلبت عليه اضطر إلى مواجهة الأشاعرة والصوفية والفلاسفة والمتكلمين والمناطقة بنفس أسلوبهم، وهذا لا يعني أننا ننتهج نفس الأسلوب إلا إن احتجنا إليه في ظروف مشابهة.

وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني ، عن ابن وهب قال: (كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله ! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه)، لماذا؟ لأن الله سبحانه لا يقال له: كيف. فـ(كيف) تقال لشيء أنت رأيته من قبل وتصورته، فإذا ذكر أمامك ستتخيله في ذهنك، وسوف تستطيع أن تتصوره، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيفه؟ والعقل لا يستطيع أن يقيس أو أن يكيف الله، وإذا كنا نعجز بعقولنا عن تكييف مخلوقات الجنة فكيف بالله عز وجل؟ فمن يستطيع أن يكيف الجنة ويعرف قصتها؟ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فمهما اجتهدت أن تتخيل في وصف الجنة فلن تصل إلى الحقيقة؛ فهي أعظم مما تتخيل، فإذا كان هذا مخلوقاً ونحن لا نقوى على تكييفه فكيف بالله جل وعلا؟

ويحكى أن شاباً كان يخوض في هذا الباب، ويقع في مثل تلك الهفوات -والعياذ بالله-، فسأله بعض العلماء عن حديث جبريل الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ورأيت جبريل له ستمائة جناح يسد ما بين المشرق والمغرب) فقال له: أخبرني عن خلق من مخلوقات الله له ستمائة جناح كيف تتخيلها وكيف صورتها؟ فعجز. فقال: فأنا أضع عنك منها سبعةً وتسعين وخمسمائة فيكون الباقي ثلاثة، فصف لي خلقاً من خلق الله تعالى له ثلاثة أجنحة؟ فعجز، وقال: يا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز.

هذه هي الحقيقة، لا يعلم كيف الله إلا الله وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] بينما هو أحاط بكل شيء علماً.

السؤال عما شجر بين السلف الصالح

قال: (الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح).

أي: الخلاف الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم. فمن المكروه والمذموم أن يخوض الإنسان فيما كان بينهم من الخلاف، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: (تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا). وقال آخر وقد سئل عن ذلك في مناسبة أخرى مماثلة: (قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]).

فالمقصود عدم الخوض حتى لو كان بعض الصحابة مخطئين في ذلك؛ لأن شأننا نحن مع هؤلاء السادة الأطهار الأبرار هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10] يبين الله عز وجل الذين يستحقون أن يوزع عليهم مال الفيء، وهو المال الذي يتركه المشركون ويهربون إذا رأوا المسلمين من بعيد، أما الغنيمة فهي ما يؤخذ مغالبة عن طريق القتال.

فيقول عز وجل في معرض توزيع مال الفيء لمستحقيه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون.

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وهؤلاء هم الأنصار.

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

ولذلك استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن الشيعة الرافضة -قبحهم الله- لا يستحقون شيئاً من مال الفيء؛ لأنهم ليسوا من الطوائف التي ذكرها الله الذين يستحقون مال الفيء، وهم المهاجرون، والأنصار، ومن جاء بعدهم وكان محباً ومستغفراً للمهاجرين والأنصار، فما بالك بمن يلعن المهاجرين والأنصار والعياذ بالله؟! ما بالك بهؤلاء المجرمين الشيعة الذين يكفرون الصحابة ما عدا خمسة أو ثلاثة؟! فهل لهم حظ؟ لا. فإن هؤلاء قد غاظهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إن الإمام مالك أخذ تكفيرهم من قوله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، وقال: كل من وجد في قلبه غيظاً على أصحاب الرسول عليه السلام فهو كافر لهذه الآية. وموضوع تكفيرهم له تفصيل، لكن الشاهد من الكلام قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10] وهي تعني كل مؤمن إلى يوم القيامة.

قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] فمن وجد في قلبه غلاً للذين آمنوا وثبت -ومعلوم أن المؤمنين منهم الصحابة، فهم أفضل أمة، وخير أمة أخرجت للناس- فلا يستحق أن يأخذ من مال الفيء.

إذاً نحن نستغفر لهم فيما اجتهدوا فيه وأخطئوا، ونعتقد أن ما حصل من الصحابة من القتال في موقعه الجمل وصفين إنما هو عن اجتهاد خالص لله عز وجل، يريدون به إحقاق الحق، ولكن هذا أمر قدره الله وقضاه ووقع، وليس لنا أن نخوض في هذا الأمر بالوقوع في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه المسألة من شدة أهميتها أصبح كل علماء السلف -تقريباً- يختمون بها عقائدهم ومتون العقيدة بأننا يجب أن نمسك عما شجر بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، إلى آخر النصوص المعروفة سواء في الطحاوية أو غيرها، فهم يدرجون هذه القضية في قضايا أصول العقيدة وأصول الإيمان، أي: الترضي عن الصحابة، والإمساك عما شجر بينهم وعدم الخوض فيه، فمن سأل سؤالاً من هذا الباب فقد وقع فيما نُهينا عنه من كثرة السؤال كما بينا.

سؤال التعنت وقصد غلبة الخصم

قال: (الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام).

وفي القرآن في ذم نحو هذا قوله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، (ألد الخصام) أي: مجادل. ومنه قوله تبارك وتعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] وهو الجدل، كما في قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

ومناسبة هذا أنهم قالوا: هل ما قتله الله حرام وما قتلتموه أنتم أو ما ذبحتموه أنتم يكون حلالاً؟ انظر إلى التلبيس وإيقاع الشبهات في قلوب المؤمنين! فنزل قوله وتعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

فهذا من الجدل القبيح والمذموم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) (الألد الخصم) الشخص الشديد الجدل والشديد الخصومة والتعنت، فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها.

وأعيد التذكير برءوس هذه المواضع العشرة، وهي المواضع التي يكره فيها السؤال:

الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين، ومثاله قول عبد الله بن حذافة : من أبي؟ وكذلك سؤالهم: ما بال الهلال يبدوا رقيقاً؟ الذي نزل فيه قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189].

الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، ومثاله سؤال الرجل عن الحج: أكل عام؟ وكذلك سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة.

الموضع الثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، ويدل عليه قوله: (ذروني ما تركتكم)، وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان) .

الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كالأغلوطات التي ورد النبي عنها.

الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به السؤال، كما قالت عائشة للمرأة: (أحرورية أنت؟) لما سألت عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة.

الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وقد قال تعالى: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، كذلك سؤال صاحب الحوض عن طهارته.

الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة في الرأي.

الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات.

الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح.

الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام.

فهذه جملة من المواضع التي يكره فيها السؤال، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها على درجة واحدة، بل منها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محل اجتهاد، وعلى جملة منها ما يقع النهي عن الجدال في الدين، كما جاء في الحديث: (إن المراء في القرآن كفر) أي: أن يأتي الناس ويضربون الآيات بعضها ببعض.

وهذا أوضح ما يكون في مسائل القدر، فهذا يأتي بالآيات التي تدل على في مذهبه الضال إذا كان جبريا، والآخر يأتي بآية تعارضه إذا كان قدرياً، ويضرب القرآن بعضه ببعض.

وقد قال عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] ، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه.

وبعض المفسرين قالوا: لابد من تقييد النهي في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]. فقالوا: إلا لما تدعوا إليه الحاجة؛ لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة هو من أمور الدين، وقد أذن الله بالسؤال عنه فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه جابر رضي الله عنه فقال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده).

قالوا: إنه لابد من تقييد الآية بـ: (لا تسألوا إلا عن الأشياء التي أنتم محتاجون إليها في الدين) وهذا القيد لا داعي لتقديره؛ لأن هناك في الآية قيداً يفيد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101] فمعناها: لكم أن تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تفيدكم وتنفعكم في دينكم. فمن مفهوم الآية نستغني عن افتراض مثل هذا القيد، فيقال: أما إذا كنتم تسألوا عن أشياء تفيدكم في دينكم ولابد لها من أمر الدين كما يسأل السائل الذي يبحث عن الحق فلا حرج في ذلك.

فما تدعو إليه الحاجة لا تشمله الآية كما يتضح من نظمها الكريم مع ما قيدته السنة في سبب النزول؛ لأنه معروف وواضح سبب النزول، سواء أكان في هذا الرجل الذي قال: من أبي؟ أم من قال: أكل عام؟ أم غير ذلك، فيتضح أن النهي إنما هو عن الأشياء التي تشق عليهم من التكاليف الصعبة، أو الأشياء المستورة التي يفتضحون بجوابها، مما القول فيه فضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه المفسدة، والعاقل مطالب بأن يحترز عما ينتج عنه مفسدة.

فتحرج الصحابة رضي الله عنهم عن السؤال معلوم أنه فيما لا ضرورة إليه، وإلا فكتب السنة طافحة بالأحاديث التي تدل على أنهم سألوه كثيراً جداً، وسألوه عن الشيء الذي لابد منه في الدين إما من الضروريات وإما من الحاجيات.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنت، روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) .

وروى أحمد وأبو داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات أو الغلوطات) وهي صعاب المسائل، والآثار في ذلك كثيرة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

السؤال: عن علة الحكم

قال: (الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم).

يعني هنا الحكم الشرعي من الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها، وهي لها معنى وحكمة وإن لم يطلع على ذلك، كتقبيل الحجر الأسود، وبعض مناسك الحج، أو أي أمر تعبدي كما هو معروف، فيكون الأمر من قبيل التعبد، ثم هو يتنطع ويسأل عن علة هذا الحكم مع أنه من الأمور التعبدية؛ كالسؤال عن علة قضاء الصوم دون الصلاة في حق الحائض والنفساء.

فعن معاذة رضي الله عنها قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!).

أي: أأنت من الخوارج؟! والخوارج يرون أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم، فلم تقف هذه المرأة عند ما ورد وحُدَّ لها في الشرع، ولذلك جاء جواب عائشة رضي الله عنها أولاً بأن وبختها وقالت: (أحرورية أنت؟!) أي: أأنت تذهبين مذهب الخوارج؟! لأن الخوارج ينسبون إلى حروراء، وهي بلدة أو قرية في العراق خرج منها الخوارج.

ثم قالت عائشة : (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فقولها: (كان يصيبنا ذلك) أي: في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2396 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع