البريد الأدبي
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
تقرير صحيفة ألمانية لأمة سامية
استقبلت مصر حين دخولها في عصبة الأمم في أواخر مايو الماضي بتحية إجماعية مؤثرة من اثنين وأربعين دولة بينهما اثنتان من الدول العظمى؛ وكان التقدير الذي لقيته مصر يقوم بالأخص على التنويه بمكانتها التاريخية، وعلى الدور العظيم الذي أدته في تكوين الحضارة اليونانية القديمة؛ ومن ثم في تكوين الحضارة الغربية بوجه عام؛ ولم تكن هذه المظاهرة الاجتماعية المؤثرة حديثاً أفلاطونياً فقط، ولكنها كانت إشارة بحقيقة تاريخية يستحيل على أوربا الحديثة تجاهلها، وفي الأسبوع الماضي نشرت جريدة (الأسبوع) الألمانية عدة صفحات خاصة بمصر وحضارتها القديمة، ثم استأنفت في عددها الصادر هذا الأسبوع فكتبت عدة صفحات أخرى واستطردت فيها إلى الإشادة بما لمصر من فضل على المدنية وما يرجى لها من مستقبل باهر، وهذه أول مرة في عهد ألمانيا النازية تقوم الصحف الألمانية بمثل هذه الإشادة بمقام أمة شرقية (سامية)، ولقد كان علماء الآثار الألمان في مقدمة علماء الغرب الذين عاونوا على اكتشاف الحضارة الفرعونية وعلى إظهار الدور العظيم الذي قام به الفراعنة في تكوين حضارة العالم، فلم تكن هذه الحقيقة بخافية يوماً على العلم الألماني. ولكن حدث بعد ذلك أن اجتاحت الدعوة الهتلرية العلم الألماني كما اجتاحت كل شيء في حياة هذه الأمة العظيمة، وذاعت نظريات هتلر عن الشعوب الشرقية والشعوب السامية بوجه خاص. فهذه الشعوب في نظر زعيم ألمانيا الجديدة، شعوب منحطة، هدامة للحضارة، غير أهل لإنشائها.
ومصر أمة سامية شرقية، فهي طبقاً لإنجيل ألمانيا الجديد أمة منحطة هدامة للحضارة، لا تستحق أن ترتفع إلى مصاف الأمم (الآرية) وهي الشعوب التي يحق لها أن تستعبد الشعوب السامية وأن تخضعهالثقافتها.
ولقد اعتبرت مصر في ألمانيا بعد ذلك بصفة رسمية دولة غير آرية لا يصح لأبنائها أن يختلطوا بالعنصر الآري، وكان لذلك فيما نذكر ضجة في العام الماضي.
فهل نعتبر إقدام صحيفة ألمانية كبيرة على التنويه بحضارة أمة (سامية) كمصر دليلاً على تطور هذه النظرية النازية المجحفة؟ إن الصحافة الألمانية تخضع في كل ما تكتب لرقابة حكومية صارمة؛ فإذا كان يسمح لها الآن أن تنوه بمركز أمة (غير آرية) في إنشاء الحضارة العالمية، فإنه يسمح لنا إن نعتقد أن التفكير الألماني قد أخذ يتحرر من بعض النظريات المفرقة التي أذاعها كتاب (كفاحي)، وهي نظريات ليس لها في الغالب سند من التاريخ الحق أو التدليل الصائب. كتاب عن تاليران عرف تاليران الوزير الفرنسي الشهير بأنه نموذج للسياسي الداهية الذي لا يعرف في سبيل تحقيق سياسته مبدأ ولا ذمماً، وأضحى اسمه علماً على السياسة القادرة المتقلبة، بيد أن للتاريخ دورته وتطوراته؛ فإذا كان التاريخ قد رأى في تاليران من قبل سياسياً غادراً متقلباً، فقد يرى فيه اليوم رأياً آخر.
وهذا الرأي الجديد عن شخصية تاليران وعن سياسته يقدمه إلينا وزير إنكليزي هو مستر دوف كوبر في بحث تاريخي جليل صدر أخيراً بعنوان (تاليران) والواقع أن حياة تاليران العجيبة تستحق الدرس؛ فقد خرج من الكنيسة إلى السياسة، وخدم لويس الخامس عشر، فلويس السادس عشر، فالمؤتمر الوطني والثورة الفرنسية، فنابليون بونابرت في جميع أطوار حكمه، ثم لويس الثامن عشر، وشارل السابع، وأخيراً لويس فيليب؛ وهكذا وضع تاليران مواهبه تحت تصرف أنظمة وحكومات مختلفة؛ ولم يحجم في أي ظرف عن أن يتخلى عن حكومة أفل نجمها لتأييد حكومة جديدة، ولم ير بأساً من أن يخون عرشاً على وشك السقوط لخدمة عرش تألق نجمه؛ فهذا التقلب الغادر هو الذي يأخذه المؤرخون الفرنسيون على تاليران، ويرون فيه سفالة أخلاقية لا تغتفر؛ ولكن الوزير الإنكليزي يرى في كتابه الجديد رأياً آخر؛ فهو يرى أن تاليران كان مثل السياسي العملي البارع؛ وهو يقدم لنا عنه هذه الصورة القوية: (إن للفرنسيين ذاكرة بعيدة؛ والسياسة في نظرهم هي استمرار التاريخ.
والكتاب الفرنسيون ينتمون إلى مختلف الأحزاب والنحل: فهم ملكيون أو جمهوريون أو بونابارتيون.
أما تاليران فلم يخلص لناحية خاصة من هذه.
ولهذا لم يجد قط مدافعاً عنه في فرنسا.
ومع ذلك فليس للفرنسيين أن ينحوا عليه باللوم؛ ذلك لأن تقلباته كانت تبذل في سبيل فرنسا كلها، وهو يصرح بحق أنه لم يتآمر قط إلا حينما يندمج معظم مواطنيه في سلك المؤامرة.
وقد هلل كباقي الفرنسيين لمثل الثورة الفرنسية واعتقد في ضرورتها.
ولكنه كباقي فرنسا سخط على حكم الإرهاب وخدم الحكومة المؤقتة وناصر نابليون كرسول النظام والسلم.
بيد أنه كباقي فرنسا كان يبغض الظلم، فلما سئم من الحروب عاد يسعى إلى إعادة البوربون.
ولما رأى استحالة العمل مع شارل العاشر، اتجه نحو لويس فيليب، وقد كانت مثله التي لم يحد عنها قط الملكية الدستورية، وتأييد النظام والحرية في فرنسا.
والسلام في أوربا، والتحالف مع إنكلترا). وقد انتهى الوزير الإنكليزي إلى هذا الرأي بعد البحث واستقراء الوثائق التاريخية الهامة؛ وهو يستعرض كل أعمال تاليران وتقلباته ويشرحها على ضوء الحوادث والأشخاص؛ وهو يجنح إلى العطف في معظم تعليقاته؛ ومن رأيه أن تاليران كان من أعظم الساسة الذين عرفهم العالم، وأن تقلباته المزعومة لم تكن إلا نوعاً من السياسة العملية التي يقدرها الإنكليز قدرها، وأنه كان يتمتع بصفات باهرة جعلت منه أقدر سياسي في عصره. ونحن إذا قلبنا صحف تاريخنا وجدنا لدينا قرين تاليران؛ ذلك هو السياسي الفيلسوف ابن خلدون؛ فهو أشبه الناس بتاليران في خدمة الحكومات المختلفة، وفي الأخذ بقواعد السياسة العملية، وفي تقلباته مع الظافرين. من نفائس أوراق البردي تحتفظ مكتبة فينا الوطنية بمجموعة من أوراق البردي المصرية القديمة، ومنها خمسة أوراق ظهر من فحصها ودراستها أنها جزء من التوراة، وأن هذه التوراة المخطوطة هي أقدم توراة وجدت حتى الآن.
وقصة هذه التحفة الأثرية هي كقصة جميع التحف التي تتسرب من مصر إلى الخارج بانتظام؛ وهي أنه في سنة 1930 اشترى بعضهم لحساب مكتبة (فينا) عدة من أوراق البردي من أحد تجار العاديات في القاهرة؛ ولما أظهر البحث أنها قسم من التوراة سئل التاجر المذكور عما إذا كان يمتلك أوراقاً أخرى من هذا النوع فذكر أنه باع مجموعة أخرى منها إلى أحد اليهود المشهورين وهو مستر شستربيتي.
ولم يمض على ذلك قليل حتى أذاعت الدوائر الأثرية في لندن أنها قد حصلت على أقدمنسخة في العالم كله من العهد الجديد (الإنجيل)، وبه نص كامل لإنجيل متي، وأن هذه النسخة ترجع إلى منتصف القرن الثالث الميلادي.
وتحتفظ فينا في الوقت نفسه بأقدم قطعة من أوراق البردي اليونانية، وبهذه الوثيقة نص كامل لقصة (فرار ارتميسيا) الشهيرة كذلك تحتفظ بأقدم ورقة من أوراق البردي اللاتينية، وهي وثيقة عسكرية ترجع إلى أيام الإمبراطور أوغسطوس أعني إلى القرن الأول من الميلاد غير أنه لا ريب أن أوراق البردي المصرية القديمة من أثمن ما تحتفظ به العواصم الأوربية المختلفة، ومع أن مصر لا زالت تحتفظ منها بمجموعة ضخمة فإن أثمن ما فيها قد تسرب إلى الدوائر الأثرية الأجنبية في مختلف أنحاء العالم. المكاتب العامة في فرنسا قررت الحكومة الفرنسية تحقيقاً لأغراض سياستها الثقافية أن تعمل على تعميم المكاتب الشعبية بطرق وأساليب مغرية للقراءة والتثقيف.
وقد رؤى أن تنظم هذه المكاتب في المدن المكتظة بطريقة خاصة، إذ تنشأ في مواقع مزهرة منيرة، وأن تعمل لها واجهات زجاجية تحلى بالصور ولأزهار والتحف، ثم تعرض فيها أحدث الكتب كما تفعل المكاتب التجارية؛ والمقصود بذلك التوصل إلى إغراء المارة من عمال وعاملات وطلبة أنهكهم العمل أو الطواف بدخول المكتبة وتمضية لحظات في القراءة أو تصفح الكتب والمجلات المصورة، وسيعنى بأن تعرض في هذه المكاتب جميع الصحف والمجلات من كل لون ونزعة سياسية، كما تعرض الكتب العلمية والروايات وغيرها ليكون هناك مجال للجميع كل حسب ذوقه ونزعته، كذلك ستنشأ في هذه المكتبات أجنحة خاصة للأطفال وتزود بطائفة من كتب الأحداث المصورة؛ بل واللعب والصور المختلفة. المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب افتتح يوم الثلاثاء الماضي في باريس المؤتمر الدولي لكتاب اللغة الفرنسية من الأجانب فألقى الأستاذ جورج قطاوي الأديب المصري خطبة جاء فيها: في مقدمة الكتاب المصريين باللغة الفرنسية واصف غالي باشا وزير الخارجية المصرية وقد شرفنا بحضور اجتماعنا هذا.
وجميع المصريين يقدرون عمله السياسي حق قدره، فالاستقلال الذي أحرزته مصر مكنها من دخول جامعة الأمم من عهد قريب مرجع الفضل فيه إلى الجهود الوطنية والتضحيات وهمة الذين جاهدوا إلى جانب سعد زغلول باشا وفي جملتهم واصف غالي لنيل الأمة المصرية مطالبها المشروعة.
فالخطب التي ألقاها واصف غالي والنشرات التي أصدرها في أثناء الثورة المصرية تكاد تكون صدى لصوت دانتون أحد أعلام الثورة الفرنسية الكبرى.
ومع اشتغال واصف غالي بالشئون السياسية لم يهمل حرفة الأدب والبحوث التاريخية وقرض الشعر، فإن آثاره القلمية معدودة من محاسن النثر وعيون الشعر، وقد بين أن الغرب والنصرانية اقتبسا كثيراً من الحضارة الإسلامية.
وأحيا ذكر شياطين الشعر العربي القديم والقصة العربية، ولم يسبقه في معالجة هذا الموضوع إلا المغفور له ثروت باشا أحد رؤساء الوزارة المصرية السابقين. وما من أديب في مصر كلطفي السيد وطه حسين وأحمد ضيف ومنصور فهمي لم ينشر نبذاً باللغة الفرنسية على هامش مؤلفاته العربية النفيسة.
ولو شئنا الإسهاب في هذا الموضوع لتمادى الكلام إلى مدى بعيد.
وحسبنا أن نذكر أسماءهم.
وأظن أن اسمي عدس وجوزيبوفتشي مستحقان أن يكونا في رأس جدول أسماء الذين نكرمهم، فإن كتابهما (جحا الساذج) قد بلغ بهما إلى أوج البلاغة، فقال عنه اوكتاف ميريو إنه لا يقل قيمة عن الكتب التي نسجت بردتها يراع ستندهال وفلوبير وتلستوي. وقال إنه لم يدرك حقيقة الشرق إلا حينما قرأ كتاب (جحا الساذج) وكتب أحمد ضيف بالاشتراك مع فرنسوا بون جان قصة (منصور) وغيرها فوصف الأول محاسن الريف المصري ومعيشة النوتية في النيل ومرفأ الإسكندرية، واشترك معه بون جان في وصف جامعة الأزهر. وفي جملة الذين عالجوا محاسن مصر القديمة التركية أحمد راسم فإن نثره الشعري يحكي بسلاسته وابتكاره ما نراه في شعر فرنسيس جام، وفي كتابة أحمد راسم تكثر النكتة والتعابير الشعرية والأمثال العلمية.
وقد عالج تحليل قصائد الشعراء المصريين باللغة الفرنسية، وسيتسنى لكم الإطلاع على تراجم هؤلاء الشعراء في الديوان الذي يعده في القاهرة المسيو روبرت بلوم الأديب الفرنسي الذي اختار مصر وطناً له. ومن المؤلفين الذين لا يذهل راسم عن الإشادة بهم أمامكم شاعر أريد أن أسبقه إلى التنويه به وهو محمد ذو الفقار فإنه من أرقى شعراء مصر وأحسنهم ديباجة، ولكنه ينفر من الظهور والتبجح، وهو علاوة على تفوقه في الشعر يعد من المصورين البارعين.
ويحب في غالب الأحيان أن يستر عواطفه الحقيقية بنكتة لطيفة أو بتهكم لاذع.
وقد قال عنه أحد النقاد: (أن الكلمات العادية في اللغة الفرنسية تتخذ إذا عالجها بقلمه طلاوة جديدة). وأول من رفع الستار عن قصائد ذو الفقار وأعلنها للجمهور هو الكاتب المصري جورج دوماني بك، ولم يكن قبل ذلك قد اطلع عليها إلا خلصاؤه.
أما جورج دوماني الذي استهوته السياسة والأعمال وشغلته عن عالم الأدب، فهو والحق يقال من أدق النقادين نظراً وألذعهم قلماً.
فالمواهب التي يسخرها لتخليد ذكرى بعض زملائه وإظهار عبقرية البعض الآخر، تدل على أن نزوعه إلى النقد لم يضعف فيه قوة الشاعرية. ومن عهد قريب صارت مصر تضيف إلى عداد شعرائها الذين ينظمون باللغة الفرنسية شاعرة جديدة هي السيدة قوت القلوب كريمة المغفور له عبد الرحيم الدمرداش باشا، فقد أصدرت رواية مطولة بعنوان (الحريم) أجادت في إنشائها كل الإجادة ونظم لها الكتاب الفرنسيون عقود الثناء عليها. وإذا كانت الصداقة، الحقيقية وليدة اندغام بعض المتضادات والتقرب عن طريق المصاهرة فقد وجدت فرنسا ومصر لتتفاهما فعند طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط لا تتخدش شواطئنا المتطرفة بخطوط منحرفة.
وكأن شعبينا قد أعدا من الوجهتين الجغرافية والتاريخية لأن يكونا في ملتقى الطرق حيث تتواجه وتندغم الحضارات المتضادة.
فباريس في الغرب تقوم بين العالم الجرماني والعالم اللاتيني بهمة تماثل المهمة التي تقوم بها الإسكندرية بين آسيا والعالم الأفريقي.
ونجد في فرنسا كما نجد في مصر الفلاح المتعلق بالأرض وحراثتها، فاليسر لم يجرده من الميل إلى العمل ولا التعلق بأهداب الحرية ولا يسعى وراء الاقتصاد المحمود.
وكان (بوسيه) يقول عن مصر الفرعونية: إن الأحوال الجوية المتساوية فيها دائماً تولي عقول أهلها متانة وثباتاً.