الروض المربع - كتاب الصلاة [73]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاة أهل الثغر، أي: موضع المخافة، في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، والأفضل لغيرهم أي: غير أهل الثغر، الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره؛ لأنه يحصل بذلك ثواب عمارة المسجد وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه، ثم ما كان أكثر جماعة، ذكره في الكافي والمقنع وغيرهما، وفي الشرح أنه الأولى لحديث أبي بن كعب : ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )، رواه أحمد و أبو داود وصححه ابن حبان ، ثم المسجد العتيق؛ لأن الطاعة فيه أسبق، قال في المبدع: والمذهب أنه مقدم على الأكثر جماعةً، وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب: أن المسجد العتيق أفضل من الأكثر جماعة، وجزم به في الإقناع والمنتهى، وأبعد المسجدين أولى من أقربهما إذا كانا جديدين أو قديمين، اختلفا في كثرة الجمع أو قلته أو استويا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى )، رواه الشيخان، وتقدم الجماعة مطلقاً على أول الوقت].

حكم صلاة الجماعة في حق أهل الثغور

المؤلف رحمه الله حينما ذكر مسألة صلاة الجماعة، وعلى من تجب، وفي أي مكان تصلى، ذكر مسألة أهل الثغر، وهم الذين يحرسون الأمة أو البلد في مكان يخشى أن يأتيهم العدو من جهتهم، وهو كالثلمة على الجدار، وعلل المؤلف استحباب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد بقوله: (لأنه أعلى للكلمة وأوقع للهيبة)، وهذا على حسب المصلحة، فلربما كانت المصلحة أن يصلوا جميعاً في مسجد واحد، بحيث ينقل العين وهو الجاسوس عن قوتهم وهيبتهم واجتماعهم وينظر إليهم، وربما كان في اجتماعهم مضرة عليهم، كما في هذا الزمان الحالي؛ لأن اجتماع المسلمين أو المقاتلين في مكان واحد يسهل عملية قتلهم من جهة العدو؛ لأن الحرب جوية، فهذا على حسب المصلحة، لا على حسب وجود العبادة، فالعبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها أو مكانها؛ فربما لا يكون عند المقاتل من الخشوع مثلما لو كان وحده بعيد عن الآخرين، فيقال: العبادة المتعلقة بذاتها وهي الخشوع أولى من العبادة المتعلقة بمكانها أو زمانها.

وعلى هذا فقول المؤلف هنا الأقرب، أن ذلك على حسب المصلحة، والله أعلم.

فإذا تساوى الأمران فلا شك أن اجتماعهم فيه قوة وأجر من حيث ذات الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده )، كما سيأتي في الحديث الذي صححه كثير من أهل العلم.

حكم صلاة الشخص في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره

قال المؤلف رحمه الله: (والأفضل لغيرهم)، يعني: غير المقاتلين أو غير أهل الثغور، (الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)، هذه المرتبة الأولى، وهي أن صلاة الإنسان في مسجد لا تقام فيه الجماعة إلا بوجوده، أولى من الصلاة في مسجد آخر، ولو كان قديماً أي: عتيقاً أو كثير الجماعة، مثلاً: الآن أحياناً يكون الإنسان له قصر على الطريق ووضع له مسجد، ووضع له إمام، ربما يكون الإمام موجوداً عنده، فكونه يصلي في هذا المسجد يجعل المسجد يفتح ويصلى فيه، فيقال: صلاتك في هذا المسجد أولى؛ لأنك إذا صليت فتح المسجد وصلى الناس وأقيمت الجماعة، فصلاتك فيه أولى من صلاتك في مسجد آخر ولو كان بعيداً وأكثر خطا، ولو كان عتيقاً ولو كان أكثر جماعة؛ لأن هذا لا تقام فيه الجماعة إلا بحضورك، ومثل هذا موجود عندنا كثيراً.

فإن كانت الجماعة تقام ولو لم يحضر؛ صارت المسألة مبنية على ذات الصلاة نفسها، فيقال: الصلاة مع الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة مع الجماعة القليلة أو في المسجد العتيق كما سيأتي رأي المذهب في هذا.

وعلى هذا: فكون الإنسان يصلي في مسجد لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ربما كان أفضل، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: ومن كان إماماً راتباً في مسجد فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره ولو كانت الجماعة كثيرة، وهذا يحصل في بعض المساجد التي ما يكون فيها قارئ إلا فلان، فيقولون: صل بنا يا فلان. إذا ما صليت فلن نصلي المغرب ولا العشاء؛ لأننا لا نحسن القراءة، فيقول: لا، أنا أريد أن أصلي مع الإمام الفلاني؛ لأنه حسن الصوت فيذهب إليه، فنقول: يا فلان! صلاتك في هذا المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة في صلاة المغرب والعشاء إلا بحضورك أفضل من صلاتك في مسجد آخر. كذلك صلاة التراويح، صلاتك يا فلان! في هذا المسجد، بحيث يصلي كبار السن والناس والنساء أفضل من صلاتك في مسجد آخر ولو كان ذلك أدعى لخشوعك؛ لأن الجماعة سوف تقام بسببك، هذا في حق المرء نفسه.

فإذا كانت الجماعة سوف تقام، نظر المؤلف إلى نفس العبادة.

المفاضلة بين الصلاة في المسجد الأكثر جماعة والمسجد العتيق

إذاً عندنا ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: إذا نظرنا إلى أمر خارجي، وهو صلاة أهل الثغور، قلنا: أداؤها جماعة أعلى للكلمة وأوقع للهيبة، فنظرنا إلى أمر خارجي ليس في ذات العبادة ولا في ذات المصلي.

المرتبة الثانية: إذا نظرنا إلى نفس الفاعل وهو المكلف، فإذا كانت صلاة الجماعة لا تقام إلا بك؛ فإنك تصلي، وهي أفضل من صلاتك في مسجد آخر ولو كثرت جماعته.

المرتبة الثالثة: إذا تساوى؛ ذهبنا إلى ذات العبادة نفسها، وذات العبادة أيها أفضل الصلاة في المسجد العتيق أم الصلاة في المسجد الأكثر جماعة؟

اختلف المذهب في ذلك على روايات:

الرواية الأولى: قال المؤلف رحمه الله: (ثم ما كان أكثر جماعة)، يعني: إذا كانت الصلاة ليست صلاة ثغور وسوف تقام الجماعة ولو لم يحضر، فإن الأفضل الحضور مع الجماعة الأكثر، يعني: كونك تصلي في مسجد فيه ثلاثة صفوف أفضل من الصلاة في مسجد فيه أحد عشر شخصاً.

قال المؤلف رحمه الله: (ذكره في الكافي والمقنع وغيرهما وفي الشرح)، إذا قالوا: (في الشرح) فالمقصود به الشرح الكبير لـابن أبي عمر ؛ لأنه شرح كتاب المقنع للإمام أبي محمد بن قدامة .

قال المؤلف رحمه الله: (أنه الأولى، لحديث أبي بن كعب الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه ابن حبان ) وكذلك يحيى بن معين و علي بن المديني وغيرهما، والحديث إسناده جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى ).

الرواية الثانية: هي أن الصلاة في المسجد العتيق أولى من الصلاة في المسجد الأكثر جماعة، يقولون: (لأن الطاعة فيه أسبق)، والمؤلف ذكر ذلك في المرتبة الثانية من حيث ذات العبادة.

قال المؤلف رحمه الله: (قال في المبدع)، والمبدع هو شرح للمقنع للإمام ابن مفلح و ابن مفلح عددهم ثلاثة، وابن الأثير عددهم ثلاثة أو أربعة، والظاهر أنهم ثلاثة، ابن مفلح صاحب الفروع و ابن مفلح صاحب التراجم، و ابن مفلح صاحب المبدع، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم.

على كل حال كتاب المبدع أرى أن اهتمام طلاب العلم به قليل، إلا أنه مليء بالمسائل التي ربما تكون مترابطة فيما بينها من المسائل، أحياناً مسألة في طهارة المياه ومسألة في الصلاة، فتجد أن هذا المؤلف يجمع بينهما، وقد ذكرت مسألة في الحيض، وقلت: لن تجدها إلا في المبدع، ومسائل كثيرة في الحج، وصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير أم جمع تقديم على المذهب؟ وغير ذلك من المسائل.

قال المؤلف رحمه الله: (المذهب أنه مقدم على الأكثر جماعة)، يعني: المسجد العتيق مقدم على المسجد الأكثر جماعة، (قال صاحب الإنصاف) وهو المرداوي : (الصحيح من المذهب: أن المسجد العتيق أفضل من الأكثر جماعة، وجزم به في الإقناع والمنتهى)، والقاعدة: أن المذهب عند الحنابلة هو ما اختاره صاحب الإقناع والمنتهى، وإن اختلفا، يعني في الإقناع قول وفي المنتهى قول، فذهب الأصحاب إلى ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: أن المذهب ما كان في المنتهى، وهذا هو المشهور عند المتأخرين. والاتجاه الثاني: أن المذهب ما في الإقناع، وهذا أضعفها. والاتجاه الثالث: أن المذهب ما اختاره مرعي في غاية المنتهى، وإذا قلنا: إن المذهب ما في المنتهى لم نحتج إلى أن نقول: المذهب ما اتفق الإقناع والمنتهى عليه؛ لأننا عولنا على ما في المنتهى، لكن الذي يظهر أن هذا ليس على سبيل الاطراد، أما إذا وجدت هذه المسألة عند أحدهما ولم توجد عند الآخر فهذا ما فيه إشكال.

والذي يظهر -والله أعلم-: أن ذلك على حسب كل مسألة، وإن كان الأكثر أن ما في المنتهى هو المذهب، فإن صاحب المنتهى قد أجاد العبارة، وأحكم الصياغة، بخلاف صاحب الإقناع، فإن عبارته ربما توهم وليست محكمة مثل إحكام المنتهى، وإن كانت مسائل الإقناع أكثر، ولهذا يسمون كشاف القناع مكنسة المذهب؛ لأنها لا تكاد توجد مسألة إلا وفيها إشكال.

على كل حال المذهب على سبيل تقعيد المتأخرين، أن الصلاة في المسجد القديم العتيق أولى من الصلاة في المسجد الأكثر جماعة هذا المذهب، وإن كان البهوتي إنما اختار ذلك أي المسجد الأكثر جماعة على المسجد العتيق؛ لأنه اختيار مذهب الأصل والأصل هو المقنع، لأن زاد المستقنع اختصار المقنع، فهو قدم ما اختاره صاحب المقنع، وإن كان المذهب تفضيل الصلاة في المسجد العتيق.

والأقرب -والله أعلم- هو المسجد الأكثر جماعة، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل المسجد العتيق، إنما فضل المسجد الحرام؛ لأنه مسجد حرام، وليس لأنه أول مسجد وضع في الأرض.

وعلى هذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة في المسجد الأكثر جماعة أفضل؛ ولأن المصلحة في كثرة الجماعة أرجح من قدم المسجد، ولهذا ينبغي أن يعلم أن الإنسان ربما إذا صلى في المسجد القريب من بيته يكون ذلك أدعى لانشراح صدر الإمام وعدم سوء الظن به، وكذلك أدعى إلى انشراح صدر الجماعة بوجوده، كل هذه لها اعتبارات، فلو أن إنساناً جاراً لمسجد ولا يصلي فيه وإنما في مسجد آخر، فإنه يشك في أمره ويقال: لماذا لا يصلي في المسجد الذي هو قريب من بيته؟ فيكون هذا مثل مسألة الذي لا تقام الجماعة إلا به، إن نظرنا إلى نفس الفاعل، والله أعلم.

حكم صلاة الجماعة في المسجد الأبعد مع وجود مسجد أقرب منه

قال المؤلف رحمه الله: (وأبعد المسجدين أولى من أقربهما إذا كانا جديدين أو قديمين اختلفا في كثرة الجمع أو قلته أو استويا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ) )، هذا الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولا شك أن الأحاديث قد دلت على أن الإنسان يؤجر في مشيه إلى الصلاة، كحديث ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى )، وجاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم )، وحديث أبي بن كعب: ( كان رجل من الأنصار بيته أبعد بيت في المدينة، وكان لا تخطئه الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتي إلى المسجد على رجليه فقلت له: لو اتخذت حماراً يقيك من حر الرمضاء، فقال: والله! ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ومعنى مطنب أي جنب، المعنى: ما أحب أن بيتي جنب بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فـأبي بن كعب ظن أن هذا الرجل لا يريد أن يكون قريباً من الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( فوقع في قلبي عليه ما شاء الله منه، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكره على ذلك )، لأنه يريد الأجر في المشي.

قال المؤلف رحمه الله: (وأبعد المسجدين أولى من أقربهما)، أي: إذا تساوت المصلحة، فربما يكون المسجد القريب أولى من البعيد، إذا كان في ذلك مصلحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة حينما كانوا يأتون وهم من أهل العوالي يأتون إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ( دياركم تكتب آثاركم )، يعني: لا تأتوا إلينا، بقاؤكم هناك أنفع لكم وأنفع لبلدكم أو قريتكم، وهذا الذي نقصده فنقول: أي المسجدين أفضل للإنسان البعيد أم القريب؟ نقول: على حسب المصلحة، فإن تساوت المصلحة من حيث الجماعة، فإن الصلاة في المسجد البعيد أفضل، بشرط، أن يكون المقصد كثرة الخطا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإسباغ على المكاره، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط )، ولن يتأتى هذا إلا في حق من يأتي إلى المسجد مبكراً.

لكن يبقى السؤال قائماً: أيهما أفضل أن يذهب إلى المسجد القريب مبكراً فيصلي ويتسنن ويقرأ القرآن، أم يذهب إلى المسجد البعيد وربما تأخر في الوصول إليه؟

الجواب: إن كانت سوف تفوته تكبيرة الإحرام، فلا شك أن صلاته في المسجد القريب أولى من المسجد البعيد، وأما إذا كان سوف يفوته قراءة القرآن فإنه ما زال في صلاة من حين أن يخرج، فكونه يذهب مشياً وهو يقرأ القرآن أو يسبح ربما يكون أفضل، والله أعلم.

حكم تقديم الجماعة على أول وقت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (وتقدم الجماعة مطلقاً على أول الوقت)، صورة المسألة: لو أن إنساناً يريد أن يصلي صلاة المغرب أول الوقت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يصلونها من حين غروب الشمس، ولهذا قال أنس : كانت صلاة المغرب يؤذن المؤذن لها فيبتدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السواري. وهذا دليل على أنهم كانوا يسارعون في الصلاة قبل الإقامة خشية الإقامة، وفي هذا دلالة على أن صلاة المغرب في أول الوقت أفضل، لكن لو أن الجماعة لم تتحصل إلا في وقت متأخر، فإن تحصيل الجماعة أولى من أول الوقت؛ لأن الجماعة متعلقة بذات الصلاة، والوقت متعلق بزمانها، والعبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها، كما قال الحنابلة: الصلاة في طهارة ماء أفضل من الصلاة في طهارة تيمم، وقلنا: إن الراجح أنه يصلي في أول الوقت؛ لأن (الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، لكنه قال: (تقدم الجماعة مطلقاً على أول الوقت)، والذي يظهر -والله أعلم- أنه إن كان الوقت يتأخر إلى آخره ولو كان وقت الصلاة متسعاً، فإن تحصيل الصلاة في أول الوقت أولى من تحصيل الجماعة.

إذاً: إن كانت الجماعة تتأخر تأخراً إلى آخر الوقت كان تحصيل الوقت أولى من تحصيل الجماعة، وإن كان الوقت يسيراً وهو لا يبعد أن يكون في أول الوقت، فإن تحصيل الجماعة أولى.

مثاله: لو أن الجماعة تتأخر تأخراً شديداً، حتى أن الإنسان ربما لا يجد الفرصة ليذهب إلى بيته لحضور وقت الصلاة الأخرى، قلنا: الصلاة في أول الوقت أولى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( سوف يكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة إلى آخر ميقاتها -يعني آخر وقتها- ويخنقونها إلى شرق الموتى قال أبو ذر : فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل تكن لك نافلة )، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل الوقت، وعلى هذا فالذي يظهر أن الوقت ولو كان في أوائله ولو كان سيتأخر أوله. فإن تحصيل الجماعة أولى؛ لأن الإنسان ما زال في الوقت، وإن كان سوف يتأخر تأخراً ظاهراً، فتحصيل الوقت أولى من تحصيل الجماعة، والله أعلم.

المؤلف رحمه الله حينما ذكر مسألة صلاة الجماعة، وعلى من تجب، وفي أي مكان تصلى، ذكر مسألة أهل الثغر، وهم الذين يحرسون الأمة أو البلد في مكان يخشى أن يأتيهم العدو من جهتهم، وهو كالثلمة على الجدار، وعلل المؤلف استحباب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد بقوله: (لأنه أعلى للكلمة وأوقع للهيبة)، وهذا على حسب المصلحة، فلربما كانت المصلحة أن يصلوا جميعاً في مسجد واحد، بحيث ينقل العين وهو الجاسوس عن قوتهم وهيبتهم واجتماعهم وينظر إليهم، وربما كان في اجتماعهم مضرة عليهم، كما في هذا الزمان الحالي؛ لأن اجتماع المسلمين أو المقاتلين في مكان واحد يسهل عملية قتلهم من جهة العدو؛ لأن الحرب جوية، فهذا على حسب المصلحة، لا على حسب وجود العبادة، فالعبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها أو مكانها؛ فربما لا يكون عند المقاتل من الخشوع مثلما لو كان وحده بعيد عن الآخرين، فيقال: العبادة المتعلقة بذاتها وهي الخشوع أولى من العبادة المتعلقة بمكانها أو زمانها.

وعلى هذا فقول المؤلف هنا الأقرب، أن ذلك على حسب المصلحة، والله أعلم.

فإذا تساوى الأمران فلا شك أن اجتماعهم فيه قوة وأجر من حيث ذات الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده )، كما سيأتي في الحديث الذي صححه كثير من أهل العلم.

قال المؤلف رحمه الله: (والأفضل لغيرهم)، يعني: غير المقاتلين أو غير أهل الثغور، (الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)، هذه المرتبة الأولى، وهي أن صلاة الإنسان في مسجد لا تقام فيه الجماعة إلا بوجوده، أولى من الصلاة في مسجد آخر، ولو كان قديماً أي: عتيقاً أو كثير الجماعة، مثلاً: الآن أحياناً يكون الإنسان له قصر على الطريق ووضع له مسجد، ووضع له إمام، ربما يكون الإمام موجوداً عنده، فكونه يصلي في هذا المسجد يجعل المسجد يفتح ويصلى فيه، فيقال: صلاتك في هذا المسجد أولى؛ لأنك إذا صليت فتح المسجد وصلى الناس وأقيمت الجماعة، فصلاتك فيه أولى من صلاتك في مسجد آخر ولو كان بعيداً وأكثر خطا، ولو كان عتيقاً ولو كان أكثر جماعة؛ لأن هذا لا تقام فيه الجماعة إلا بحضورك، ومثل هذا موجود عندنا كثيراً.

فإن كانت الجماعة تقام ولو لم يحضر؛ صارت المسألة مبنية على ذات الصلاة نفسها، فيقال: الصلاة مع الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة مع الجماعة القليلة أو في المسجد العتيق كما سيأتي رأي المذهب في هذا.

وعلى هذا: فكون الإنسان يصلي في مسجد لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ربما كان أفضل، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: ومن كان إماماً راتباً في مسجد فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره ولو كانت الجماعة كثيرة، وهذا يحصل في بعض المساجد التي ما يكون فيها قارئ إلا فلان، فيقولون: صل بنا يا فلان. إذا ما صليت فلن نصلي المغرب ولا العشاء؛ لأننا لا نحسن القراءة، فيقول: لا، أنا أريد أن أصلي مع الإمام الفلاني؛ لأنه حسن الصوت فيذهب إليه، فنقول: يا فلان! صلاتك في هذا المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة في صلاة المغرب والعشاء إلا بحضورك أفضل من صلاتك في مسجد آخر. كذلك صلاة التراويح، صلاتك يا فلان! في هذا المسجد، بحيث يصلي كبار السن والناس والنساء أفضل من صلاتك في مسجد آخر ولو كان ذلك أدعى لخشوعك؛ لأن الجماعة سوف تقام بسببك، هذا في حق المرء نفسه.

فإذا كانت الجماعة سوف تقام، نظر المؤلف إلى نفس العبادة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2629 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2587 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2546 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2543 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2522 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2451 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2386 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2373 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2357 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2354 استماع