باكستان : أمريكا وقلب الموازين
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
كاميرون مونتير سفير الولايات المتحدة لدى إسلام أباد، والذي قرر أن يغادر موقعه قبل إكمال مدته كسفير لبلاده في باكستان، لم يشأ إلا أن يقلب الموزاين في المقابلة الأخيرة التي أجرتها معه قناة البي البي سي البريطانية، فقد قال: "أن إقدام حكومة باكستان على إعادة فتح أراضيها أمام مرور الإمدادات للقوات الأمريكية وقوات حلف الناتو في أفغانستان أمر يصب في مصلحة باكستان"، وبرر ذلك بالقول: "بأن باكستان قد قامت بعزل نفسها أمام العالم، ودخلت في أزمة مع خمسين دولة لها تمثيل عسكري في أفغانستان".
ولكن هذه ليست الحكاية بأكملها، بل أن فيها نقص متعمد لم يرغب السفير الأمريكي في الإشارة إليه أو لربما أنه يحاول نسيانه، وهو التكاليف الباهظة جدا، والتي أعيت الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في نقل الإمدادات عبر طريق يسمى شبكة التوزيع الشمالي، والذي يمر في دول أسيا الوسطى إلى روسيا، ومنها إلى الدول المطلة على بحر البلطيق، أو من دول أسيا الوسطى إلى أذربيجان وأرمينيا ومن ثم إلى البحر الأسود، وكلا الطريقين يكلفان مبالغ باهظة مقارنة مع الكلفة الزهيدة لقاء المرور بالأراضي الباكستانية إلى أفغانستان.
فقد عانت الولايات المتحدة ودول حلف الناتو باقتصادياتها المتعثرة وأوضاعها المالية الضعيفة من ثقل التكلفة المالية لإيصال المواد الغذائية والإمدادات إلى جنودها في أفغانستان، بسبب الحظر الذي فرضته باكستان على مرورها بأراضيها بعد قيام مقاتلات حلف الناتو بقصف موقع حدودي باكستاني في نوفمبر الماضي، وقتل 26 جنديا باكستانيا، واضطرت القيادة المدنية والعسكرية الباكستاينة إلى الرضوخ أمام ضغوط الولايات المتحدة وتهديداتها بوقف جميع أشكال القروض وأموال الدعم المشروطة وغير المشروطة عن باكستان، وقامت حكومة حزب الشعب الحاكم بقيادة الرئيس (أصف علي زرداري) بإعادة فتح منافذ البلاد أمام مرور الإمدادات بعد أن حصلت على اعتذار -وُصف بأنه لا يشبه الاعتذار- من هيلاري كلنتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة، وهو الشيء الوحيد الذي حصلت عليه، إذ أنها أخفقت في تحقيق بقية الشروط التي وضعتها لجنة الأمن الإستراتيجي بالبرلمان الباكستاني، والتي طالبت بعدة أمور من بينها وقف هجمات طائرات التجسس الأمريكية بدون طيار على الأراضي الباكستانية، ودفع مبلغ لا يقل عن 1000 دولار عن كل شاحنة تعبر الحدود، ويبدو أن باكستان حصلت من الولايات المتحدة على مبلغ 250 دولار أو أقل عن كل شاحنة، وهو أمر لم يتبلور بعد.
وكان بإمكان السفير الأمريكي أن يترك مناسبة إعادة فتح المنافذ أمام إمدادات قوات بلاده، يتركها تمر من خلال تقديم الشكر للحكومة والشعب الباكستاني -على سبيل اللباقة الدبلوماسية-، وأن لا يقوم بالتاكيد على أن المستفيد الوحيد من فتح المنافذ هو باكستان، تقديم الشكر كان من شأنه أن يعمل على ترطيب مشاعر الباكستانيين الرافضين لإعادة فتح المنافذ أمام الإمدادات، والذين لا زالت كراهية الولايات المتحدة هي السمة التي تميزهم.
ولم يكتفي السفير الأمريكي بذلك، بل كرر ما قاله الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في طوكيو، وهو أن العالم لن يشعر بالاستقرار إلا بعد القضاء على مخابئ المسلحين في مناطق باكستان القبلية، وأضاف السفير بأن على باكستان الكثير من الجهود التي يجب عليها القيام بها لدعم ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، والتي في مقدمتها شن عملية عسكرية ضد مخابئ شبكة حقاني بمناطق وزيرستان الشمالية، والتي تتهمها الولايات المتحدة وحكومة أفغانستان بأنها ترسل المسلحين لضرب مصالحها، وبالإضافة إلى ذلك، فإن السفير الأمريكي طالب باكستان بأن تكون جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة.
واكتفى السفير الأمريكي بالإجابة على تساؤل حول ممانعة ومعارضة الولايات المتحدة في السماح لباكستان بالاستمرار في مد أنابيب الغاز الإيراني إلى أراضيها، وتهديدها في هذا السياق بأنها سوف تعرض باكستان للعقوبات إذا هي استمرت في هذا المشروع، مع أن الولايات المتحدة منحت استثناء للهند لشراء الغاز والنفط من إيران، وسمحت للشركات الهندية لعقد صفقات تجارية مع إيران وللتقايض في هذا الإطار بالروبية الهندية التي قبلت بها إيران كبديل عن العملات الأخرى التي يُحظر على إيران التعامل بنكيا بها؛ اكتفى السفير الأمريكي بالقول: "بأن باكستان لا تعاني من نقص الطاقة، وأن كل ما هنالك هو أن باكستان تعاني -على حد وصفه- من سوء إدارة لأزمة الطاقة، وأنها بحاجة إلى إصلاحات في هذا القطاع"، في حين أن القاصي والداني يدرك مدى معاناة الشعب الباكستاني من قطع التيار الكهربائي طوال السنوات الأربع الماضية وحتى الآن، لفترات تزيد عن نصف الأربع والعشرين ساعة وربما أكثر من ذلك في كثير من مناطق باكستان المختلفة، حيث لا يصل التيار إلى بعض المناطق سوى لمدة أربع ساعات من الأربع والعشرين ساعة.
الولايات المتحدة وفي إطار ازدواجية المعايير، تحظر على باكستان الحصول على تقنيات الطاقة النووية السلمية، ولكنها منحت هذه الطاقة للهند وقدمت لها تسهيلات للحصول على الوقود النووي اللازم لمفاعلات إنتاج الطاقة، ولهذا فان القطاع الصناعي ينتعش في كل يوم في الهند، بينما أغلقت المصانع والمعامل في باكستان أبوابها لعدم توفر الوقود والطاقة، وقامت رؤوس أموال باكستان المحلية بالهجرة إلى الدول الإقليمية مثل بنجلادش، التي استقبلت رجال الأعمال الباكستانيين من العاملين في قطاع النسيج.
أما الأمر الأخر الذي قام السفير الأمريكي بالكشف عنه، فهو قوله بأن كلا من نواز شريف رئيس حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية المعارض، وعمران خان لاعب الكركت الذي تحول إلى سياسي والذي يترأس حزب الأنصاف الباكستاني، وهو المعارض لحزب الحكومة ولحزب نواز شريف، ويحاول أن يبرز ذاته كقوة ثالثة بديلة عنهما، فإن السفير قال أنهما يدعمان السياسات الأمريكية وأنهما أكدا له على ذلك.
والمستغرب أن كلا منهما لم يقم بالرد على ما قاله السفير الأمريكي، وفي قوله هذا خلاف واضح مع ما يقوم به كلٌ من هاذين السياسيين، وقيامهما دائما بالتصريح به على الملأ، وهو أنهما يعارضان السياسات الأمريكية، وخصوصا السياسات المتعلقة بالمنطقة ذات الصلة، أي أفغانستان ودول جنوب أسيا.
عبد الله علي - إسلام أباد - 4/9/1433 هـ