الروض المربع - كتاب الصلاة [56]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن نفخ فبان حرفان بطلت، أو انتحب، بأن رفع صوته بالبكاء من غير خشية الله تعالى فبان حرفان بطلت؛ لأنه من جنس كلام الآدميين، لكن إذا غلب صاحبه لم يضره؛ لكونه غير داخل في وسعه، وكذا إن كان من خشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت، فإن كان لحاجة لم تبطل؛ لما روى أحمد و ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: ( كان لي مدخلان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، فإذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح لي ) و للنسائي معناه، وإن غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب ونحوه لم يضره ولو بان حرفان ].

النفخ

قال المؤلف رحمه الله: (وإن نفخ فبان حرفان بطلت).

حكم المؤلف بأن النفخ إذا ظهر منه حرفان فإنه يكون كلاماً، وإذا كان كلاماً صار كلاماً خارج الصلاة وخارج مصلحتها؛ لأنهم يرون أن الكلام المنتظم يمكن أن يكون بالحرفين كأب، وأخ، ويمكن ألا يكون، فإذا بان منه حرفان فإنه صار كلاماً، وإذا صار كلاماً فإنه داخل في حكم الإجماع على أن من تكلم في الصلاة عامداً بطلت صلاته، والراجح، والله تبارك وتعالى أعلم، أن مثل النفخ والنحنحة والسعال وغير ذلك لا يعد كلاماً، وليس داخلاً في الكلام الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صلاة الكسوف: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد نفخ )، يعني: يقول وهو في سجوده: أف بسبب خشيته من الله سبحانه وتعالى، وأنه يرى ما لم نر، فلأجل هذا نفخ النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن صلاة الكسوف ليست بفرض، ولكن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض، ثم إن الكلام ممنوع في الفرض والنفل، فلما جاز أن ينفخ عليه الصلاة والسلام في النفل دل على جوازه في الفرض، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله تقسيم الكلام، وذكر أن منه ما يدل عليه معنى لا طبعاً، أو طبعاً ومعنى، أو طبعاً لا معنى، ولكن لعلنا نقول: إن الأقرب أن مثل النحنحة والنفخ وغير ذلك إذا لم يكن لحاجة فإنه مكروه أو خلاف أولى، وخلاف الأولى أولى؛ لأنه لم يرد فيه نهي واضح، وأما نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف فبسبب خشيته من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه حينما انفتل من الصلاة قال: ( لقد رأيت الجنة والنار )، والله تبارك وتعالى أعلم.

وأما ما استدل به أصحاب هذا القول وهم الحنابلة والحنفية والشافعية بـ ( أن من نفخ فقد تكلم )، فهذا حديث باطل، ولا يصح، ولا يعتمد عليه.

الانتحاب والبكاء

ثم ذكر المؤلف من انتحب، والانتحاب: هو البكاء الذي فيه صوت؛ ولهذا قال المؤلف: (بأن رفع صوته بالبكاء من غير خشية الله) فإن كان من خشية الله فإنها لا تبطل صلاته، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يصلون فيبكون وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109] أما إذا كان من غير خشية الله فإن المؤلف قال: (إن بان حرفان بطلت؛ لأنه من جنس كلام الآدميين)، لكنه قال: (لكن إذا غلب صاحبه لم يضره).

فالحنابلة رحمهم الله يرون إن كان النفخ أو الانتحاب لحاجة، مثل أن يكون الانتحاب لخشية الله، أو النفخ لمصلحة، مثل إنسان وقع في شيء فأراد أن يزيله مما يضره وهو في الصلاة فنفخ فيه ليطير، ونحو ذلك، فهذا لا تبطل صلاته؛ لأنهم يرون أنه فعل ذلك لحاجة، وهذا قريب من مذهب أبي حنيفة .

والقول الثاني: تبطل مطلقاً، وهو مذهب الشافعي .

والقول الثالث: لا تبطل مطلقاً، وهذا قول أبي يوسف ، وهو الرواية الأخرى عند الإمام أحمد ، وهذا الذي اختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله، ونصرها وقواها، وهذا أظهر والله أعلم، إلا أن بكاءه من غير خشية الله لا يشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن في الصلاة لشغلاً )، ومن المعلوم أن الذي يبكي من غير خشية الله اشتغل بذلك عن الصلاة، وقد قال في صحيح مسلم : ( إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ).

على هذا نعرف أن الراجح أن الانتحاب والنفخ ونحو ذلك إن كان لحاجة جاز، وإن كان لغير حاجة فهو خلاف الأولى، ولا تبطل مطلقاً، وهذا كما قلنا: قول أبي يوسف ومن السلف قول محمد بن سيرين ، واختيار أبي العباس بن تيمية ، ورواية عند الإمام أحمد .

ثم إن قولهم: (فبان حرفان بطلت لأنه من جنس كلام الآدميين)، لكن نحن نقول: هذا لا يعد كلاماً، ولا يسمى كلاماً في اللغة التي خاطبنا بها محمد صلى الله عليه وسلم، والكلام لا بد له من لفظ دال على المعنى دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال الناس وأحوال المصوتين فلا يسمى كلاماً، وليس داخلاً في الكلام المنهي عنه.

التنحنح

قال المؤلف رحمه الله: (أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت).

أفادنا المؤلف بهذه العبارة أن التنحنح في الصلاة إما أن يكون لحاجة، وإما أن يكون لغير حاجة، فإن كان لغير حاجة بطلت الصلاة؛ لأن النحنحة فيها حرفان، الألف والحاء مثل أن تقول: أح، أح، فبان فيه أربعة أحرف، إذا كررتها، ألف وحاء، ثم ألف وحاء، قالوا: فهذا كلام؛ لأن الكلام المنتظم يمكن أن يكون بالحرفين كأب. واستدل المؤلف بما روى الإمام أحمد و النسائي من حديث علي بن أبي طالب أنه قال: ( كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي ).

أما أن يكون لحاجة فالأقرب والله أعلم أنه جائز، وهذا قول عامة أهل العلم خلافاً لبعض الشافعية، وإن كان لغير حاجة، فإن مذهب الحنابلة والحنفية أنها تبطل.

والراجح والله أعلم أنها لا تبطل لأمور:

أولاً: أننا لو عددنا النحنحة كلاماً لما جاز ذلك بحاجة ولا بغير حاجة، إذا لم يكن لمصلحة الصلاة، لأننا لو عددنا النحنحة أو النفخ كلاماً لما جاز ذلك بحاجة ولا بغير حاجة إذا لم يكن لمصلحة الصلاة، فإن كان لحاجة في غير مصلحة الصلاة فإنها تبطل لو كان كلاماً، فإن الحنابلة قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتنحنح لـعلي ، فهل تنحنح النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة أم لخطاب الآدمي؟ فالجواب: أنه تنحنح لخطاب الآدمي، فإنه لو كان كلاماً فهذا أولى بالبطلان؛ لأنه كلام لآدمي يفهم مراد المصلي، فدل ذلك على أن النحنحة ليست بكلام؛ لأنها لو كانت كلاماً لبطلت الصلاة إذا لم يكن لمصلحتها، سواء كان لحاجة أو لغير حاجة.

ثانياً: أننا نقول: إن الكلام الذي خاطبنا النبي صلى الله عليه وسلم به في لغة العرب ليس من هذا النوع، وما استدل به الحنابلة من حديث علي رضي الله عنه فإن الحديث روي من طرق، وهذا الطريق الذي ( كان لي مدخلان من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، هذا رواه الإمام أحمد و ابن ماجه وكذلك النسائي ، وهذا لفظ النسائي ، وفيه ألفاظ أخرى، ولكننا نقول: إن هذا الحديث من طريق عبد الله بن نجيم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و عبد الله بن نجيم لم يثبت سماعه من علي ، فدل ذلك على أن الحديث فيه انقطاع، زد على ذلك أن الأقرب والله أعلم في هذا الحديث أنه مرسل والله أعلم، وما جاء من طريق عبد الله بن نجيم الحضرمي عن أبيه، فبعض العلماء رحمهم الله يرى أن الراوي عن عبد الله بن نجيم أخطأ في ذلك، وأن الأقرب أنه من طريق عبد الله بن نجيم عن علي .

ثم إن الطريق الثاني لو كان أصح وهو عبد الله بن نجيم عن أبيه عن علي ، فليس فيه النحنحة في الصلاة، فإنه قال في طريق عبد الله بن نجيم الحضرمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( كانت لي منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الخلائق، وكنت آتيه كل سحر، فأقول: السلام عليك يا نبي الله! فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي، وإلا دخلت عليه ) وليس فيه ما يدل على أنه كان يصلي، والله أعلم.

السعال والعطاس والتثاؤب

قال المؤلف رحمه الله: (وإن غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب ونحوه لم يضره).

استدلوا بما جاء ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فقرأ سورة فلما جاء ذكر موسى و هارون أصابه سعال فركع )، ومثله التثاؤب والعطاس، فإنه جاء في حديث رفاعة ( أن رجلاً عطس فقال: الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من المتكلم بالكلمات؟ فأرم القوم، فقال: إنه لم يقل بأساً فقال: أنا يا رسول الله! قال: عجزت الملائكة أن تكتبها )، أو ( تناهت حتى بلغت العرش )، وهذا الحديث ضعيف ولا يصح، لكننا نقول: إن مثل هذا العطاس مغلوب على أمر الإنسان فلا حرج، والله أعلم، ولهذا قال: وإن غلبه سعال لم يضره وإن بان حرفان؛ لأن الحنابلة يرون أن ما كان لحاجة فإنها لا تبطل صلاتهم، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن ترك ركناً، فإن كان التحريمة لم تنعقد صلاته، وإن كان غيرها فذكره بعد شروعه في ركعة أخرى بطلت الركعة التي ترك منها وقامت الركعة التي تليها مقامها، ويجزيه الاستفتاح الأول، فإن رجع إلى الأولى عالماً عامداً بطلت صلاته ].

نحن ذكرنا في أول شرحنا لباب سجود السهو، أن سبب السجود إما أن يكون من زيادة، وإما أن يكون من نقص، ثم تحدثنا عن الزيادة، فقلنا: الزيادة إما أن تكون من جنس الصلاة، وإما أن تكون من غير جنس الصلاة، وما كان من جنس الصلاة منها ما يكون في الأفعال، ومنها ما يكون في الأقوال، وغير جنس الصلاة منها ما يكون في الأفعال، ومنها ما يكون في الأقوال.

وأما النقص فقد شرع المؤلف فيه بقوله: (فصل)، والقاعدة عند العلماء في تأليفهم وتآليفهم أنهم يذكرون (فصل) في ضمن الباب؛ لبيان أن هذا الحكم الذي يأتي بعد الفصل يختلف عما قبله، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن نفخ فبان حرفان بطلت).

حكم المؤلف بأن النفخ إذا ظهر منه حرفان فإنه يكون كلاماً، وإذا كان كلاماً صار كلاماً خارج الصلاة وخارج مصلحتها؛ لأنهم يرون أن الكلام المنتظم يمكن أن يكون بالحرفين كأب، وأخ، ويمكن ألا يكون، فإذا بان منه حرفان فإنه صار كلاماً، وإذا صار كلاماً فإنه داخل في حكم الإجماع على أن من تكلم في الصلاة عامداً بطلت صلاته، والراجح، والله تبارك وتعالى أعلم، أن مثل النفخ والنحنحة والسعال وغير ذلك لا يعد كلاماً، وليس داخلاً في الكلام الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صلاة الكسوف: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد نفخ )، يعني: يقول وهو في سجوده: أف بسبب خشيته من الله سبحانه وتعالى، وأنه يرى ما لم نر، فلأجل هذا نفخ النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن صلاة الكسوف ليست بفرض، ولكن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض، ثم إن الكلام ممنوع في الفرض والنفل، فلما جاز أن ينفخ عليه الصلاة والسلام في النفل دل على جوازه في الفرض، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله تقسيم الكلام، وذكر أن منه ما يدل عليه معنى لا طبعاً، أو طبعاً ومعنى، أو طبعاً لا معنى، ولكن لعلنا نقول: إن الأقرب أن مثل النحنحة والنفخ وغير ذلك إذا لم يكن لحاجة فإنه مكروه أو خلاف أولى، وخلاف الأولى أولى؛ لأنه لم يرد فيه نهي واضح، وأما نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف فبسبب خشيته من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه حينما انفتل من الصلاة قال: ( لقد رأيت الجنة والنار )، والله تبارك وتعالى أعلم.

وأما ما استدل به أصحاب هذا القول وهم الحنابلة والحنفية والشافعية بـ ( أن من نفخ فقد تكلم )، فهذا حديث باطل، ولا يصح، ولا يعتمد عليه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2629 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2587 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2546 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2543 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2522 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2451 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2386 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2373 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2357 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2355 استماع