الروض المربع - كتاب الصلاة [16]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها -أي من شروط الصلاة-: ستر العورة.

قال ابن عبد البر : أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً، والستر بفتح السين: التغطية. وبكسرها: ما يستر به. والعورة لغة: النقصان والشيء المستقبح، ومنه كلمة عوراء أي: قبيحة، وفي الشرع: القبل والدبر وكل ما يستحيا منه على ما يأتي تفصيله. فيجب سترها حتى عن نفسه في خلوة، وفي ظلمة، وخارج الصلاة، بما لا يصف بشرته أي: لون بشرة العورة من بياض أو سواد؛ لأن الستر إنما يحصل بذلك، ولا يعتبر ألا يصف حجم العضو؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، ويكفي الستر بغير منسوج كورق وجلد ونبات، ولا يجب ببارية وحصير وحفيرة وطين وماء كدر لعدم؛ لأنه ليس بسترة، ويباح كشفها لتداوٍ وتخل ونحوهما ولزوج وسيد وزوجة وأمة، وعورة رجل ومن بلغ عشراً].

تفصيل القول في حكم ستر العورة في الصلاة

قول المؤلف: (ومنها -أي ومن شروط الصلاة-: ستر العورة)

هذا أمر من المعلوم عند أئمة الإسلام أنه من الواجبات، أعني به ستر العورة، وقد حكى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أن من صلى عرياناً وهو قادر على الاستتار أن صلاته باطلة، وهذا التعبير فيه دقة، وهو يفيد أن بعض المالكية أشار إلى أن ثمة فرق في ستر العورة بين العامد والناسي، فمن صلى عامداً وقد كشف شيئاً من عورته وقد طال الفصل فإنه صلاته تبطل، وأما إن كان ناسياً فإن صلاته لا تبطل. هذا قول بعض المالكية، وأما جماهير أهل العلم من الحنفية وبعض المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا: إن ستر العورة شرط في الصلاة، وقد حكى الاتفاق أبو عمر بن عبد البر و أبو العباس بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى.

وللفائدة فإني وجدت أبا العباس بن تيمية إذا أطلق فقال: (باتفاق الفقهاء) فإنما يقصد المشهور عن الأئمة الأربعة، ولا يقصد حكاية الإجماع التي لا عبرة بوجود المخالف بعده، فإنه لا يكاد يطلق إجماع إلا في مسائل قليلة، وإلا فإن أبا العباس رحمه الله يطلق الاتفاق ويقصد بذلك اتفاق الأئمة الأربعة في المشهور عندهم، وعلى هذا فالمسألة فيها خلاف، فبعضهم أطلق الوجوب دون الشرطية، وبعضهم أطلق السنية، واستدل على ذلك بكلام يقول: لو كانت واجبة لاختصت العورة بالصلاة، ولافتقر إلى النية، ولكان العاجز له بدل، ومن لم يجد ثياباً صحت صلاته ولا يحتاج إلى بدل، وغير ذلك من هذا الكلام.

والذي يظهر والله أعلم: أن ستر العورة شرط لصحة الصلاة؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة صريحة صحيحة، وأصحها وأصرحها الأدلة الآتية:

أولاً: قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] .

فقد صح عن ابن عباس وإجماع السلف من بعده كما يقول أبو الفرج بن رجب : أنها نزلت في الذين كانوا يطوفون وهم عراة، فأنزل الله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ، فأمر بأخذ الزينة عند المسجد، مما يدل على أن ستر العورة دخل على سبيل الأولوية.

ثانياً: ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر : ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب الواحد؟ قال: إن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به )، فأمره بالاتزار، وهو تغطية العورة.

واستدلوا أيضاً على الشرطية فقالوا: لأن الواجب يثبت بالأمر، أما أن يكون الشيء لو خالفه لبطلت الصلاة فيحتاج إلى دليل، كما أشار إلى ذلك الشوكاني ، فنقول: إن الشرطية ثابتة بقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:31].

ثالثاً: ما رواه أبو داود و أحمد و النسائي وغيرهم من طريق حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن صفية بنت الحارث ، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، والحائض: هي المرأة البالغة، فقالوا: إن هذا دليل على الشرطية، ولكن الحديث وإن صححه بعض أهل العلم، كما أشار إلى ذلك الترمذي ، فإن الذي يظهر أن الحديث ضعيف، فإن أبا داود أشار إلى علة فيه؛ وهي أن حماد بن سلمة أخطأ، حيث رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن مرسلاً، فيكون حماد بن سلمة أخطأ على قتادة ، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة -وأوثق الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة - عن قتادة ، عن الحسن مرسلاً، ورواه أيوب السختياني ، و هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عائشة : ( أنها دخلت عند صفية بنت الحارث فأخبرتها ) فهذا يدل على أن ابن سيرين أرسله إلى عائشة وأوقفه عليها، قال الدارقطني : وهذا أشبه، فهذا يدل على أن الحديث لا يصح مرفوعاً، ويكفينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاتزر به )، والآية، وكذلك الإجماع الذي نقله أبو عمر بن عبد البر ، و أبو العباس بن تيمية إذا صلى وهو متعمد، والإجماع فيه خلاف، لكن نحن نقول: إذا صلى وكشف شيئاً من عورته متعمداً، وطال الفصل، فإن ذلك مبطل، ولا عبرة بالمخالف من بعض أصحاب المذاهب.

تعريف العورة في اللغة والشرع

قال المؤلف رحمه الله: (والستر بفتح السين: التغطية. وبكسرها: ما يستر به. والعورة لغةً: النقصان والشيء المستقبح، ومنها كلمة عوراء أي: قبيحة، وفي الشرع: القبل والدبر)؛ لقول الله تعالى: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [طه:121] ، فهذا يدل على أن السوءة والعورة هي القبل والدبر.

وأما العورة في الشرع: فكل ما حرم الله كشفه أمام من لا يحل النظر إليه، وعلى هذا فعورة الرجل تختلف عن عورة المرأة، وعورة المرأة تختلف عن عورة الصبية، وعورة الحرة تختلف عن عورة الأمة، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء.

ستر الإنسان عورته عن نفسه في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (فيجب سترها حتى عن نفسه) يعني: في الصلاة، فيجب على الإنسان أن يستر عورته في الصلاة حتى عن نفسه، وهذا مثلما لو كان ثوبه واسعاً، فلو سجد أو ركع ونظر إلى عورته فإن صلاته حينئذ تكون باطلة؛ لأنه ليس هناك فرق بين أن يرى عورته أو يراها شخص آخر، ومما يدل على وجوب ستر العورة حتى عن نفسه حديث في البخاري وإن كان في سنده ضعف حيث رواه البخاري معلقاً بصيغة التمريض قال: وإسناده فيه نظر، والحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي من حديث سلمة بن الأكوع ، قلت: ( يا رسول الله! إني أصلي في ثوب واحد وإني أصيد فيه، أفأصلي في القميص الواحد؟ فقال: نعم زره ولو بشوكة )، قالوا: فهذا دلالة على أنه أمر أن يغطي عورته، ولكن الحديث في سنده ضعف وانقطاع.

وقول المؤلف: (فيجب سترها حتى عن نفسه) نقول: هذا في الصلاة، وأما خارج الصلاة فقد سبق أن تحدثنا عنه وقلنا: إن الحنابلة يرون أن الإنسان لا يجوز له أن يكشف عورته لوحده إلا لحاجة مثل: قضاء وطر، أو قضاء حاجة، وأما أن يكشفها من غير حاجة فيحرم على المذهب. والرواية الأخرى يكره، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود وغيره من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك؟ قلت: يا رسول الله! فإذا كان القوم بعضهم من بعض؟ قال: فإن استطعت ألا يراها أحد فافعل. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، وهذا مشعر بالتحريم، والله تبارك وتعالى أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (في خلوة) فلو كان يصلي وحده فلا يجوز له في الصلاة أن يكشف عورته، وسوف يأتي النهي عن كشف العورة في حق الرجل، أو كانت المرأة خالية، قوله (وفي ظلمة)، فلا يجوز له أن يصلي عارياً، أو قد لبس تباناً، والتبان: السروال القصير الذي إلى نصف الفخذ، فلا يجوز له أن يصلي ذلك؛ لأن العبرة بالستر وليس فقط بالنظر، وكذلك يقول المؤلف: (وخارج الصلاة)، ذكر المؤلف هذا مع أنه أشار إلى ذلك في مكان آخر سبق أن شرحناه، عند قضاء الحاجة: (ويحرم لبثه فوق حاجته)، وهذا من باب التيسير.

اللباس الشفاف الذي يصف لون البشرة

قال المؤلف رحمه الله: (بما لا يصف بشرته) أي: لون بشرته من حمرة وسواد وبياض؛ لأن الستر إنما يحصل بذلك كما قال المؤلف، وعلى هذا فإذا كان الثوب شفافاً يظهر منه لون البشرة من حمرة وسواد وبياض فإن ذلك لا يعد ستراً، وأما إذا كان يرى العضو وتقاطيع العضو ولكن لا يميز بين حمرته وبياضه وسواده فإن الصلاة حينئذ تكون صحيحة، وأشار المؤلف إلى اللون مما يدل على أن تقاطيع الجسد لا حرج في حق الرجل وفي حق المرأة، والذي يظهر أن الرجل لا بأس أن يصلي في سراويل أو في بنطال، خلافاً للمالكية فإنهم كرهوا ذلك، وأما المرأة فالذي يظهر والله أعلم أنه يكره لها أن تصلي في بنطال، بحيث يظهر تقاطيع جسدها؛ لأن ذلك لا يعد ستراً؛ لأن العورة في الصلاة أغلظ من العورة خارجها.

اللباس الذي يصف ويحدد العضو

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يعتبر ألا يصف حجم العضو؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه).

هذا صحيح في حق الرجل، أما في حق المرأة فلا، ومما يستدل على ذلك في حق المرأة ما رواه البيهقي من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن أسامة بن زيد ، عن أبيه، قال: ( كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيةً، فأهديتها إلى امرأتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي. قال: مرها فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف عظامها )، فهذا يدل على أن لباس المرأة إذا لم يكن فضفاضاً فهي ممنوعة منه، وعلى هذا فلو لبست البنطال فينبغي أن يكون البنطال واسعاً، أو يكون تحته شيء واسع إلى الساق أو أنصاف الساقين.

وقد جاء عند البيهقي أيضاً من طريق عبد الله بن أبي سلمة ، عن عمر : (أنه كسا الناس قباطي، ثم قال: لا تدرعنها نساءكم. فقال: يا أمير المؤمنين! لقد كسوته امرأتي فلم أرها يصف شيئاً، فقد دخلت أقبلت وأدبرت في البيت ولم أر شيئاً. قال عمر رضي الله عنه: إن لم يكن يشف فإنه يصف).

وهذا يدل على أن تحرزهم في ذلك واضح.

شروط الساتر في ستر العورة في الصلاة

ثم اعلم رحمك ربي! أن ستر العورة له شروط:

الشرط الأول: أن يكون الساتر مباحاً، فلو تستر بمحرم فقد اختلف العلماء، والمحرم إما أن يكون محرماً لذاته، أو محرماً لكسبه، أو محرماً لوصفه، محرماً لذاته: مثل لبس الحرير في حق الرجل من غير حاجة، ومحرماً لوصفه: مثل أن يلبس ثوباً مسبلاً، ومحرماً لكسبه: مثل أن يصلي في سترة مغصوبة، والمشهور من قول الحنابلة : أن المحرم لكسبه تبطل به الصلاة، وأما المحرم لوصفه مثل: الإسبال، فإن الصلاة عندهم صحيحة، لكن ابن تيمية أشار ولم يصرح لكن على قاعدة أن النهي إذا كان عائداً لحق الله فإنه يدل على الفساد، أشار إلى عدم صحة الصلاة، وهو قول بعض مشايخنا المعاصرين وإن كان قد تراجع عنه، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن الساتر المحرم لكسبه أو لوصفه أو لذاته تصح الصلاة به مع الإثم؛ لأن هذا النهي خارج ماهية الصلاة، والنهي إذا كان عائداً على ماهية العبادة أو على وصفها الذي لا ينفك عنها فإنه لا يدل على البطلان كما هي قاعدة الشافعية والمالكية والصحيح من مذهب الحنابلة كما أشار إلى ذلك ابن رجب ، وعلى هذا فالمباح واجب ولكنه ليس بشرط.

الشرط الثاني: ألا يصف البشرة؛ لأن ما يصف ليس بستر، ولهذا وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالعارية كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، ثم قال: ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يرين الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )، فوصف النبي صلى الله عليه وسلم اللبس الذي يصف بالعري.

الشرط الثالث: أن يكون طاهراً، وسوف يأتي تفصيل ذلك؛ لأن المالكية أوجبوا ذلك من غير شرط طهارة البدن.

هذه الشروط في الستر، وبعضهم يضيف: ألا يكون مضراً، ولكن هذا لا علاقة له بالصلاة، لكنه يمنع من الخشوع، فيكون مكروهاً لا واجباً؛ لأن بعض الناس أحياناً لو لبس بعض البجامات الصوف تجده لا يقر له قرار في الصلاة، أو لبس مشلح وبر تجده يتحكحك، هذا يدل على أنه يكره عليه أن يصلي؛ لأن صلاته ربما ذهب خشوعها، والله أعلم.

الستر بالورق أو الجلد غير المنسوج

قال المؤلف رحمه الله: (ويكفي الستر بغير منسوج).

النسج: هو ضم الشيء إلى الشيء، ولا يلزم أن يكون منسوجاً، فلو غطى جسده بورق، أو جلد، أو نبات جاز ذلك.

ستر العورة بالحصير والحفرة

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجب ببارية) البارية: هو الحصير، أو ما يسمى بالعسبان، فورق العسبان هذا ينسج فيكون بارية، والحصير هو من غير لف لكن ضم بعضه إلى بعض، وتركيبه بشيء.

قال المؤلف رحمه الله: (وحفيرة) يعني: يصلي بحفرة من الأرض، ولهذا لا يجب أن يغطى ببارية، ولا حصير، ولا حفيرة.

ستر العورة بالماء الكدر والطين

قال المؤلف رحمه الله: (وطين، وماء كدر) هذا إذا لم يجد السترة خلافاً لـابن عقيل الحنبلي فإنه قال: إذا لم يجد سترة فإنه يأتي بماء وطين ويغطي به مكان عورته وهي من السرة إلى الركبة، وذهب الآمدي من الشافعية إلى عدم ذلك، يقول ابن تيمية : وهو الصواب المقطوع به، وقيل: إنه هو المنصوص عن أحمد ، ولهذا قال: (ولا يجب ببارية وحصير وحفيرة وطين وماء كدر لعدم) يعني: لعدم وجود السترة؛ قال: (لأنه ليس بسترة)، لو قال: لأنه ليس بسترة، بالكسر لأنه أشار إلى أن بالكسر يكون ما يستر به، وبالفتح التغطية، والواجب في الصلاة؟ ما يستر به بالكسر؛ لأن ما يستر به يحصل به التغطية والستر، وأما التغطية ربما يكون عن الأنظار لكن ما يلزم الستر، ولهذا الحفرة تغطية وليست ستراً.

الحالات التي يباح فيها كشف العورة

قال المؤلف رحمه الله: (ويباح كشفها لتداو وتخل ونحوهما).

وقد أشرنا إلى أن كشف العورة يجوز لحاجة كالتداوي، وقضاء الحاجة، وليعلم أن كشفه لعورته المقصود به إذا كان من غير تغطية، يعني من غير سَتر أو سِتر، وأما إذا كان بسِتر فهذا كاف بالإجماع، وأما إذا كان بسَتر مثل أن يكون مع أهله وقد كشف عورته وغطى بلحاف فهذا يحصل به التغطية، فأما في الصلاة فلا بد فيه من السِتر بالكسر، وأما خارج الصلاة فيكفي فيه السَتر، والله تبارك وتعالى أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ولزوج وسيد وزوجة وأمة) يعني: يباح لكل من جاز له الكشف والنظر إلى عورته؛ لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6].

مدى صحة القول بأن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها

قال المؤلف رحمه الله: (وعورة رجل ومن بلغ عشراً).

هنا المؤلف يريد أن يدلف إلى عورة الرجل والأمة والمرأة والحرة في الصلاة، ويخطئ كثير من الناس حينما يقولون: إن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة، وهذا هو مذهب الحنابلة في الصلاة دون غيرها، وينقلون ذلك عن المالكية والشافعية والحنابلة، فعورة المرأة في الصلاة غير عورتها خارجها، وكذلك الرجل، فهنا المؤلف يتكلم عن عورة الرجل في الصلاة.

ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

قول المؤلف: (ومنها -أي ومن شروط الصلاة-: ستر العورة)

هذا أمر من المعلوم عند أئمة الإسلام أنه من الواجبات، أعني به ستر العورة، وقد حكى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أن من صلى عرياناً وهو قادر على الاستتار أن صلاته باطلة، وهذا التعبير فيه دقة، وهو يفيد أن بعض المالكية أشار إلى أن ثمة فرق في ستر العورة بين العامد والناسي، فمن صلى عامداً وقد كشف شيئاً من عورته وقد طال الفصل فإنه صلاته تبطل، وأما إن كان ناسياً فإن صلاته لا تبطل. هذا قول بعض المالكية، وأما جماهير أهل العلم من الحنفية وبعض المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا: إن ستر العورة شرط في الصلاة، وقد حكى الاتفاق أبو عمر بن عبد البر و أبو العباس بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى.

وللفائدة فإني وجدت أبا العباس بن تيمية إذا أطلق فقال: (باتفاق الفقهاء) فإنما يقصد المشهور عن الأئمة الأربعة، ولا يقصد حكاية الإجماع التي لا عبرة بوجود المخالف بعده، فإنه لا يكاد يطلق إجماع إلا في مسائل قليلة، وإلا فإن أبا العباس رحمه الله يطلق الاتفاق ويقصد بذلك اتفاق الأئمة الأربعة في المشهور عندهم، وعلى هذا فالمسألة فيها خلاف، فبعضهم أطلق الوجوب دون الشرطية، وبعضهم أطلق السنية، واستدل على ذلك بكلام يقول: لو كانت واجبة لاختصت العورة بالصلاة، ولافتقر إلى النية، ولكان العاجز له بدل، ومن لم يجد ثياباً صحت صلاته ولا يحتاج إلى بدل، وغير ذلك من هذا الكلام.

والذي يظهر والله أعلم: أن ستر العورة شرط لصحة الصلاة؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة صريحة صحيحة، وأصحها وأصرحها الأدلة الآتية:

أولاً: قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] .

فقد صح عن ابن عباس وإجماع السلف من بعده كما يقول أبو الفرج بن رجب : أنها نزلت في الذين كانوا يطوفون وهم عراة، فأنزل الله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ، فأمر بأخذ الزينة عند المسجد، مما يدل على أن ستر العورة دخل على سبيل الأولوية.

ثانياً: ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر : ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب الواحد؟ قال: إن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به )، فأمره بالاتزار، وهو تغطية العورة.

واستدلوا أيضاً على الشرطية فقالوا: لأن الواجب يثبت بالأمر، أما أن يكون الشيء لو خالفه لبطلت الصلاة فيحتاج إلى دليل، كما أشار إلى ذلك الشوكاني ، فنقول: إن الشرطية ثابتة بقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:31].

ثالثاً: ما رواه أبو داود و أحمد و النسائي وغيرهم من طريق حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن صفية بنت الحارث ، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، والحائض: هي المرأة البالغة، فقالوا: إن هذا دليل على الشرطية، ولكن الحديث وإن صححه بعض أهل العلم، كما أشار إلى ذلك الترمذي ، فإن الذي يظهر أن الحديث ضعيف، فإن أبا داود أشار إلى علة فيه؛ وهي أن حماد بن سلمة أخطأ، حيث رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن مرسلاً، فيكون حماد بن سلمة أخطأ على قتادة ، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة -وأوثق الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة - عن قتادة ، عن الحسن مرسلاً، ورواه أيوب السختياني ، و هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عائشة : ( أنها دخلت عند صفية بنت الحارث فأخبرتها ) فهذا يدل على أن ابن سيرين أرسله إلى عائشة وأوقفه عليها، قال الدارقطني : وهذا أشبه، فهذا يدل على أن الحديث لا يصح مرفوعاً، ويكفينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاتزر به )، والآية، وكذلك الإجماع الذي نقله أبو عمر بن عبد البر ، و أبو العباس بن تيمية إذا صلى وهو متعمد، والإجماع فيه خلاف، لكن نحن نقول: إذا صلى وكشف شيئاً من عورته متعمداً، وطال الفصل، فإن ذلك مبطل، ولا عبرة بالمخالف من بعض أصحاب المذاهب.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2631 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2589 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2548 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2545 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2525 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2453 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2388 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2375 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2359 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2357 استماع