كتاب الطهارة [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

مذاهب العلماء في حكم الماء إن لاقته النجاسة دون أن تغير أحد أوصافه

قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه فقال قوم: هو طاهر سواءً كان كثيراً أو قليلاً، وهي إحدى الروايات عن مالك ، وبه قال أهل الظاهر. وقال قوم بالفرق بين القليل والكثير، فقالوا: إن كان قليلاً كان نجساً، وإن كان كثيراً لم يكن نجساً. وهؤلاء اختلفوا ]، أي هؤلاء الذي قالوا بالتفريق، [ في الحد بين القليل والكثير، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة، بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه.

[ وذهب الشافعي ] وكذلك أحمد [ إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من قلال هجر ]، أي: القلتان التي تصنع في هجر، فهجر كانت تأخذ الجلود وتدبغها، وتصنعها قرباً، وكانت في العادة هذه القرب تسع الواحدة منها قلة، والثانية قلة، ففي الثنتين قلتان [ وذلك نحو خمسمائة رطل ]، أي: قدرها خمسمائة رطل. وهو ما يساوي مائة وتسعين لتراً تقريباً، أو سعة مكعب طول حرفه ثمانية وخمسون سنتيمتراً.

[ ومنهم من لم يحدد في ذلك حداً ]، أي أنه يقول: الماء القليل والكثير، ولكننا نقول: بل يرجع فيه إلى العرف.

[ ولكن قال: إن النجاسة تفسد قليل الماء، وإن لم تغير أحد أوصافه، وهذا أيضاً مروي عن مالك ]، وهذا كما قال، مروي عن مالك أيضاً.

[ وقد روي أيضاً أن هذا الماء مكروه، فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال:

قول: إن النجاسة تفسده.

وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه.

وقول: إنه مكروه ].

إذاً فهذه أقوال مالك في هذه المسألة.

وهذا الإمام اللخمي كان مالكياً، ولكنه كان يخرج عن مذهب مالك ، فيسمى من خوارج مذهب مالك ، وكان ذا مكانة بالنهضة في الأندلس، ولذلك أحد الأدباء كان يتغزل في أبيات غزلية، يقول:

لقد مزقت قلبي سهام جفونها كما مزق اللخمي مذهب مالك

أي أنه مالكي كثير المخالفة لـمالك ، فعرفوه أهل الأندلس، فتأثروا به.

إذاً فالمناسبة أن كل أناس في بلد يتأثرون بالمذهب المشهور حتى في حالة الغزل.

سبب اختلاف العلماء في الماء المتنجس غير المتغير

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه ) الحديث، يفهم من ظاهره: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء ]، ومن الأمانة العلمية أننا ننقل المذاهب وأدلة أصحابها، ولا نتعصب لأحد، فننقل لكل قوم دليله وإن لم يورده صاحب الكتاب.

قال: [ وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة ] أي: الذي في البخاري و مسلم .

[ الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه )، فإنه يوهم بظاهره أيضاً أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم ].

وهذه أحاديث للشافعية والمالكية والحنبلية والأحناف.

[ وأما حديث أنس الثابت ] أي: في البخاري و مسلم : [ ( أن أعرابياً قام إلى ناحية من المسجد، فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء، فصب على بوله )، فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء ]. هذا هو ظاهر الحديث، ولو قلنا: أنه ينجس، لكان بدلاً من صب الماء عليه إزالة النجاسة.

[ إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب.

وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضاً خرجه أبو داود ]، وصححه الإمام أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين ، و ابن حزم ، و الحافظ في التلخيص، و النووي في المجموع، و الألباني في الإرواء [ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: ( إنه يستقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس ) ] وهذا الكلام ليس على ظاهره. أي: أنهم لم يكونوا يقصدون البئر التي يشربون منها، ويلقون فيها هذه القاذورات، إنما الكلام محمول على أنهم كانوا يضعون هذه القاذورات في محل قريب من البئر، فكان في بعض الأوقات تأتي الريح وتأخذ شيئاً من هذه القاذورات وتلقيها في البئر، كما هو الشأن في آبار البادية، لا سيما في أوقات الرياح، فهم يجدونها ملوثة في بعض الأوقات.

[ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا ينجسه شيء ) ]، إذاً فسبب الاختلاف هو هذا التعارض بين الأحاديث، وسبب السبب: أن الفهوم مختلفة، فاختلف العلماء في فهم هذه الأحاديث.

وقد ضرب شيخنا الشنقيطي مثلاً على اختلاف الفهوم فقال:

قف بجانب الجمرة؛ لأن هذا المجمع أكبر مجمع للناس، وانظر في صور الناس واسمع أصواتهم، فلا تجد صورةً تجمع صورة، ولا صوتاً يجمع صوتاً، فكذلك الفهوم تختلف، صور لا تجمع صوراً، وألفاظ لا تجمع ألفاظاً، وفهوم لا تجمع فهوماً؟ بل إنه لا يتصور هذا، وهذه هي حكمة الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالأحاديث متعارضة، وإنما هو اختلاف في الفهم، وأما قول بعضهم: أي حديث فيه تعارض دعوه لي، ولكن لا يوجد في الحقيقة تعارض.

مذاهب العلماء في الجمع بين الأحاديث الواردة في نجاسة الماء وأدلتهم على ذلك

قال المصنف رحمه الله: [ فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع ] وقد أخبرتكم بفهم الشافعي و مالك ، ولكن أهل المذاهب كل واحد يحب أن يصف إمامه كما يقول بعضهم: كل بنت بأبيها معجبة.

فأقول: الشافعية يقولون: إن الشافعي كان في مجلس الإمام مالك ، ولم يكن يعرفه، ولكنه جاء وأخذ كتابه واطلع عليه، وكان يجلس، فجاء رجل يسأل الإمام مالكاً : ما تقول في رجل حلف بالطلاق أن ديكه لا يهدأ من الصياح، ثم وجد الديك نائماً، أو وجدناه يأكل، ويترك الصياح، فقال الإمام مالك : زوجته طالق، حكم على الظاهر من أن الديك ساكت.

فلما خرج تسلل إليه الشافعي وقال له: زوجتك غير طالق، فرجع الرجل إلى مالك وقال: يا شيخ أحد الناس يقول: إن زوجتي غير طالق فقال: ومن يقول هذا؟ قال: واحد من طلابك. فقال له مالك كيف تقول هذا: إن زوجته غير طالق وديكه يسكت؟ والشافعي كان قد سأله فقال له: هل صياحه أكثر أو سكوته أكثر في حال عدم نومه وأكله، فقال: الصياح أكثر، فقال له: زوجتك غير طالق، فقال: كيف تقول كذلك؟ فقال: أقول: إن زوجته غير طالق؛ لأني سألته: هل صياحه أكثر في حال عدم النوم، وفي حال عدم الاشتغال بالأكل فقال: أكثر، ومن القواعد العربية: أن العرب تجعل الحكم أغلب الأمرين، ويدل على ذلك الحديث الوارد في الموطأ، ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت إليه امرأة تستشيره في أن تتزوج بـمعاوية ، أو تتزوج بـأبي جهم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك فقير، وأما أبو جهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه ). يعني: كناية عن أنه يضرب النساء، فقوله: ( إنه لا يضع العصا عن عاتقه ) فيه تعميم، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أنه ينام ويضع العصا، ويصلي ويضع العصا، ويأكل ويضع العصا، فجعل الحكم أغلب الأمرين. فهذه هي الثروة الفقهية، وهذا شيء أكيد يدل على دقة نظر هؤلاء العلماء.

ولهذا قال: [ فاختلفت لذلك مذاهبهم ]، لما اختلفوا في الفهم كانت النتيجة اختلاف المذاهب.

[ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي ] وهو ( أن الماء لا ينجسه شيء )، [ وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة ] في البول وفي غسل اليد عند القيام من النوم [ غير معقولي المعنى ]، وهنا ملاحظة وهي أن الفقيه إذا أجاز دون تعليل يقول: هذا أمر تعبدي لا يعقل معناه، فإذا قيل له ما العلة في هذا؟ قال: هذا أمر تعبدي لا يعقل معناه، فيتخلص به من الناس.

وكذلك النحوي إذا تكلم عن قاعدة فإذا سئل عن العلة ولا يعرفها فيقول: إن هذا سمع من العرب هكذا، فتخلص من السؤال بأنه مسموع من العرب، وفي الواقع هو ما عرف ما هي العلة.

فهنا المصنف كأنه ما استطاع أن يفهم معنى المسألة، فقال: أمر تعبدي، وإلا فقد ذكرنا أن علة غسل اليد هي التقذر، وأما معنى كونه ثلاث مرات فلأنه جعله كغسل النجاسة ثلاث مرات وقد ذكرنا أن العلة في حديث البول هي ألا يئول أمره إلى التنجيس، فلا مانع أن يكون أصل الحكم معقولاً، وبعض صفاته تعبدية.

ولهذا قال الفقهاء: لو غسل يده مرةً واحدة فإنه لم يقم بالسنة قالوا: لأن الحديث إذا قيد بغاية وجب أن تتبع.

[ وامتثال ما تضمناه عبادة، لا لأن ذلك الماء ينجس ]. أي: ليس العلة النجاسة، وإنما هو لأنه أمر تعبدي.

[ حتى أن الظاهرية ] لشدة أخذهم بالظاهر [ أفرطت في ذلك فقالت: لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء ]، وهذا توجيه للظاهرية والمالكية في فهم تلك الأحاديث، قالوا إن العمل بحديث بئر ضباعة، والعمل بحديث الأعرابي، وتلك أمور تعبدية.

[ فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين هذه الأحاديث فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية ]، أي: حمل حديثي أبي هريرة في البول وفي غمس اليد على الكراهة للتنزيه [ وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما أعني على الإجزاء ].

[ وأما الشافعي و أبو حنيفة فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري ؛ بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل ] أي: أن الماء القليل يتنجس [ وحديث أبي سعيد على الماء الكثير ]، فحملوا على أنه إن كان كثيراً كأن كان أربع قلال أو خمس قلال، فإنه لا ينجس.

[ وذهب الشافعي ] وكذلك أحمد [ إلى أن الحد في ذلك ] أي فيما يجد القليل والكثير [ الذي يجمع الأحاديث ] والحد الذي يجمع الأحاديث هو القلتان فما ورد بالتنجيس فهو فيما دون القلتين، وما ورد في عدم التنجيس فهو فيما كان قلتان فأكثر، قالوا: وحديث القلتين هو المقصود في هذا الحديث.

[ هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود و الترمذي وصححه أبو محمد بن حزم ] وصححه الحاكم و ابن خزيمة و ابن حبان و الطحاوي و الذهبي و النووي و العسقلاني .

[ قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) ]. وفي رواية: ( لم ينجس ).

ففي رد الرسول صلى الله عليه وسلم لمن سأله فأجاب بقوله: ( إذا بلغ الماء قلتين ) فيه دليل على أن المخاطب بهذا الرد كان لديه علم صادق بقدر القلتين تقريباً، وإلا فما حسن التحديد بها في الجواب، فلا يصح حينئذ رد العمل بهذا الحديث، بحجة الجهالة بقدر القلتين.

فأهل حيس يصنعون الجرار ويصنعون الأواني فإذا قلت لإنسان من حيس، أو ممن يتعامل معهم القلة: جرتين، فإنه لا يشكل عليه؛ لأن الجرار تصنع في حيس، وكذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للسائل: (قلتين) وهو من هجر، وأهل هجر أناس يصنعون القرب، وكل قربة عندهم تسع قلة، فهل يشكل عليهم هذا؟ بل يعرفون أنها القرب المعروفة التي تحملها على البعير ... واحدة من هنا وواحدة من هنا وهي كذلك يستسقى فيها من الماء من الأماكن البعيدة، وهي كالمزادتين.

وأما هجر فهي قبيلة وقد اشتهرت بهذه القلال؛ لأن وقد الرسول صلى الله عليه وسلم قال في النبق - الشجرة اللي في الجنة - ( كأنما نبقها قلال هجر )، فكان المعروف عنها عادةً هي هذه القلال، وورد أيضاً في حديث ضعيف على أنها: ( قدر قلتين من قلال هجر )، لكن الحديث الضعيف فلم نعتمد عليه، وقلنا: دليلنا هذا الحديث الضعيف، قلنا: بل دليلنا الذي اعتمدنا عليه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخاطب الناس إلا بما يعرفون، وبما يعطي بياناً للمطلوب، هذا أولاً.

أما ثانياً: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى النبق الذي في الجنة مثل لها بما يعرفه الناس، فقال: ( كأن نبقها قلال هجر )، والنبق هو الشجر المعروف باسم السدر.

[ وأما أبو حنيفة ] أي دليل أبي حنيفة أنه فرق بين الماء القليل والكثير [ فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة ]، أي: أنها إذا كانت الحركة تسري في جميع الماء فالنجاسة تسري في جميع الماء، وإذا كانت الحركة لا تسري في جميع الماء فالنجاسة لا تسري في جميع الماء، [ فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر ].

وسيذكر المصنف أن الأئمة الثلاثة سيكون لهم حديث الأعرابي حجر عثرة، شوكة في الحلق، ولا يستطيعوا الخروج منه.

فقال: [ لكن من ذهب هذين المذهبين، فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد فلذا لجأت الشافعية ]، واللجوء يكون عند الاضطرار، يلجأ الإنسان عند الاضطرار.

[ إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء ]، وهذا التخريج لم يأت به حنابلة، ولا حنفية، ولكن الشافعية هم الذين جاءوا بهذا التخريج.

فقالوا: إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس.

وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم ] أي من الشافعية، وقوله: (تحكم) أي تفريق بغير دليل، وقالوا: إن التفريق بهذا الورود وصف طردي يوجد ولا يوجد الحكم. قال: [ وله إذا تأمل وجه من النظر ]، ووجهه هو: [ وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء كثيراً بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير ].

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.


استمع المزيد من الشيخ محمد يوسف حربة - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب الزكاة [9] 2957 استماع
كتاب الزكاة [1] 2913 استماع
كتاب الطهارة [15] 2906 استماع
كتاب الطهارة [3] 2619 استماع
كتاب الصلاة [33] 2567 استماع
كتاب الصلاة [29] 2416 استماع
كتاب الطهارة [6] 2397 استماع
كتاب أحكام الميت [3] 2389 استماع
كتاب الطهارة [2] 2366 استماع
كتاب الصلاة [1] 2329 استماع