أحكام الجنائز [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

فقد مضى معنا الكلام عن الأحكام التي تتعلق بالدفن، ويلزم التنبيه على أن فقهاءنا رحمهم الله قالوا: لو أن الإنسان مات في البحر، وكان بين الناس وبين البر وقت طويل بحيث يخشى عليه من التغير فإنه يغسل ويكفن، ويصلى عليه، ويثقل، ثم يرمى في البحر، ويثقل بمعنى: يربط معه شيء ثقيل، بحيث يصل إلى القاع لئلا يطفو، فربما يزول عنه كفنه، ولربما تتغير هيئته، ويتعرض لما لا ينبغي، فيصنع هذا من باب: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وبعض الفقهاء قالوا: يجعل بين لوحين، بحيث يبقى طافياً، فيجده جماعة من المسلمين فيدفنونه.

وكذلك بالنسبة للغسل، فلو أن إنساناً تعذر غسله، إما لعدم وجود الماء، أو خشية عليه من التقطع كالمجدور، أي: الذي أصيب بداء الجدري عافانا الله وإياكم، أو المحترق الذي لا نستطيع أن نغسله، وكذلك الغريق، لو أنه وجد بعد أيام وقد اهترئ جسده، فهؤلاء جميعاً ييممون، أي: نترك الطهارة المائية، ونلجأ إلى بدلها وهي الطهارة الترابية، وكذلك لو مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال، ولم يكن هناك من يغسلها، فإننا نلجأ إلى التيمم أيضاً؛ لأن الله تعالى قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، وبعض العلماء قالوا: التيمم ليس له معنى في هذه الحالة؛ لأن التيمم طهارة حكمية، وليس طهارة حقيقية، ولأن تغسيل الميت يقصد به التطهير والإنقاء، ولذلك ما يتقيد بعدد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )، بينما الإنسان لو توضأ، أو اغتسل فإنه لا يشرع له أن يزيد على الثلاث؛ لأن (من زاد على الثلاث فقد تعدى، وأساء، وظلم) كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة الكرام! التعزية من سنن الإسلام، فيندب لك أيها المسلم لو أن أخاك أصيب بمصيبة أن تعزيه، وأن تلقي في سمعه من الكلمات ما يسليه عن مصابه، ويحضه على الصبر، ويبشره بعظيم الأجر.

الأدلة على سنية التعزية

وقد ثبتت التعزية في السنة القولية، والسنة العملية، أما السنة القولية، فما رواه ابن ماجه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( من عزى أخاً له في مصيبة، كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة )، وعند الترمذي بسند ضعيف: ( من عزى مصاباً فله مثل أجره ).

وأما السنة العملية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزي أصحابه إذا مات لأحدهم ميت، وفي حديث قرة المزني رضي الله عنه (أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحضر مجلسه، وكان له ابن يأتي من وراء ظهره، فيجلسه بين يديه)، أي: كان عنده ولد صغير، دائماً يأتي معه لمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن بنيه قد مات، فامتنع عن الدرس -يعني: انقطع عن الدرس- فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! إن بنيه ذاك قد مات، فذهب عليه الصلاة والسلام يعزيه، فقال له: أيسرك أن تمتع به حياتك! أم يسرك ألا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته يفتح لك، قال: بل الثانية يا رسول الله! قال: فهي لك، قال الصحابة له: أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم ).

ألفاظ التعزية

وثبت من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تقول: (يا رسول الله! إن ابني يحتضر فاشهدنا، فأرسل إليها يعزيها، قال: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب )، قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا أحسن ما يعزى به، أي: هذه الكلمات أفضل شيء في التعزية، حيث نذكر هذا المصاب بأن هذا الذي أخذ منه هو أصلاً ملك لله عز وجل، (إن لله ما أخذ وله ما أعطى)، ونذكره أيضاً بأن هذا الذي حصل، سيحصل له وسيحصل للمعزي، وللجميع.

مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى.

الكل سيموت، وكما قيل:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء منقول

فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول

ولذلك نقول له هذا الكلام: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

وتحصل التعزية بكل كلام يتحقق به المراد، فليس بالضرورة أن نقول هذه الكلمات، فالمراد هو تسلية المصاب، والدعاء للميت، وأمر أهله بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هذه هي أغراض التعزية؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذهب يعزي في جعفر قال: ( اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه )، فدعا لـجعفر ودعا لـعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهما، وكذلك لما عزى في أبي سلمة قال: ( اللهم اغفر لـأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه )، فالتعزية تحصل بأي لفظ من الألفاظ التي يتحقق بها المقصود والمراد من التعزية.

تعزية أهل الميت صغاراً وكباراً

المسألة التي بعدها قال أهل العلم: يعزى جميع أهل الميت الكبار والصغار والرجال والنساء إلا أنها في حق الضعفاء والصبيان آكد، فلو كان للميت أب شيخ كبير، فتعزيته آكد من تعزية غيره، ولو كان للميت ولد صغير أيضاً، فتعزيته أولى من تعزية غيره، قالوا: إلا أن تكون المرأة شابة فلا تعزى، يعني: إذا كانت المرأة شابة يخشى منها الفتنة، فإنها لا تعزى، وطبعاً: غير داخل معنا في الكلام ما يصنعه بعض الطغام من أنه يعزي من ليس بمحرم، كابنة العم ونحوها فيحضنها، ويبكي معها، فهذه ليست تعزية، وإنما هذه معصية. وحين نقول تعزية فإن معناها: لو أن المرأة مات زوجها، أو مات ولدها، أو كذا، فإني أعزيها بالكلمات التي تسليها وتذكرها بأن قدر الله نافذ، وأن أمره غالب، وأنه لا يسلم من الموت أحد، ونحو ذلك من الكلام، أما ما يصنعه بعض الناس أنه يمشي يعزي من ليست محرماً، أو يعزي حتى الجارة، ويبكي معها وما إلى ذلك، فهذه ليست تعزية، وإنما هي معصية.

أقول مرة أخرى: بأن التعزية تكون لأهل الميت جميعاً، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونسائهم، إلا المرأة التي يخشى منها الفتنة، والتعزية في حق الصبيان والضعفاء آكد.

وقت التعزية

المسألة التي بعدها: متى تكون التعزية؟

قال علماؤنا: تشرع قبل الدفن وبعده، إلا أنها بعد الدفن آكد؛ لأنهم قبل الدفن مشغولون بميتهم، وبعد الدفن وحشتهم للفراق أعظم، فالتعزية تجوز قبل الدفن وبعده، لكن الأفضل أن تكون بعد الدفن؛ لأنهم قد فارقوه واستودعوه التراب، لكن لو دعت مصلحة لتعزيتهم قبل الدفن، فلا بأس، كما لو ظهر عليهم الجزع، يعني: أحياناً مثلاً بعد حصول الموت وخاصة إذا كان موت فجأة، فإنه يحصل شيء من الجزع لأهل الميت، فهاهنا لو رأيت أن من المصلحة أن تبادر بتعزيتهم، وتسليتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فهذا طيب.

تحديد التعزية بثلاثة أيام

المسألة التي بعدها: هل تحد التعزية بثلاثة أيام؟

نقول: جمهور العلماء قالوا: نعم، لا عزاء بعد ثلاث، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع، ثم قالوا: إن التعزية شرعت للتخفيف عن أهل الميت، وأهل الميت غالباً يفارقهم الحزن بعد ثلاث، ولذلك الشريعة أذنت في الإحداد لمدة ثلاثة أيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشراً )، قالوا: فلو حصلت التعزية بعد الثلاث فإنه يكون فيها تجديد للحزن، واستثنوا من ذلك من كان غائباً في سفر، فجاء بعد الثلاث فلا بأس بأن يعزى، لكن الذي رجحه بعض أهل العلم هو أن التعزية لا تحد بثلاثة أيام، ولا بأس أن تكون بعد الثلاث متى ما كانت المصلحة داعية، واستدلوا على ذلك بأن جعفراً رضي الله عنه لما قتل في مؤتة أمهل النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثاً، (ثم جاء فدعا بالحلاق، فحلق رأسي عبد الله بن جعفر و محمد بن جعفر ثم جعلت أسماء بنت عميس تشكو له الفقر، فقال لها: العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) وطبعاً لا تعزية أفضل من ذلك، يعني: ما يمكن أن نقول: هذا ضمان اجتماعي، أو كذا، وإنما وليهم في الدنيا والآخرة، فهو ضمان في الدنيا والآخرة.

والنبي صلى الله عليه وسلم بدأ يدخل السرور عليهم قال: ( أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب -يعني: الولد يشبه جده- وأما عبد الله فقد أشبهني خلقاً وخلقاً، اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه)، دعا للولد الصغير، فقال هذا الولد: فما اشتريت شيئاً، ولا بعته إلا ربحت فيه، أي: إذا اشتريت فبربح، وإذا بعت فبربح، لبركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام.

أقول مرة ثانية: التعزية لا تحد بثلاثة أيام، فمتى ما وجدت أن تعزيتك ستسلي أهل الميت، كما لو سمعت بأن إنساناً مات، متى مات؟ قيل لك: والله مات يوم السبت، قلت: سبحان الله! من يوم السبت، وأنا ما سمعت، واليوم الأربعاء، إذاً بينك وبين الوفاة أربعة أيام مثلاً أو خمسة، لكنك وجدت أن تعزيتك لأهله، سواء بالذهاب أو بالهاتف ستسليهم، وتدخل السرور عليهم، وتشعرهم باهتمامك بهم، فلا حرج بأن تذهب إليهم معزياً، أو أن تهاتفهم معزياً.

صنع الطعام لأهل الميت

أيها الإخوة الكرام! التعزية من مكارم الأخلاق التي دعت إليها شريعة الإسلام، وأمر بها نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه الأيام التي تعقب الوفاة شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن نصنع لأهل الميت طعاماً، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم )، فنصنع لهم الطعام، ونبعث به إليهم؛ لأن شغلهم بمصيبتهم ألهاهم أن يهيئوا طعاماً لأنفسهم، ولا بأس بأن يبقى بعض الخاصة، وأهل الميت مع أولاده، ومع زوجه، يبقون معهم في البيت لا بأس بهذا، وليس هو من الاجتماع المنهي عنه؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت إذا مات لها ميت، طبعاً أمنا عائشة ابتليت بموت أبيها رضي الله عنه، وبموت أمها أم رومان ابنة عامر رضي الله عنها، وكذلك بموت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، وبمقتل أخيها محمد بن أبي بكر رضوان الله على الجميع، فكان إذا مات الميت من أهلها فإنه يبقى معها بعض أهلها وخاصتها، يعني: يكونون معها في البيت من أجل أن يؤنسوها ويسلوها عن مصابها، فكانت تأمر بتلبينة فتطبخ، وتأمر بثريد فيصنع، وتأمرهم بأن يأكلوا منه، وعندنا في التعزية، قد يتعذر صناعة الطعام لأهل الميت؛ لبعد المسافات، يعني: الآن مثلاً ربما يموت ميت، ويأتي المعزون من أماكن بعيدة، فيقدم إليهم شيء من ماء بارد، أو شراب ساخن، ولربما يصادف وقت طعام فيأكلون، والناس الآن قد لجئوا بدلاً من صنعة الطعام -وصنعة الطعام ما زال يمارسها الجيران-، لكن الأرحام والإخوان والزملاء والخلان يلجئون بدلاً من صناعة الطعام إلى أن يدفعوا مبلغاً من المال، وهذا أيضاً من مكارم الأخلاق، ومن التعاون على تحمل المصيبة، وعدم ترك أهل الميت في مواجهتها وحدهم.

وقد ثبتت التعزية في السنة القولية، والسنة العملية، أما السنة القولية، فما رواه ابن ماجه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( من عزى أخاً له في مصيبة، كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة )، وعند الترمذي بسند ضعيف: ( من عزى مصاباً فله مثل أجره ).

وأما السنة العملية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزي أصحابه إذا مات لأحدهم ميت، وفي حديث قرة المزني رضي الله عنه (أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحضر مجلسه، وكان له ابن يأتي من وراء ظهره، فيجلسه بين يديه)، أي: كان عنده ولد صغير، دائماً يأتي معه لمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن بنيه قد مات، فامتنع عن الدرس -يعني: انقطع عن الدرس- فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! إن بنيه ذاك قد مات، فذهب عليه الصلاة والسلام يعزيه، فقال له: أيسرك أن تمتع به حياتك! أم يسرك ألا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته يفتح لك، قال: بل الثانية يا رسول الله! قال: فهي لك، قال الصحابة له: أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحكام الدفن والتعزية وزيارة المقابر [1] 2846 استماع
الإسراء والمعراج [2] 2428 استماع
الحقوق الزوجية 2237 استماع
عبر من الأحداث 2101 استماع
أحكام الجنائز [1] 1777 استماع
أحكام خاصة بالمولود 1752 استماع
أنواع البيوع 1683 استماع
الرقية الشرعية 1640 استماع
التحذير من أعياد الكفار 1640 استماع
الإسراء والمعراج [1] 1591 استماع