نداءات الرحمن لأهل الإيمان 90


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

اشتمل القرآن العظيم على تسعين نداء، وهذه النداءات وجهها الله بنفسه جل جلاله وعظم سلطانه إلى عباده المؤمنين، وسر ذلك: أنهم أولياؤه، وهو وليهم، فلذا يناديهم بعنوان الإيمان، بقوله: يا أيها الذين آمنوا . فهو يناديهم ليأمرهم بما يكملهم ويسعدهم في الدارين، أو يناديهم لينهاهم عما يشقيهم ويخسرهم في الدارين، أو يناديهم ليبشرهم، فتنشرح صدورهم وتطمئن نفوسهم، ويسابقون في الخيرات ويسارعون إلى الصالحات، أو يناديهم لينذرهم أو ليخوفهم؛ حتى لا يقدموا على الموبقات التي تهلكهم، وتقضي على كمالهم وسعادتهم، أو يناديهم ليعلمهم ما هم في حاجة إليه من علم الآداب والعقائد، والأخلاق والعبادات، الذي يسمو بهم ويرفعهم إلى أن يصبحوا أهلاً للكمالات البشرية، وهذا فضل الله ومنته ونعمته عليهم، ونحن نرجو أن نكون منهم، ولنحمد الله أن جعلنا من أوليائه.

قد علمتم إن كنتم تذكرون أن ولي الله ليس الذي مات، وضرب على قبره قبة، ووضع عليه تابوت من خشب، ووضع على التابوت الأزر الحريرية، وتضاء حوله المصابيح، وينقل إليه المريض، ويعكف حوله، ويتمرغ المحتاج على قبره، ويتوسل به، ويطلب منه الحاجات، بل أولئك أولياء الجهل والضلال، وهم الذين وضعهم العدو - المجوس واليهود والنصارى- ليصرفوا المؤمنين عن الولاية الحقة؛ من أجل أن يجعلوا المؤمنين أعداءً لله، لا يخافون بعضهم، ولا يرهبونهم ولا يحترمونهم، ولا يعظمونهم، وكأنهم أعداء الله. فلذلك جعلوا أولياء الله أهل القباب الذين يعبدون مع الله، وأقسم بالله أن هذا قد وقع منذ مئات السنين، وكنت إذا دخلت أي قرية وسألتهم أن يدلوك على ولي والله لا يدلونك على ولي يأكل ويشرب، ويتوضأ ويصلي، ولكن يأتون بك إلى الضريح.

وقد فعل بنا العدو هذا من أجل ألا يخاف أحدنا أخاه، ولا يعظمه ولا يبجله، ولا يحترمه ولا يقدره، بل يزني بامرأته ويسرق ماله، ويسبه ويشتمه، ويغشه في المعاملات ويحتال عليه، ويغتابه وينمم عليه، وكأنه عدو الله، ومن ثَمَّ ظهرت المحنة، فوجد الزنا بين المؤمنين، وكانوا يزنون بالمؤمنات، وليس بالكافرات والعواهر، وكان المؤمنون يجلسون فيسبون ويشتمون، ويعيرون ويقبحون إخوانهم، وكأنهم ليسوا بأولياء الله. وقد عرف العدو وما عرفنا. وهذه وحدها كافية بأن تهز العالم الإسلامي، ولكننا إلى الآن لم نعرف.

قررنا بالأمس أن القرآن روح، وأنه لا حياة بدون روح، وقد عرف هذا اليهود والنصارى والمجوس، ولم نعرفه نحن، فقد نظروا إلى هذه الأمة كيف سادت وعلمت، وكيف ارتقت وحكمت، وعرفوا أن سر ذلك هو القرآن، والله إنهم لصادقون في هذا، فالقرآن هو الروح التي بها الحياة، وهم عرفوا هذا فسلبوا منا قرآننا، حتى أصبح القرآن في المحاكم ودور القضاء لا وجود له إلا على الرفوف، وكذلك لا يوجد في المساجد إلا على الرفوف، ولا يقرأ إلا على الموتى، ولم يعد يُتدبر، ولا يُستخرج منه الهدى والنور، ولا يُقضى أو يُحكم به، ولا تُؤخذ الآداب والأخلاق منه.

ووضعوا قاعدة حفظناها من الشيوخ، وهي أنهم نظروا وقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر. فألجموا أمة الإسلام بلجام ماكر قرابة ثمانمائة سنة، فلم يكن أحد المسلمين يقول: قال الله أبداً، بل كانوا يسكتونه، ويقولون له: إن أصبت في تفسير القرآن فأنت مخطئ، فاستغفر الله وتب إليه، وإن أخطأت فقد كفرت. ولم يبق بين المسلمين من يقول قال الله كذا وكذا إلا ما قل وندر.

وأصبحت السنة النبوية - الحديث الشريف- والله لا يقرأ إلا للبركة. وأعوذ بالله أن أكذب عليكم في هذا، ولا يحملني الطمع فيكم أو الخوف منكم على الكذب. ومن أراد الدليل على كلامي هذا فليأت في رمضان إلى تلك الروضة الطاهرة النقية وسيجد حلقة مباركة من رجالات المدينة يقرءون البخاري للبركة، ويقرءون حدثنا فلان عن فلان، ولا يسألون عن فقه ولا عن توحيد، ولا عن قضاء ولا عن سياسة، ولا عن أدب، وكأن الأحاديث كلها عبارة عن ضلالات. فهم يقرءون البخاري للبركة فقط. وقد رأينا هذا في ديارنا الأخرى أيضاً، فهم لا يقرءون الحديث إلا للبركة. والعياذ بالله. فالحديث الذي يحمل الهدى والنور، ويحمل الشرائع والقوانين، ويحمل ما تعرف به الأمة كمالها وسعادتها، والذي هو كلام أستاذ الحكمة ومعلمها محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ للبركة. وهكذا متنا، ولا زلنا لا نعرف أننا متنا.

فهيا نعود، ونحن لا نستطيع أن نعود؛ لأننا مكبلون ومغلولون ومقيدو بشهواتنا وأهوائنا فقط، وإلا فنحن لم تقيدنا أمريكا ولا أسبانيا، ولا فرنسا ولا المجوس، بل إننا في حرية كاملة، فإن شئت فتغنى طول الليل بقرأة القرآن. وكل يوم ندفن مئات الآلاف ولا ندري مصيرهم؛ لجهلهم وسوء سلوكهم. ولا أحد يسأل عن طريق العودة لأننا نائمون، والبعض يقول: لقد صحونا، وأقول: بل زدنا نوماً فوق النوم.

وليس هناك من ينقل هذا الخبر ويبلغه ويحدث به ولو في المقهى، ولا أقول: يبلغ الحاكم ولا البوليس، بل يبلغه ويتكلم به في قريته عندما يجلس مع المؤمنين، وإذا جلس مع حاكم أو سلطان يقول: سمعنا كذا وكذا. وهذا هو البلاغ.

طريق العودة سهل، ولا تكلف ديناراً ولا درهماً، ولا تعطل ساعة من ساعات أعمالنا أبداً، ولا تعرضنا لأذى، لا من أنفسنا ولا من غيرنا؛ لأننا في حماية ربنا.

وهذه الطريق هي: إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة، وفرغنا من العمل وأوقفنا دولابه، وأخذ اليهود والنصارى يتنظفون؛ ليذهبوا إلى المقاهي والملاهي، والمراقص والمقاصف، يغلق التجار دكاكينهم، ويرمي الفلاحين مساحيهم، ويتوضئون ويذهبون بزوجاتهم وأولادهم إلى بيت ربهم، وكل حي فيه جامع كبير على بعد مائة خطوة، أو مائتي خطوة، أو ثلاثمائة خطوة، فيدخلون إلى بيت ربهم قبل المغرب بدقائق أو مع الأذان، ويكون للنساء رواق خاص، ومكبر صوت يبلغهن، فإذا صلوا المغرب يصطف الأطفال صفوفاً، ويجلس الفحول مثل جلوسكم هذا، ويجلس لكم معلم مربي، ويربيهم بقال الله وقال رسوله، وليس بقال إمامي، ولا بمذهبي، ولا بطريقتي، بل يعلمهم قال الله كذا وكذا، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ويتغنون بآية ربع ساعة أو عشرين دقيقة حتى يحفظها الرجال والأطفال والنساء، فتصبح كتلة من النور في قلوبهم، ويشرحها لهم المربي حسب جهده وطاقته بلسانهم وبلغتهم حتى يفهمونها، ويعرفون أن المطلوب منهم في هذه الآية أن يعتقدوا كذا وكذا إن كان عقيدة، أو يلتزموا بكذا إن كان أدباً، أو أن يتخلقوا بكذا إن كان خلقاً، ويتخلقون به من الليلة، وإن كان واجباً عرفوه وعزموا عزماً أكيداً على أن يفعلوه مهما يكون، إن كان مكروهاً مبغوضاً لله محرماً عزموا ألا يفعلوه، وإن كان قولاً لا يقولونه، فيعودون كالملائكة في صفائهم وطهرهم، لا رغبة لهم في الشهوات، ولا في الدنيا ولا في أوساخها وأهوائها، في حين يعود الكفار والفساق والفجار سكارى من شرب الخمور والنظر إلى الباطل، وأما هؤلاء فيعودون إلى بيوتهم وهم يذكرون الله ويحمدونه، وينامون على ذكره، ثم يستيقظون لصلاة الصبح، وما إن يصلوها حتى يفزعوا إلى أعمالهم، فيذهب الفلاح إلى مزرعته، والتاجر إلى دكانه، أو إلى سوقه، والصانع إلى صناعته، ويمكثون من صلاة الصبح إلى الظهر، فينتجون إنتاجاً والله ما ينتجه الفسقة والكفرة ولو ضاعفوا ساعات عملهم؛ لأن هؤلاء أحياء ربانيون على علم، وهم يعملون لله، فأدواتهم في أيديهم وهم يذكرون الله، والفلاح يعرف أنه يضرب بمساحاته في الأرض من أجل الله، وهكذا يرقون، وهكذا يكون حالهم طول العام، فيصبح أهل القرية كالملائكة، ويندر أن يعصى الله بينهم، ويأمنون في حياتهم، فتبيت أبوابهم مفتوحة ولا يخافون لص ولا مجرماً؛ إذ لم يعد بينهم لص أو مجرم، وإن جاء مجرم من مكان آخر صرفه الله عنهم؛ لأنهم أولياءه وهو وليهم.

وهذه العودة لا تكلفنا شيئاً، بل إنها هي التي تنهي الخلاف والصراع، والحزبية والتكفير، والتجهيل والتفسيق، والفجور والضلال، والشهوات والحسد والأطماع، وكل هذه تنتهي حسب سنة الله عز وجل. وإن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير.

وبلغوا هذا، وتحدثوا به في مجالسكم أنكم سمعتم في مسجد رسول الله كذا لينتشر الخبر، واليوم تنتشر حتى الخرافات والضلالات.

الفرق بين نداءات الرحمن ومزامير الشيطان

هذا هو [ النداء الخامس والثمانون ] فهيا نسمع كلام ربنا، فهو ينادينا ليأمرنا بأعظم أمر وأنفعه لنا في حياتنا الدنيا والآخرة. ومضمون هذا النداء وفحواه ومطلوبه هو: [ في وجوب حضور صلاة الجمعة إذا نودي لها، و] في [ حرمة البيع والشراء وسائر الأعمال بعد النداء

الآيتان (9 - 10) من سورة الجمعة ] وسورة الجمعة مدنية. وهيا نتغنى بالآيتين أولاً، ونتلذذ بتلاوتهما، ولا نكون من الذين يتلذذون بأغاني أم كلثوم وغيرها، ووالله الذي لا إله غيره إن الذين يتلذذون بهذا لا يتلذذون بالقرآن، ولا يستطيعون ذلك.

إن العبد أو الأمة الذي يتلذذ بالأغاني ولا يتلذذ بالقرآن قلبه ميت، فعليه أن يجدد إيمانه، وحرام على المؤمن أن يسمع امرأة تغني، وهذا لا يحل أبداً، وكذلك المرأة إذا استمعت إلى عاهر أو فاجر أو كافر يغني وطربت لغنائه قد فعلت كبيرة من كبائر الذنوب. والبعض ينكر علينا هذا الكلام، ويقول: هذا تعصب، أو هذا كذا.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم -ولو يجتمع علماء الأرض كلهم على أن يردوا قوله ما قدروا على رده-: ( إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ). وهذا الحديث صحيح، وهو في الصحيحين. فلنحفظ هذا الحديث. ومعنى هذا الحديث: إذا نابك شيء وأنت تصلي أو قرع الباب أو دق الجرس فلا تصفق؛ لأنك فحل، بل قل: سبحان الله؛ حتى يفهم من قرع بابك أنك في الصلاة، فيلزم الصمت والسكوت ويقف عند الباب حتى تفرغ، والمرأة المسكينة إذا دق الباب أو الجرس ونادى منادٍ فلا تقول: سبحان الله؛ لأن صوتها عورة، فيفهم من يدق الباب أنها في صلاة.

والمساكين والمتخبطين في الضلال ينكرون أن يكون صوت المرأة عورة، أقول لهم: افهموا أولاً معنى عورة في لسان العرب ثم تكلموا، وأيضاً اعلموا يا علماء النفس والكذب! أن الله غرز في الفحول وإناثهم أن صوت الفحل يهز عاطفة المرأة، وأن صوت الأنثى يحرك الشهوة في الفحل، سواء في الإنسان، أو في الإبل أو في البقر أو في الغنم، أو في القطط أو في الذئاب، بل وفي كل الذكور والإناث، ولا يوجد فحل حقيقي يسمع صوت امرأة ولا يتحرك قلبه، ولذلك لا يوجد مجال للرد على رسول الله، وإنما هي أوهام وتدجيل، وإذا تحرك قلبها أو قلبه حال ذلك التحرك بين صاحبه وبين الملكوت الأعلى، فهذه اللطخة التي تقع تحجبك عن الله، وتسوقك إلى فاحشة تقضى عليك بالمرة، وتجعلك تموت على أحبط حال.

وهم يبيحون الزنا واللواط، والكذب والخيانة، ويعجبون من أن الإسلام منع سماع صوت المرأة، وهؤلاء مجانين، وعليهم أن يعرفوا أولاً الإسلام، فالإسلام يعد أهله ليسكنوا الملكوت الأعلى، وهذا السكن يحتاج إلى طهارة روح وصفائها وزكاتها؛ حتى تشبه أرواح الملائكة وأهل السماء. وهم لا يفهمون هذا الفهم ويتكلمون، ويقولون لك: إن المرأة لن تهلك إذا صافحها الرجل أبداً، ويقدمون نساءهم إلى الرجال يصافحونهن، ويقولون: ليس في هذا شيئاً، ونحن نقول: صحيح إنه لم يزن بها، ولكنه تلطخت نفسه وتخبثت، وتعفنت نفسها كذلك.

أضرار الذنوب والسيئات على القلب

إذا توالت السيئات ختم على القلب وانتهى الأمر. واسمعوا أستاذ الحكمة صلى الله عليه وسلم يقول في بيان قوله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، أي: من النظرة المحرمة والكلمة النابئة والدرهم الخبيث، يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه ). وهو محط التلقي والإرسال. ( فإن هو تاب مسح ذاك الأثر وزال، وصقل القلب، وإن هو لم يتب وزاد ذنباً آخر وقع نكتة إلى جانب الأولى، وزاد الثالثة والرابعة والخامسة حتى يغطى القلب، وذلكم الران الذي قال الله فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ). ولا إله إلا الله! فقد حرمنا أعداؤنا من الهدى، وأبعدونا عن نور الله؛ لنعيش حيوانات يركبون علينا، ويحلبون ويأكلون ويشربون، وهؤلاء الأعداء هم المجوس واليهود والنصارى، فقد عرفوا وعلموا مصادر قوتنا، ولم نعرفها نحن ولا علمناها، بل إننا جهلناها، وعرفوا نورنا وهدايتنا وجهلناها، فصرفونا عن الهدى والنور، وعن الحياة بكاملها.

[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10] ] وهذا كلام ربنا، أي: خالقنا ورازقنا الذي أرسل نبينا، وأنزل الكتاب والقرآن الذي في صدورنا.

تحدي الله عز وجل للإنس والجن بهذا القرآن

تحدى عز وجل بهذا القرآن الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فطأطئوا رءوسهم، وانكسرت أنوفهم، وتمرغوا في التراب، وحملوا عداء عظيماً للإسلام والمسلمين، وقال تعالى في هذا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. بل لما تحداهم لم يرفعوا رءوسهم، ولو عقد علماؤهم اليهود والنصارى والمشركين المجالس على أن يأتوا بقرآن لما جاءوا به. بل إنه تحداهم بعشر سور تنزلاً، فقال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13]. ولم يستطيعوا. ثم تحداهم بسورة واحدة، فقال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، أي: شك عظيم مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. وفي قوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] نكتة لم يعرفها أكثر السامعين، وهذه النكتة أنه قال العلماء: هذه الجملة (ولن تفعلوا) لن يقولها إلا الله، ولا يمكن أن يقولها إنسان. ومثلاً: الآن اليابان إذا صنعت شيئاً من الصناعات لا يمكنها أن تقول: أتحدى البشرية أن ينتجوا مثلها إلى مائة سنة، ولا يمكنها أن تفعل هذا، فهذا ليس معقولاً ولا مقبولاً، ولن تقول هذا أبداً، وكذلك أمريكا بلد الصناعات العظمى في دنيا الصناعة لا تستطيع أن تظهر أو تخرج آلة أو سيارة أو طيارة أو غير ذلك وتقول: أتحدى البشرية أن ينتجوا مثل هذه في سبعين سنة، فهي لا تستطيع أن تقول هذا، وتعرف أنها لا تستطيع. والله عز وجل قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] إلى يوم القيامة. ولم يستطع أحد أن يأتي بسورة مثل التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] خيراً لكم.

سبب الحث على ذكر الله في كل الأوقات

هذا القرآن عجب، فالله يقول هنا في هذا النداء: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]. فإذا خرجتم من الصلاة فانتشروا، هذا في المزرعة، وهذا في المصنع، وهذا في المطبخ، وهكذا، ولكن لا تنسوا ذكر الله، وإذا كان ذكر الله معنا في قلوبنا وألسنتنا فإنه يحمينا والله من الكذب والسرقة، ومن الفجور والحسد، ومن أن نؤذي أحداً أو نضره. ومن المستحيل أن نجعل مع كل مواطن بوليس، وإذا حدث هذا فإن هذا لن يحقق والله لأهل البلد طهراً ولا صفاء ولا أمناً.

فهناك فرق بين أمة تذكر ربها وتعيش على ذكره وبين يديه، وبين أمة لا تعرف الله ولا تؤمن به، وتريد أن تحقق الأمن في البلاد، فالأمن لم يتحقق في باريس، ولا في موسكو، بل انتشرت الجرائم والموبقات، والظلم والبلاء والشقاء، ونحن تخلينا عن أنوارنا، وحاولنا أن نتقمص بقمصانهم لنكون مثلهم، فانتشر فينا الباطل والخبث، والشر والفساد، ولم نستيقظ بعد.

فهيا نعود، ولا تقولوا: لا نستطيع، فأنتم لم تدعوا إلى حمل الجبال حتى تقولوا: لا نستطيع، ولم تدعوا إلى ترك الأكل والشرب، بل دعيتم إلى أن تحققوا إيمانكم فقط، وتؤمنوا الإيمان الصحيح.

سبب نداء الله للمؤمنين دون بقية الناس

[ الشرح: ] قال الشارح غفر الله لنا وله ولكم أجمعين: [ اذكر أيها القارئ الكريم! أن الله تعالى ينادي عباده المؤمنين بعنوان الإيمان ] ولم ينادهم قائلاً: يا أيها الناس! وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الجمعة:9] [ لأن المؤمنين أحياء بإيمانهم ] وغيرهم أموات، وهم وإن كانوا أطباء ودكاترة وفنانين فهم أموات. والفرق بين الميت والحي أن الحي إذا نودي سمع النداء وأجاب، والميت لا يسمع ولا يجيب، ولو وقفت في قلب باريس تنادي: الصلاة عباد الله! لم يسمعوا، ولم يجيبوا؛ لأنهم أموات، وليسوا أحياء. وأما المؤمنون فهم أحياء بإيمانهم [ يسمعون النداء، ويجيبون من ناداهم ] وذلك [ لكمال حياتهم. وها هو ذا سبحانه وتعالى نادى عباده المؤمنين من هذه الأمة المسلمة له وجوهها وقلوبها ] ومسلم اسم فاعل من أسلم يسلم إسلاماً إذا أعطى الشيء، وسلم لغيره حقه ومتاعه، ولذلك المسلم هو الذي أعطى الله تعالى قلبه ووجهه، كما قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [لقمان:22]. فالمسلم هو الذي أسلم - أي: أعطى- قلبه لله، فلا هم له إلا رضا الله، ولا يرى إلا الله في هذه الحياة، ولا يقوم ويقعد وينام ويأكل ويشرب ويبني ويهدم ويطلق ويزوج إلا لله. هذا هو الإسلام، وأما أن يقول: أسلمت ولا يعطي شيئاً فهذا يكذب، وهو لم يسلم بعد.

فضل يوم الجمعة

قال: [ فيقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[الجمعة:9] ] آمنوا [ بي وبرسولي وبلقائي، وما عندي لأوليائي ] أي: الجنة ونعيمها [ وما لدي لأعدائي ] من النكال والعذاب الأليم، كما قال تعالى: (( إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ))[المزمل:12-13]. قال: [ (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ))[الجمعة:9] أي: إذا أذن المؤذن قائلاً: حي على الصلاة، وذلك من يوم الجمعة ] في أذان الجمعة [ وهو اليوم الفاضل الذي فازت به أمة الإسلام، وحرمه اليهود لعنادهم، وحرمه النصارى لجهلهم وضلالهم، إذ هو أفضل الأيام ] فيوم الجمعة أفضل يوم في الدنيا في أيام الأسبوع، وقد اختلف فيه اليهود، وحملهم الحسد والعناد والكبر على أن أخذوا السبت وتركوا الجمعة، ثم جاء بعدهم النصارى، فعرض عليهم الجمعة فقالوا: الأحد، فحرمه اليهود والنصارى، وفازت به أمة الإسلام. قال: [ فيه خلق الله آدم، وأدخله الجنة، وأخرجه منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ] فقد أخبر رسول الله خبراً يقينياً أن فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي فيها ويطلب الله شيئاً إلا أعطاه [ ويقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة -بعيراً- ) ] ويمكن أن تكون الساعة الأولى الثامنة صباحاً [ ( ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب ) ]أي: إلى الله- بقرة [ ( ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ) ] أي: ذو قرنين طويلين وهو أجمل وأقوى [ ( ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ) ] أي: تصدق ببيضة. والذي رغبنا هذا الترغيب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يصبح يوم الجمعة يوم عبادة، وتكون الأمة كلها مقبلة على ربها، فيغتسلون يتنظفون، ويذهبون إلى بيوت ربهم؛ لأن العمل واقف فيها، واليهود يوقفون أعمالهم يوم السبت، والنصارى يوقفون أعمالهم يوم الأحد، ونحن لا نوقف العمل طول اليوم، بل نوقفه من الساعة الثامنة إلى الواحدة فقط، وبعد ذلك نذهب إلى العمل؛ لأننا أمة عمل، ولسنا أمة خمول ولا هبوط، ولا لهو ولا باطل. قال [ ( فإذا خرج الإمام -أي: ليرقى المنبر ويخطب الناس- حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) ] لأن الملائكة على أبواب المسجد، وسواء كانت الأبواب سبعة أو عشرة أو ثلاثة، وهم يكتبون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام وطلع المنبر دخلوا، والذي يأتي بعد ذلك لم يكتب اسمه بين الحضور؛ لأن الكتبة المعدون لذلك دخلوا إذا خرج الإمام؛ ليستمعون الذكر والخطبة.

حكم السعي إلى الجمعة بعد أذان الجمعة

قال: [ وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] أي: امشوا إلى أداء صلاة الجمعة بعد سماع الخطبة ] وهذه الخطبة ترقت بها الأمة، ووصلت بها إلى عنان السماء، وقبل أن تعرف الأمة البشرية التلفاز والراديو والتلفون فرض الإسلام فرض على الفحول دون الإناث، وعلى الأحرار دون العبيد أن يشهدوا صلاة الجمعة من أجل أن يسمعوا البيان الرسمي الذي يلقيه إمام المسلمين. فهذه الخطبة عجبيبة، فإذا ألقى الإمام خطبته وشوهدت تخالف ما يقول فإنك تؤخذ فوراً لتؤدب. فالقرآن سبق بيانات الوزراء والحكام بألف عام. وفي كل يوم جمعة تكون الأمة كلها حاضرة، أغنياؤها وفقراؤها، وعلماؤها وجهالها، يسمعون التعاليم الأسبوعية، فإن كان أمراً أو واجباً فعلوه، وإن كان نهياً تركوه؛ ليبقوا دائماً مشدودين بالله، أقوياء في دين الله. ونكمل بقية النداء غداً.

جاءني اثنان يبكيان يقولان: وقع حادث، وأخونا أو أبونا الآن على سرير الموت، فادع الله له بالشفاء. فهيا ندعو ربنا لإخواننا، وسأدعو أنا وأنتم قولوا آمين فقط يكفي، كما كان موسى يدعو وهارون يقول: آمين، فقال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]. مع أن الداعي واحد. والمسلمون لم يعرفوا هذا، فقد يدعي أحد بين عشرة أو عشرين أو أكثر ولا يقولون: آمين، وكأنهم يلعبون. فتعلموا يا عباد الله! إذا فرغ الداعي من الدعاء فقولوا: آمين. واعرفوا هذا. وسورة الفاتحة فيها دعوة عظيمة، وهي قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. وهذه أعظم دعوة، ولما يفرغ الإمام نقول: آمين؛ حتى نفوز بالدعوة. ولكن المسلمين ما وجدوا من يعلمهم، ولم يطلبوا من يعلمهم، ويعيشون عشرات السنين ولا يجلسون في بيت ربهم، ولا يطلبون هداه، ولا يطلبون من يهديهم ويعلمهم، وهذا بسبب ذنوبهم.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.