شرح العقيدة الطحاوية [70]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه).

يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة، وفيه تقرير لما قال أولاً: إنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وتقدم الكلام على هذا المعنى ].

كلامه هنا فيه نوع من الإجمال، وبعض الألفاظ فيها اشتباه، وفي الجملة إذا جعلنا هذا الأصل جارياً على أصول أهل السنة والجماعة -وهو -إن شاء الله- مقصود الإمام الطحاوي - فإنه يعني أنه لا يخرج العبد من مسمى الإيمان إلا إذا ترك شيئاً من أصول الدين، بمعنى أنه أنكر شيئاً من أصول الإيمان ولوازم أصول الإيمان التي لا بد منها والتي ثبتت في النصوص، مثل الشفاعة، والرؤية، وكلام الله عز وجل وأنه منزل غير مخلوق؛ فهذه من لوازم الإيمان، وتدخل في أصول الإيمان بالنصوص الشرعية، وليس باللزوم العقلي أو التفريع على القواعد فقط، بل بمقتضى النصوص الشرعية؛ لأن أركان الإيمان وأركان الإسلام لها لوازم.

وفي الأركان العملية خلاف، فهل من أعرض عن الصلاة والصيام والحج والزكاة إعراضاً كلياً يخرج من الإيمان أو لا يخرج؟ هذه مسألة خلافية، إلا أن الصلاة ورد فيها نصوص مستقلة على أنه يخرج تاركها من الإيمان ومن الإسلام، وما عدا ذلك فإن المسألة فيها خلاف، فبعض أهل العلم قال: إن من أعرض عن أركان الإسلام إعراضاً كلياً؛ فلا بد أن يلزم من إعراضه الجحود أو الشك الذي يؤدي إلى الجحود، أو عدم التسليم الذي يخرج به عن مسمى الإيمان.

إذاً: فقوله: (لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يقصد به جحود أصول الدين التي أدخلته في مسمى الإيمان، وهي أركان الإيمان ولوازمها وأركان الإسلام بجملتها ولوازمها.

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى ].

هذه العبارات في الحقيقة جارى فيها الشيخ الطحاوي رحمه الله مذهبه وشيوخه الأحناف، وإن كان حاول أن يقرب بعض الألفاظ إلى المعاني التي يقول بها أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي في بعض عباراته شيء من الإشكال.

فقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ليس هو التعريف الكامل للإيمان، فقد بقي العمل بالجوارح، أي أنه مال إلى قول المرجئة.

وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) هذا فيه تلميح إلى قول أبي حنيفة ومرجئة الفقهاء رحمهم الله، فإنهم يقولون: إن الأعمال تخرج من مسمى الإيمان، لكنها تلزم العبد؛ لأنها أوامر ونواه، ويترتب على فعلها الثواب وعلى تركها الوعيد والعقاب.

وقوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فيه تعبير عن مذهب المرجئة، وكأنه يشير إلى أن الإيمان هو التصديق والقول.

والسلف في الحقيقة يرون أن الإيمان متعدد؛ لأن الإيمان هو معانٍ وحقائق تتفاوت، كالتصديق والإذعان والخشية والتقوى والخوف والرجاء ونحو ذلك من المعاني القلبية، وكذلك يتعدد في الأمور العملية، فأعمال الجوارح كلها تدخل في مسمى الإيمان، وهي متعددة وتتفاوت زيادة ونقصاً، وتتفاضل بحسب النية وما يقر في القلب، وتتفاضل أيضاً بنوعها وكمها، وهذا التفاضل في أعمال القلب وفي أعمال الجوارح لا يتماشى مع التعبير بأن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء.

كما أن قوله: (وأهله في أصله سواء) متابعة للمرجئة في أن المؤمنين على درجة واحدة من الإيمان، إنما يتفاوتون في الأعمال على اعتبار أن الأعمال عند هؤلاء لا تدخل في مسمى الإيمان، وكذلك قوله: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يقصد بذلك أن التفاضل معنوي ولا يكون حسياً، وهو بهذا أيضاً يميل إلى قول المرجئة بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان على الأقل في ظاهر اللفظ، وإن كان الشارح ابن أبي العز رحمه الله حاول أن يجر هذه العبارات إلى مذهب أهل السنة والجماعة بشيء من التكلف، والله أعلم، وسيتضح هذا من خلال ما سيذكره.

ذكر مذهب السلف في حقيقة الإيمان

قال رحمه الله تعالى: [ اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ].

هنا زاد على كلام الشيخ الطحاوي الإشارة إلى العمل بالأركان، هذا أمر، الأمر الآخر أن العبارة فيها قصور في الحقيقة، وإن كان ابن أبي العز ربما لم يقصد ذلك، لكنه ما أراد أن يبين وجه الخطأ في كلام الطحاوي رحمه الله، وما أراد أن يشهر وجه الخطأ؛ لأنه حمله على أحسن المحامل.

وقوله: [اختلف الناس] ثم قوله: [ذهب مالك ]، كان الأولى منه أن يقول: فذهب السلف؛ فهذا مذهب السلف إطلاقاً: الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، ولم يخالفهم من الأئمة المشاهير إلا أبو حنيفة وشيخه حماد وعدد قليل من أتباعهما ممن يعدون من أئمة السلف، أما البقية فهم من أهل الأهواء، فعلى أي حال ينبغي أن يقال: فهذا مذهب السلف، ثم يذكر أفراداً منهم، فيقال: فمذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي كذا، كما فصل، أو أن يقال: فمذهب السلف -كـمالك والشافعي - ... إلى آخره.

وقد تبع بعض المتكلمين السلف، أما أهل المدينة فهم أصل السلف، وأهل الظاهر أيضاً يوافقون السلف في كثير من الأصول في العقيدة، وقوله: [وجماعة من المتكلمين] يقصد جماعة من الأشاعرة والماتريدية.

والمعتزلة يوافقون أهل السنة بإجمال في هذا القول، فيدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك أكثر الخوارج يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لكنهم لا يجزئون الإيمان، حيث يرون أن الإيمان إذا اختل منه شيء اختل كله، فعند الإجمال يوافق المعتزلة والخوارج أهل السنة، لكن عند التطبيق والتفصيل يخالفون مخالفة كبيرة، فأهل السنة يرون أن الإيمان يتفاضل، ومع تفاضله إذا اختل منه عمل بقي الآخر، والخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان يشمل القول والعمل، لكن إذا اختل منه جزء اختل كله، ولا يزال مذهب أكثر الإباضية إلى اليوم.

ذكر مذهب الحنفية في حقيقة الإيمان

قال رحمه الله تعالى: [ وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان ].

قوله: (من أصحابنا) يعني: الأحناف، وهم المرجئة؛ ولا يلزم التلازم بين الأحناف والمرجئة، نعم هناك مرجئة غير الأحناف، لكنهم هم الأغلبية، فهناك من الأحناف من مال إلى مذهب أهل الحديث مذهب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، وهناك منهم من يخالفهم في بعض الجزئيات، لكن في الجملة الكلام أن غالب الأحناف هم المرجئة، كما أن أغلب المرجئة أحناف، والماتريدية كذلك مرجئة.

فقوله: (أصحابنا) يعني: الأحناف، أصحابه في المذهب الفقهي.

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه ].

الراجح عن أبي حنيفة أنه قال: إن الإيمان تصديق وقول، وهو مذهب شيخه، وقد فرق الشارح الأقوال، فلذلك يحسن أن نجمعها الآن بإيجاز، وإن كانت ستأتي تفصيلاً، فمحصلة الأقوال في الإيمان أنها خمسة:

أولها: قول السلف بأنه قول وعمل، هذا على الإجمال، وأحياناً يفصلون فيقولون: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان.

والقول الثاني: أنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذا مذهب أبي حنيفة وشيخه وكثير من أوائل المرجئة.

والقول الثالث: أنه قول اللسان فقط، وهذا قول الكرامية.

والقول الرابع: أنه التصديق فقط، وهذا قول طائفة من الأحناف، وهو قول أبي منصور الماتريدي وكثير من أتباعه، ولا يزال هو قول كثير من المرجئة، سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو غيرهم، بمعنى أن المرجئة لهم قولان: منهم من قال: الإيمان هو التصديق فقط، وأثر هذا عن أبي حنيفة ، وهو أيضاً قول الماتريدي وقول كثير من المرجئة الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال: إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو الأرجح عن أبي حنيفة ، وقال به بعض المرجئة أيضاً.

والقول الخامس: أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، أي: أن من عرف الله فهو مؤمن، سواء صدق أو لم يصدق، فالذي يعرف ويجحد كفرعون مؤمن كامل الإيمان، وهذا قول الجهم وقول بعض الفلاسفة وغلاة الصوفية، ويقول به كثير من الباطنية.

ذكر مذهب الكرامية ومذهب الجهمية

قال رحمه الله تعالى: [ وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد.

وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] ].

وجه الاستدلال هنا أنه قال: (لَقَدْ عَلِمْتَ) وهذا مما حكاه الله عز وجل عن موسى وفرعون ، وفرعون لم ينكر هذه الدعوى؛ لأنه ما أنكر قول موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ)، ثم إن الله عز وجل حكى بذلك وجه الحق في القصة، فلو كان فيها استدراك فيما لا يعلمه إلا الله عز وجل -وهو ما في قلب فرعون - لتبين هذا في القرآن، أو لبينه الله عز وجل، ثم إن موسى لا ينطق إلا بالحق في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على فرعون، والله عز وجل يسدده ويعصمه من أن يقول الباطل، لا سيما أنه يشير إلى ما في قلب فرعون.

وقوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ) فيه نوع من إطلاع موسى على شيء من الغيب مما في قلب فرعون، فلو لو يكن هذا حقاً -أي: أن فرعون علم لكنه جحد- لما جاءت بهذا السياق في كتاب الله، فلو كان كلام موسى عليه السلام عن فرعون مجرد ظن؛ لما جاء بها هكذا دون أن يسدده الله عز وجل ويبين له وجه الحق في ذلك، لا سيما أنه يشير إلى معنى قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أطلع الله عليه نبيه موسى، وهو أن فرعون علم في قرارة قلبه أنه ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] ].

دلالة هذه الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الله عز وجل يحكي حالهم، والله لا يقول إلا الحق، فالله يحكي حال فرعون وآله؛ لأنهم استيقنتها أنفسهم، بمعنى أنهم عندهم يقين قلبي، لكن الجحود جحود مكابرة وجحود تعالي وغطرسة وغرور، وهذه من صفات الإنسان إذا طغى واستحوذ عليه الشيطان، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله تعالى: [ وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36].. قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39].. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! ].

هذا من باب الإلزام، والشاهد أنه يلزم من قول الجهم -وهو قول خبيث غال في الخبث- أنه إذا كان الإيمان هو معرفة الله فقط، وأن من عرف الله استحق الثواب على الإيمان، يلزم منه أن يكون فرعون وقومه من المؤمنين والذين يستحقون الثواب، وأنهم لا يكونون كافرين على هذا المفهوم، وكذلك أبو طالب وقريش، والكفرة الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، كل هؤلاء على قاعدة الجهم يعدون من المؤمنين وليسوا من الكافرين، وكذلك إبليس، وهذه مغالطة وقلب للحقائق، وهذا أسلوب الباطنية في كل زمان.

حاصل الأقوال في حقيقة الإيمان

قال رحمه الله تعالى: [ وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره.

وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم ].

هذا كلام ليته عبر به في السابق، فهذا تعبير سليم عن قول السلف بأسلوب واضح صريح ليس فيه مجاملة للأحناف ولا للمرجئة.

قال رحمه الله تعالى: [ أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر ].

قال رحمه الله تعالى: [ اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ].

هنا زاد على كلام الشيخ الطحاوي الإشارة إلى العمل بالأركان، هذا أمر، الأمر الآخر أن العبارة فيها قصور في الحقيقة، وإن كان ابن أبي العز ربما لم يقصد ذلك، لكنه ما أراد أن يبين وجه الخطأ في كلام الطحاوي رحمه الله، وما أراد أن يشهر وجه الخطأ؛ لأنه حمله على أحسن المحامل.

وقوله: [اختلف الناس] ثم قوله: [ذهب مالك ]، كان الأولى منه أن يقول: فذهب السلف؛ فهذا مذهب السلف إطلاقاً: الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، ولم يخالفهم من الأئمة المشاهير إلا أبو حنيفة وشيخه حماد وعدد قليل من أتباعهما ممن يعدون من أئمة السلف، أما البقية فهم من أهل الأهواء، فعلى أي حال ينبغي أن يقال: فهذا مذهب السلف، ثم يذكر أفراداً منهم، فيقال: فمذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي كذا، كما فصل، أو أن يقال: فمذهب السلف -كـمالك والشافعي - ... إلى آخره.

وقد تبع بعض المتكلمين السلف، أما أهل المدينة فهم أصل السلف، وأهل الظاهر أيضاً يوافقون السلف في كثير من الأصول في العقيدة، وقوله: [وجماعة من المتكلمين] يقصد جماعة من الأشاعرة والماتريدية.

والمعتزلة يوافقون أهل السنة بإجمال في هذا القول، فيدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك أكثر الخوارج يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لكنهم لا يجزئون الإيمان، حيث يرون أن الإيمان إذا اختل منه شيء اختل كله، فعند الإجمال يوافق المعتزلة والخوارج أهل السنة، لكن عند التطبيق والتفصيل يخالفون مخالفة كبيرة، فأهل السنة يرون أن الإيمان يتفاضل، ومع تفاضله إذا اختل منه عمل بقي الآخر، والخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان يشمل القول والعمل، لكن إذا اختل منه جزء اختل كله، ولا يزال مذهب أكثر الإباضية إلى اليوم.

قال رحمه الله تعالى: [ وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان ].

قوله: (من أصحابنا) يعني: الأحناف، وهم المرجئة؛ ولا يلزم التلازم بين الأحناف والمرجئة، نعم هناك مرجئة غير الأحناف، لكنهم هم الأغلبية، فهناك من الأحناف من مال إلى مذهب أهل الحديث مذهب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، وهناك منهم من يخالفهم في بعض الجزئيات، لكن في الجملة الكلام أن غالب الأحناف هم المرجئة، كما أن أغلب المرجئة أحناف، والماتريدية كذلك مرجئة.

فقوله: (أصحابنا) يعني: الأحناف، أصحابه في المذهب الفقهي.

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه ].

الراجح عن أبي حنيفة أنه قال: إن الإيمان تصديق وقول، وهو مذهب شيخه، وقد فرق الشارح الأقوال، فلذلك يحسن أن نجمعها الآن بإيجاز، وإن كانت ستأتي تفصيلاً، فمحصلة الأقوال في الإيمان أنها خمسة:

أولها: قول السلف بأنه قول وعمل، هذا على الإجمال، وأحياناً يفصلون فيقولون: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان.

والقول الثاني: أنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذا مذهب أبي حنيفة وشيخه وكثير من أوائل المرجئة.

والقول الثالث: أنه قول اللسان فقط، وهذا قول الكرامية.

والقول الرابع: أنه التصديق فقط، وهذا قول طائفة من الأحناف، وهو قول أبي منصور الماتريدي وكثير من أتباعه، ولا يزال هو قول كثير من المرجئة، سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو غيرهم، بمعنى أن المرجئة لهم قولان: منهم من قال: الإيمان هو التصديق فقط، وأثر هذا عن أبي حنيفة ، وهو أيضاً قول الماتريدي وقول كثير من المرجئة الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال: إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو الأرجح عن أبي حنيفة ، وقال به بعض المرجئة أيضاً.

والقول الخامس: أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، أي: أن من عرف الله فهو مؤمن، سواء صدق أو لم يصدق، فالذي يعرف ويجحد كفرعون مؤمن كامل الإيمان، وهذا قول الجهم وقول بعض الفلاسفة وغلاة الصوفية، ويقول به كثير من الباطنية.

قال رحمه الله تعالى: [ وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد.

وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] ].

وجه الاستدلال هنا أنه قال: (لَقَدْ عَلِمْتَ) وهذا مما حكاه الله عز وجل عن موسى وفرعون ، وفرعون لم ينكر هذه الدعوى؛ لأنه ما أنكر قول موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ)، ثم إن الله عز وجل حكى بذلك وجه الحق في القصة، فلو كان فيها استدراك فيما لا يعلمه إلا الله عز وجل -وهو ما في قلب فرعون - لتبين هذا في القرآن، أو لبينه الله عز وجل، ثم إن موسى لا ينطق إلا بالحق في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على فرعون، والله عز وجل يسدده ويعصمه من أن يقول الباطل، لا سيما أنه يشير إلى ما في قلب فرعون.

وقوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ) فيه نوع من إطلاع موسى على شيء من الغيب مما في قلب فرعون، فلو لو يكن هذا حقاً -أي: أن فرعون علم لكنه جحد- لما جاءت بهذا السياق في كتاب الله، فلو كان كلام موسى عليه السلام عن فرعون مجرد ظن؛ لما جاء بها هكذا دون أن يسدده الله عز وجل ويبين له وجه الحق في ذلك، لا سيما أنه يشير إلى معنى قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أطلع الله عليه نبيه موسى، وهو أن فرعون علم في قرارة قلبه أنه ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] ].

دلالة هذه الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الله عز وجل يحكي حالهم، والله لا يقول إلا الحق، فالله يحكي حال فرعون وآله؛ لأنهم استيقنتها أنفسهم، بمعنى أنهم عندهم يقين قلبي، لكن الجحود جحود مكابرة وجحود تعالي وغطرسة وغرور، وهذه من صفات الإنسان إذا طغى واستحوذ عليه الشيطان، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله تعالى: [ وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36].. قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39].. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! ].

هذا من باب الإلزام، والشاهد أنه يلزم من قول الجهم -وهو قول خبيث غال في الخبث- أنه إذا كان الإيمان هو معرفة الله فقط، وأن من عرف الله استحق الثواب على الإيمان، يلزم منه أن يكون فرعون وقومه من المؤمنين والذين يستحقون الثواب، وأنهم لا يكونون كافرين على هذا المفهوم، وكذلك أبو طالب وقريش، والكفرة الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، كل هؤلاء على قاعدة الجهم يعدون من المؤمنين وليسوا من الكافرين، وكذلك إبليس، وهذه مغالطة وقلب للحقائق، وهذا أسلوب الباطنية في كل زمان.

قال رحمه الله تعالى: [ وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره.

وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم ].

هذا كلام ليته عبر به في السابق، فهذا تعبير سليم عن قول السلف بأسلوب واضح صريح ليس فيه مجاملة للأحناف ولا للمرجئة.

قال رحمه الله تعالى: [ أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر ].

قال رحمه الله تعالى: [ والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد ].

وهذا الكلام أيضاً مما تساهل فيه الشارح وأراد أن يتوسط حسب رأيه ووجهة نظره بين الطحاوي والأحناف من جهة وبين أهل السنة من جهة أخرى، فتصوير الخلاف بأنه صوري مطلقاً غير صحيح، وكذلك تصوير الخلاف بأنه لفظي مطلقاً غير صحيح، فهو صوري ولفظي من جهة، لكنه اعتقادي وعلمي من جهة أخرى، أما كونه صورياً ولفظياً فهذا من جهة الأعمال وثمرة الأعمال، أي: جزاء الأعمال، بمعنى أن أبا حنيفة وأتباعه -سواء الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، والذين قالوا: هو التصديق والقول- عندهم للأعمال اعتبار كبير، فلا يتساهلون في الأعمال، ويرون أنها من لوازم الإيمان، وأن الإخلال بالأعمال يترتب عليه الوعيد، وأن الزيادة في الأعمال عليها الثواب العظيم، فمن ناحية العمل يكون الغالب أن النزاع لفظي، وهذا عند الكبار الأوائل منهم الذين في عصر السلف في القرن الأول والثاني تقريباً، أما المتأخرون منهم فصار عندهم نوع تساهل في فروع هذه المسألة، وانعكس هذا المفهوم عندهم في التساهل في الأحكام والأسماء والأعمال وثمرات الأعمال انعكاساً مباشراً وغير مباشر، وأقصد بذلك أن متأخري المرجئة تساهلوا في مسألة لوازم الأعمال من الولاء والبراء، ومن تحقيق الوعيد، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، بخلاف الأولين، فـأبو حنيفة رحمه الله ومن كان في زمنه وقبله كانوا لا يتساهلون في مسألة الأعمال، وعندهم من الورع ومن التزام السنة ما يجعلهم لا يخلون بمنهج الولاء والبراء، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بلوازم العمل من حيث الوعيد ونحو ذلك.

إذاً: الخلاف عند الأوائل في الجانب العملي صوري في نهايته وثمرته، لكن في الجانب الآخر -وهو الجانب الاعتقادي- لا شك أن هناك فرقاً كبيراً، ولذلك جعل أهل السنة بإجماع المسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قولهم بأن الإيمان قول وعمل، وإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وصار ذلك من أصول العقيدة يقررونه في كتبهم، ويدرسونه ويحشدون له الأدلة، وكتبوا في ذلك مجلدات تقريراً للحق، فالسلف لا يتكلمون بالفضول، وهم أكثر الناس تورعاً عن الكلام والتأليف في فضول الأمور، فقد عنوا بمسألة الإيمان عناية باهرة وكبيرة وعظيمة جداً، أي: إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال جزء من الإيمان.

وترتب عليها من الجانب الاعتقادي القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولذا فالمرجئة يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فصارت هذه المسألة من الناحية الاعتقادية والعلمية من أكبر المسائل عند أهل السنة والجماعة، وربطوها بالتي قبلها، ثم جاءت مسألة الاستثناء في الإيمان، وصارت من أساسيات العقيدة؛ لأنها فرع عن القول بأن الإيمان تصديق أو أنه تصديق وعمل، فالذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق والقول؛ قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنك إذا صدقت لا تستثني، والسلف حينما قالوا بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، أجازوا استثناء في الإيمان؛ لأن العمل مرتبط بالعبد، فإذا كان موقناً بالله عز وجل عاملاً بمقتضى الشرع؛ فليقل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد التصديق اللغوي، ومجرد الإقرار.

فعلى هذا فالخلاف من الناحية العملية عند الأوائل لفظي فعلاً، لكنه عند المتأخرين من الناحية العملية لم يعد لفظياً، أما من الناحية الاعتقادية والناحية العلمية فإن الخلاف ليس بلفظي، بل ترتب عليه أمور خالفت مقتضى النصوص الصريحة عند السلف، والسلف حينما قرروا أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، حينما قرروا ذلك قرروه لأن النصوص وردت بذلك، فلا بد من حماية النصوص وقواعد الشرع وأصول الدين من أن تنتهك وتختل مفاهيمها عند الناس لمجرد مجاراة إمام غلط أو زل.

قال رحمه الله تعالى: [ والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً ].

اعترض الشيخ هنا اعتراضاً قاله بعض أهل العلم، لكنه اختصر فجعل الاعتراض غير واضح، ثم أجاب عن هذا الاعتراض، يقول: إن من الأعمال ما يخرج تركه من الملة، أو يدخل تركه الكفر، وهو الصلاة، وعلى هذا فإن تارك الصلاة إذا كان يخرج من الملة أو يكفر فقد اختل إيمانه، أو لا يقال: إنه مؤمن، ثم يقول: إن الجواب عن هذا أن الصلاة استثنيت بنصوص مستقلة.

وهذا الكلام في مجمله صحيح، فالصلاة ورد النص بتكفير تاركها أكثر مما ورد في غيرها، وقد وردت نصوص بأن كفر تارك الصلاة كفر مغلظ، فقد وصف تارك الصلاة بالشرك، والشرك لا يكون -إذا قارن الكفر- إلا الكفر المغلظ، وكلامه هذا صحيح، لكنه فيه نوع من الالتباس، فلا يظهر أنه يستدل للسلف أو يستدل ضدهم، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذا دليل من أدلة المرجئة الذين يقولون: إن ترك الأعمال لا يخرج من الإيمان إلا الصلاة، والصلاة جاء دليل إخراج تاركها من الإيمان بدليل مستقل، لا لأنها من الإيمان.

نقول: هذا صحيح من وجه وليس بصحيح من وجه آخر، فصحيح أن الصلاة استثنيت من أركان الإسلام بأن تاركها يخرج من الملة عند بعض أهل العلم، أو يكفر كفراً مغلظاً أو نحو ذلك مما قيل، وأن فيها نصوصاً مستقلة، لكن هذا لا يعني أن غيرها من الأعمال لا يدخل في مسمى الإيمان؛ لأننا نقول: الإيمان يزيد وينقص، ولا نقول بأن الذي يختل إيمانه يخرج من الإيمان بالكلية، فمن هنا لا مكان للاعتراض على أهل السنة بهذا المثال، لكن استثناء الصلاة وارد.

فكثير من الأعمال تركها لا يخرج من الملة، إلا الصلاة، لكن لو أن إنساناً ترك أركان الإسلام جميعاً وأعرض عن الدين بالكلية فإنه يكفر وإن كان مصدقاً، وسيأتي أيضاً إشارة إلى هذا في مقام آخر، المهم أنه هنا اعترض اعتراضاً بالقول بأن تارك الصلاة يكفر ويخرج من الإيمان، فعلى هذا فإن الأعمال داخله في الإيمان، ثم كأنه استدرك على هذا الاعتراض بقوله: إن الصلاة جاء النص فيها مستقلاً، ونحن نقول: كما جاء النص بأن تارك الصلاة يكفر كذلك جاءت النصوص بأن الذي يخل بالأعمال ينقص إيمانه، والذي يفي بالأعمال يزيد إيمانه، وهذا له نصوص مستقلة، فيبقى الاعتراض غير وارد على أهل السنة والجماعة، إنما يرد على المرجئة فيما بينهم، وعلى المرجئة وخصومهم الآخرين من المعتزلة والخوارج الذين يخرجون أهل الكبائر من الإيمان بالكلية.

قال رحمه الله تعالى: [ ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل ].

هذا أيضاً من الكلام المجمل الملتبس، فكلامه هذا فيه إجمال وفيه نظر من ناحية أخرى، فقوله: التصديق بالقلب والإقرار باللسان هو معنى أن الإيمان قول وعمل ليس بصحيح.

فالقول بأن التصديق بالقلب والإقرار باللسان يخالف ويناقض قول السلف بأن الإيمان قول وعمل؛ لأن السلف فسروا قولهم، وتفسيرهم لهذه الكلمة متواتر، وهو أنهم يقصدون بـ(قول وعمل) قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.

إذاً: فكلمة (قول وعمل) ليست مرادفة للإقرار بالقلب والقول باللسان، بل تزيد عليها قطعاً؛ لأن السلف اتفقوا على أن المقصود بقولهم: (قول وعمل) جميع الأمور الثلاثة: التصديق والإقرار باللسان والعمل بالأركان، لذلك لما خاضوا مع المرجئة في هذه المسألة فصلوا، فلما اضطر السلف للتفصيل فصلوا، وقالوا: الإيمان هو تصديق الجنان وقول اللسان وعمل الأركان، وهو تفسير لكلمة (قول وعمل).

وقوله: [لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل] هذا صحيح، لكن تفسيره بأن القول التصديق بالقلب والإقرار باللسان فقط، فيه نوع من الالتباس؛ لأنه قال: [وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: قول وعمل]، فليته شرح معنى (وعمل) وجعلها في أصل الشرح السابق، من أجل أن يزول اللبس، ومع ذلك يبقى لسلامة العبارات محمل لو لم يكن هناك نوع من التكلف في عرض قول المرجئة في هذا المقطع كله، فلو لم يكن هناك التباس في الكلام في أوله وآخره لقلنا: إن هذا الكلام يمكن أن يحمل على أحسن المحامل، فيبقى سليماً في الجملة، لكن إذا نظرنا إلى مجمل القول قبل صفحات وفي الصفحات التالية؛ وجدنا أن هذا القول ملبس ولا بد من بيانه وشرح معنى جملة (قول وعمل)، فهي ليست مرادفة للتصديق والإقرار فقط، وإن كان القول فعلاً يرادف التصديق والإقرار، لكن العمل أمر لا بد من الإشارة إليه هنا، وأنه يعني الأمور الثلاثة، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.

وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله ].

يقصد أن أهل السنة والمرجئة أجمعوا، فكأنه يريد أن يجمع بينهم هنا ليوفق بين المذهبين.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومنهم من يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ].

ويعني هنا طائفة من المرجئة.

وقوله: (قد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد) هذا فعلاً قول لأهل السنة والمرجئة جميعاً.

لكن قوله: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال..) يقصد أن هناك طائفة من المرجئة توافق أهل السنة في ظاهر القول، لكن عند التفصيل يخالفون، فهذا قول بعض المرجئة، كما أنه رد من معتدلة المرجئة -وهم مرجئة الفقهاء- على الجهمية، فعبارة: (لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق) هي قول طائفة من المرجئة، وليس كلهم، وتوافق قول بعض الجهمية.