هجرة المسلمين إلى المدينة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم أن الأنصار عليهم من الله الرضوان بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وقد طمأنوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أهل الحلقة، وأبناء الحروب وقد رثوها كابراً عن كابر، وأنهم يبايعونه على حرب الأحمر والأسود، وعلى قطع الحبال مع كل عدو له، وأنهم لا يبالون في ذلك بما يصيبهم في أنفسهم أو في أموالهم.

وقد طمأنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون معهم إن أظهره الله ولن يرجع إلى قومه، قال لهم: ( بل الدم الدم، والهدم الهدم، المحيا محياكم، والممات مماتكم )، ولما سألوه: ( يا رسول الله! فما لنا إن وفينا؟ قال: الجنة. فقالوا: امدد يدك نبايعك، لا نقيل ولا نستقيل ).

ولما عقدت تلك الاتفاقية وتمت هذه البيعة العظيمة أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة.

حصول الاضطهاد والتعذيب في مكة

هذه الهجرة أسبابها معلومة، فإن المسلمين كانوا مضطهدين، كانوا يجوعون، ويعذبون، ويطاردون، ويحبسون، ويضربون، ويفتنون في دينهم، وكذلك الاعتداء كان حاصلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة باللسان وتارة بالأذى المباشر، بل إن بعض الصحابة مات تحت التعذيب كما حصل لـسمية بنت خياط وزوجها ياسر أبي عمار رضوان الله عليهم، وبعض المسلمين فقد بصره كما حصل لـزنيرة الجارية الرومية التي ضربوها على رأسها حتى ذهب بصرها.

ولذلك أقول: الاضطهاد والتعذيب والفتنة في الدين، هذه كلها أسباب أدت إلى الهجرة.

البحث عن أرض جديدة لاحتضان دعوة الإسلام

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يجد للدعوة أرضاً خصبة تنطلق منها، فمن اليوم الأول والإسلام رسالة عالمية ليس كما يروج المستشرقون بأن النبي عليه الصلاة والسلام كانت رسالته أو دعوته خاصة، ثم أغراه النجاح بأن يتوسع ويتمدد، هذا الكلام هراء؛ لأن الله عز وجل لما أنزل عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، هذه الآية في سورة الأنبياء وهي مكية، ولما أنزل عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28]، هذه الآية في سورة سبأ، وهي مكية.

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( بعثت لكل أحمر وأسود )، وهذا معلوم لديه من اليوم الأول؛ ولذلك لما توفي عليه الصلاة والسلام أين كان الإسلام؟ الإسلام ما كان إلا في الحجاز ونجد وتهامة واليمن والبحرين، وبعض الملوك أرسل إليه هدايا كما فعل ملك عمان، وكما فعل ملك مصر والإسكندرية، وكما فعل هرقل عظيم الروم فقد بعث للنبي صلى الله عليه وسلم بجاريتين مارية بنت شمعون وأختها نسرين ، وبعث إليه ببغلة وبعض الثياب، هذا الذي كان في عهده.

لكنه عليه الصلاة والسلام بعدما توفاه الله من الذي قام بالفتوحات؟

الصحابة بقيادة الخلفاء رضوان الله عليهم، فليس كما يقول هؤلاء: بأن الإسلام كان ديناً للجزيرة العربية أو للحجاز، ثم بعد ذلك توسع وتمدد، لا. النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ).

ولذلك لما أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ثم لما خرج إلى الطائف عليه الصلاة والسلام هذا كله من أجل أن يبحث عن أرض تنطلق منها الدعوة وينتشر منها النور، ولذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة، كما في صحيح البخاري من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين بمكة: ( أُريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين )، أي: حرتين، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة.

هذه الهجرة أسبابها معلومة، فإن المسلمين كانوا مضطهدين، كانوا يجوعون، ويعذبون، ويطاردون، ويحبسون، ويضربون، ويفتنون في دينهم، وكذلك الاعتداء كان حاصلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة باللسان وتارة بالأذى المباشر، بل إن بعض الصحابة مات تحت التعذيب كما حصل لـسمية بنت خياط وزوجها ياسر أبي عمار رضوان الله عليهم، وبعض المسلمين فقد بصره كما حصل لـزنيرة الجارية الرومية التي ضربوها على رأسها حتى ذهب بصرها.

ولذلك أقول: الاضطهاد والتعذيب والفتنة في الدين، هذه كلها أسباب أدت إلى الهجرة.

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يجد للدعوة أرضاً خصبة تنطلق منها، فمن اليوم الأول والإسلام رسالة عالمية ليس كما يروج المستشرقون بأن النبي عليه الصلاة والسلام كانت رسالته أو دعوته خاصة، ثم أغراه النجاح بأن يتوسع ويتمدد، هذا الكلام هراء؛ لأن الله عز وجل لما أنزل عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، هذه الآية في سورة الأنبياء وهي مكية، ولما أنزل عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28]، هذه الآية في سورة سبأ، وهي مكية.

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( بعثت لكل أحمر وأسود )، وهذا معلوم لديه من اليوم الأول؛ ولذلك لما توفي عليه الصلاة والسلام أين كان الإسلام؟ الإسلام ما كان إلا في الحجاز ونجد وتهامة واليمن والبحرين، وبعض الملوك أرسل إليه هدايا كما فعل ملك عمان، وكما فعل ملك مصر والإسكندرية، وكما فعل هرقل عظيم الروم فقد بعث للنبي صلى الله عليه وسلم بجاريتين مارية بنت شمعون وأختها نسرين ، وبعث إليه ببغلة وبعض الثياب، هذا الذي كان في عهده.

لكنه عليه الصلاة والسلام بعدما توفاه الله من الذي قام بالفتوحات؟

الصحابة بقيادة الخلفاء رضوان الله عليهم، فليس كما يقول هؤلاء: بأن الإسلام كان ديناً للجزيرة العربية أو للحجاز، ثم بعد ذلك توسع وتمدد، لا. النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ).

ولذلك لما أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ثم لما خرج إلى الطائف عليه الصلاة والسلام هذا كله من أجل أن يبحث عن أرض تنطلق منها الدعوة وينتشر منها النور، ولذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة، كما في صحيح البخاري من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين بمكة: ( أُريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين )، أي: حرتين، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة.

كانت الهجرة محفوفة بالمخاطر؛ لأن المشركين لما استيقنوا أن بيعة قد تمت واتفاقاً قد حصل، قدروا وتقديرهم صواب بأنهم لو سمحوا بخروج المسلمين إلى المدينة، فمعنى ذلك أنهم سيتحالفون مع أهل المدينة ويكونون قوة، ثم بعد ذلك يفكرون في أن يغزوا مكة، وهذا هو التفكير السليم والطبيعي، ولذلك حاولوا بشتى الطرق أن يمنعوا المسلمين من الهجرة.

هجرة أبي سلمة وزوجه

مثلاً: خرج أبو سلمة رضي الله عنه ومعه زوجه أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة ، ومعها ولدها سلمة رضيع فلحق به أهلها، وقالوا له: أما نفسك فغلبتنا عليها، ولكن لا ندعك تصحب ابنتنا. فاسترجعوا هنداً ومعها ولدها، فخرج أبو سلمة رضي الله عنه لا يلوي على شيء، مثلما فعل الخليل إبراهيم عليه السلام لما جاء بولده إسماعيل رضيعاً وأم وليده هاجر ووضعهما عند الحرم، وليس هناك ناس يسكنون، ولا زرع منه يأكلون، فالمرأة تعجبت وقالت: ( يا إبراهيم ! لمن تتركنا؟ ما رد عليها ومضى. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم. قالت: إذاً لن يضيعنا )، ومضى ودعا ربه بتلك الضراعة التي سجلها القرآن: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وكان من أمر الله ما كان حين أنبع لهم ماء زمزم.

أما أبو سلمة رضي الله عنه فقد غضب أهله وجاءوا وقالوا لأهل أم سلمة : أخذتم ابنتكم فلا سبيل لكم إلى ولدنا. سلمة هذا ولدنا. فبدءوا يتجاذبونه حتى خلعت يده، وأخذه أهل أبي سلمة ، فبقيت المرأة مسكينة؛ فقدت زوجها وفقدت ولدها، وكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح -جبل بظاهر مكة- تجلس هناك تبكي حتى تغرب الشمس، ثم ترجع، وظلت سنة كاملة وهي على هذه الحال، حتى رق لها رجل من قومها، فرجع إلى القوم فقال لهم: أما آن لكم أن ترحموا هذه المسكينة؟ فقالوا لها: إن شئت أن تلحقي بزوجك فافعلي؛ فلما سمع أهل زوجها أعادوا إليها الولد، فخرجت رضي الله عنها ما معها إلا الله تريد المدينة.

فلما بلغت التنعيم، رآها رجل من المشركين يقال له: عثمان بن طلحة ، قال لها: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد يثرب، يعني: المدينة، لألحق بزوجي. قال: من معك؟ قالت: ما معي إلا الله. قال: والله ما لك مترك. فأقبل يقودها تقول أم سلمة : والله ما صحبت رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، كان يقود بعيري، فإذا أردنا أن ننزل منزلاً أناخ البعير وحول وجهه، حتى إذا نزلت أخذ البعير فعلقه وربطه، ثم ذهب إلى ظل شجرة فاضطجع، فإذا أراد الرحيل آذنني من هناك، يعني: من مكانه يناديها بأن تمشي وتركب، حتى إذا ركبت جاء فأقام البعير وأقبل يقوده، حتى إذا رأى بيوت قباء ضرب وجه البعير وقال: هذه القرية التي فيها زوجك.

انظروا إلى هذه الشهامة والرجل مشرك، لكن العرب كانوا يفتخرون بمثل هذه الأخلاق، ومنه قول القائل:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

هذا عنترة رجل جاهلي يقول: والله لو جاءت الجارة ماشية فأنا أغض طرفي، وليس كما يصنع الآن من ينتسبون إلى الإسلام، إذا رأى جارته خرجت يبدأ يتابعها. وبعض الناس أخلاقهم ليست أخلاق المسلمين.

هذا الرجل المشرك قام بهذه الطريقة وما تركه الله، بل كافأه فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان عنده مفتاح الكعبة، وفي يوم من الأيام لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مستضعفاً اشتهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في جوف الكعبة، فطلب منه المفتاح فنهره وزجره، وأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم القول، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لعلك تراه بيدي يوماً )، أي: في يوم من الأيام سيكون هذا المفتاح عندي، فقال له: لقد ذلت قريش وهانت، فقال له صلى الله عليه وسلم : ( بل عزت يومئذٍ وسادت ).

وفعلاً لما فتح الله له مكة قال له: (أعطني المفتاح ). لكن هل يقدر أن يقول له: لا؟ لا، بل أعطاه المفتاح وفتح الكعبة ودخل، واختار للدخول معه رجلين من هما؟ اختار صلى الله عليه وسلم أسامة ، وقد كان غلاماً حدثاً وآدم شديد الأدمة، يعني: أسود. أفطس الأنف، واختار معه بلالاً ، وهذه رسالة للمشركين: أن دين الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود وأحمر وأخضر وأزرق، الكل سواء، ثم بعد ذلك لما جاء وقت الصلاة أمر بلالاً أن يؤذن فصعد على ظهر الكعبة، وهنا أصابت المشركين كآبة حتى قال بعضهم: (أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود)، وقال بعضهم وهو عتاب بن أسيد: (لقد رحم الله أسيداً -أبوه- إذ لم يشهد هذا اليوم)، يعني: هذه مصيبة من المصائب، أن بلالاً يصعد فوق الكعبة ونحن قاعدين، لكن هكذا أراد الله، جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81]، هذا الدين ما فيه أحمر وأسود، ( ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى )، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بمدة يسيرة سيَّر جيشاً إلى الشام، وفي الجيش أبو بكر و عمر ، وقائد الجيش أسامة رضي الله عنه؛ ولذلك عمر كان إذا لقي أسامة يقول له: (السلام عليك أيها الأمير، فكان أسامة يقول له: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فكان يقول له: بلى والله. ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأنت أمير علي).

هجرة صهيب الرومي

ومن الصحابة الذين عانوا في الهجرة صهيب رضي الله عنه، فقد خرج مهاجراً متسللاً، فلحق به نفر من المشركين فأمسكوا به، وأرادوا أن يعيدوه إلى مكة، فنزلوا في الطريق يستريحون، فأظهر لهم بأنه يعاني من مغص في بطنه، واستأذن منهم للخلاء، يريد أن يقضي حاجته، فأذنوا له وهم يراقبونه، ثم رجع بعد حين واستأذن، وبعد حين استأذن، فقال بعضهم لبعض: قد شغله الله ببطنه فلننم، يعني: هذا رجل مريض فلننم مطمئنين. فلما ناموا أخذ دابة أحدهم وانطلق، فاستيقظوا فبدءوا يطاردونه فالتفت إليهم فقال: (تعلمون معشر قريش أني أرماكم، والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، وإن شئتم دللتكم على مالي أواق من ذهب فأخذتموها. قالوا: أين هي؟ قال: تحت أسكفة الباب) الأسكوفة هي العتبة، فرضي القوم ورجعوا وحفروا فوجدوا الذهب وأخذوه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما رآه في المدينة: ( ربح البيع أبا يحيى )، وأنزل الله عز وجل قوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. (من يشري) يعني: يبيع.

هجرة عمر بن الخطاب مع عياش بن أبي ربيعة

أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو الوحيد الذي هاجر علانية، حيث جاء رضي الله عنه فطاف حول الكعبة والمشركون جلوس، وبعدما انتهى وقف عليهم مشاتماً، قال لهم: (شاهت الوجوه -بمعنى: قبحت- لا يرغم الله إلا هذه المعاطس) المعاطس: الأنوف. ثم قال لهم: (إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو ييتم ولده أو ترمل زوجه فليتبعني) فما تحرك منهم أحد.

وكان رضي الله عنه قد وعد عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وهشام بن العاص بن وائل السهمي عند أضاة بني غفار، يعني: مكان معين في مكة، قال لهم: نجتمع هناك ونتوكل على الحي الذي لا يموت. فجاء عمر رضي الله عنه ومعه عياش ، أما هشام بن العاص فقد لحقوه وقيدوه وحبس، فهاجر عمر وعياش ، ولكن عياشاً رضي الله عنه بعدما مكث في المدينة حيناً جاءه أخوه ومعه أبو جهل فقالوا له: (إن أمك نذرت ألا تمس ماءً وألا تمتشط وألا تستظل حتى ترجع إليها فتنظر إليك)، فقال له عمر رضي الله عنه: (يا عياش ! ويحك لا يفتنك أعداء الله، لا تصدقن كلامهم، فإن أمك لو آذاها حر مكة استظلت، ولو آذها القمل لاغتسلت وامتشطت)، لكن عياشاً رضي الله عنه قال له: (إن عندي مالاً في مكة آخذه وأرجع)، قال له عمر : ( يا أخي! هذا مالي أشاطرك إياه) فقال: ( بل أبر قسم أمي ثم أرجع)، فقال له عمر رضي الله عنه: ( هذا بعيري نجيب ذلول، فإن رابك من القوم ريب فانج عليه)، فذهب عياش مع أخيه ومع أبي جهل ، فلما كان ببعض الطريق قال له أبو جهل : يا ابن أخي! لو ركبت بعيري وركبت بعيرك لنطرد الملل، فلما نزلوا من دوابهم عمد المشركان إلى عياش فغلباه وأوثقاه، فلما اقتربوا من مكة دخلوا به وقد ربطوه بذنب البعير يجرونه بالأرض، وأبو جهل شامخ بأنفه يقول: (هكذا يا أهل مكة اصنعوا بسفهائكم).

فبقي رضي الله عنه محبوساً، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً يقنت في الصلوات الخمس: ( اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج سلمة بن هشام ، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سبعاً كسبع يوسف ) ، شهر كامل والرسول صلى الله عليه وسلم يقنت حتى نجاهم الله عز وجل عن طريق مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عن الجميع.

منع النبي لأبي بكر من الهجرة وحده

أبو بكر الصديق جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن يريد أن يهاجر، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: ( اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً )، كلما جاء يستأذن يقول له: ( اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً ).

مثلاً: خرج أبو سلمة رضي الله عنه ومعه زوجه أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة ، ومعها ولدها سلمة رضيع فلحق به أهلها، وقالوا له: أما نفسك فغلبتنا عليها، ولكن لا ندعك تصحب ابنتنا. فاسترجعوا هنداً ومعها ولدها، فخرج أبو سلمة رضي الله عنه لا يلوي على شيء، مثلما فعل الخليل إبراهيم عليه السلام لما جاء بولده إسماعيل رضيعاً وأم وليده هاجر ووضعهما عند الحرم، وليس هناك ناس يسكنون، ولا زرع منه يأكلون، فالمرأة تعجبت وقالت: ( يا إبراهيم ! لمن تتركنا؟ ما رد عليها ومضى. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم. قالت: إذاً لن يضيعنا )، ومضى ودعا ربه بتلك الضراعة التي سجلها القرآن: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وكان من أمر الله ما كان حين أنبع لهم ماء زمزم.

أما أبو سلمة رضي الله عنه فقد غضب أهله وجاءوا وقالوا لأهل أم سلمة : أخذتم ابنتكم فلا سبيل لكم إلى ولدنا. سلمة هذا ولدنا. فبدءوا يتجاذبونه حتى خلعت يده، وأخذه أهل أبي سلمة ، فبقيت المرأة مسكينة؛ فقدت زوجها وفقدت ولدها، وكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح -جبل بظاهر مكة- تجلس هناك تبكي حتى تغرب الشمس، ثم ترجع، وظلت سنة كاملة وهي على هذه الحال، حتى رق لها رجل من قومها، فرجع إلى القوم فقال لهم: أما آن لكم أن ترحموا هذه المسكينة؟ فقالوا لها: إن شئت أن تلحقي بزوجك فافعلي؛ فلما سمع أهل زوجها أعادوا إليها الولد، فخرجت رضي الله عنها ما معها إلا الله تريد المدينة.

فلما بلغت التنعيم، رآها رجل من المشركين يقال له: عثمان بن طلحة ، قال لها: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد يثرب، يعني: المدينة، لألحق بزوجي. قال: من معك؟ قالت: ما معي إلا الله. قال: والله ما لك مترك. فأقبل يقودها تقول أم سلمة : والله ما صحبت رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، كان يقود بعيري، فإذا أردنا أن ننزل منزلاً أناخ البعير وحول وجهه، حتى إذا نزلت أخذ البعير فعلقه وربطه، ثم ذهب إلى ظل شجرة فاضطجع، فإذا أراد الرحيل آذنني من هناك، يعني: من مكانه يناديها بأن تمشي وتركب، حتى إذا ركبت جاء فأقام البعير وأقبل يقوده، حتى إذا رأى بيوت قباء ضرب وجه البعير وقال: هذه القرية التي فيها زوجك.

انظروا إلى هذه الشهامة والرجل مشرك، لكن العرب كانوا يفتخرون بمثل هذه الأخلاق، ومنه قول القائل:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

هذا عنترة رجل جاهلي يقول: والله لو جاءت الجارة ماشية فأنا أغض طرفي، وليس كما يصنع الآن من ينتسبون إلى الإسلام، إذا رأى جارته خرجت يبدأ يتابعها. وبعض الناس أخلاقهم ليست أخلاق المسلمين.

هذا الرجل المشرك قام بهذه الطريقة وما تركه الله، بل كافأه فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان عنده مفتاح الكعبة، وفي يوم من الأيام لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مستضعفاً اشتهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في جوف الكعبة، فطلب منه المفتاح فنهره وزجره، وأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم القول، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لعلك تراه بيدي يوماً )، أي: في يوم من الأيام سيكون هذا المفتاح عندي، فقال له: لقد ذلت قريش وهانت، فقال له صلى الله عليه وسلم : ( بل عزت يومئذٍ وسادت ).

وفعلاً لما فتح الله له مكة قال له: (أعطني المفتاح ). لكن هل يقدر أن يقول له: لا؟ لا، بل أعطاه المفتاح وفتح الكعبة ودخل، واختار للدخول معه رجلين من هما؟ اختار صلى الله عليه وسلم أسامة ، وقد كان غلاماً حدثاً وآدم شديد الأدمة، يعني: أسود. أفطس الأنف، واختار معه بلالاً ، وهذه رسالة للمشركين: أن دين الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود وأحمر وأخضر وأزرق، الكل سواء، ثم بعد ذلك لما جاء وقت الصلاة أمر بلالاً أن يؤذن فصعد على ظهر الكعبة، وهنا أصابت المشركين كآبة حتى قال بعضهم: (أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود)، وقال بعضهم وهو عتاب بن أسيد: (لقد رحم الله أسيداً -أبوه- إذ لم يشهد هذا اليوم)، يعني: هذه مصيبة من المصائب، أن بلالاً يصعد فوق الكعبة ونحن قاعدين، لكن هكذا أراد الله، جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81]، هذا الدين ما فيه أحمر وأسود، ( ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى )، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بمدة يسيرة سيَّر جيشاً إلى الشام، وفي الجيش أبو بكر و عمر ، وقائد الجيش أسامة رضي الله عنه؛ ولذلك عمر كان إذا لقي أسامة يقول له: (السلام عليك أيها الأمير، فكان أسامة يقول له: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فكان يقول له: بلى والله. ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأنت أمير علي).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
بداية نزول الوحي 2550 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] 2402 استماع
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 2172 استماع
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 2143 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] 2126 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] 2104 استماع
إرهاصات النبوة [2] 2066 استماع
الإسراء والمعراج 2009 استماع
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم 1870 استماع
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف 1817 استماع