سورة المجادلة - الآية [12]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء السابع والسبعين في الآية الثانية عشرة من سورة المجادلة، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:12-13].

سبب نزول الآية

سبب نزول هذه الآية المباركة ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فوسع الله عليهم ولم يضيق.

وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى؛ فشق ذلك عليهم فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.

وخلاصة ما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقته ثمين غال، والناس كلهم راغبون في الخلوة به، فكل مسلم يرغب في أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم على انفراد؛ يبثه شكواه، ويعرض عليه مسائله، ويستنير بكلامه صلوات ربي وسلامه عليه، يسألونه عن أمور الدين، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله عز وجل هذه الآية، فصار من أراد أن يناجي النبي عليه الصلاة والسلام فلا بد عليه أن يتصدق بصدقة من ناحية ينفع بها الفقراء -وقد كانوا كثيرين كأصحاب الصفة وفقراء المهاجرين- ومن ناحية أخرى ليخفف الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس إذا قيل له: ادفع، فإنه يكف ويتراجع؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، يعني: هذه الآية فقط طبقها من المسلمين علي رضي الله عنه؛ فقد كان عنده دينار فصرف هذا الدينار بعشرة دراهم -يعني: أتى بفكة كما يقول الناس- ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطرح عليه عشرة أسئلة، وقبل أن يطرح سؤاله كان يقدم صدقة لفقير، ثم يأتي فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام.

قال بعض المفسرين: هذه الآية ما بقيت إلا عشر ليال ثم نسخت.

وقال بعضهم: بل بقيت ساعة واحدة ثم نسخت، يعني: بمجرد أن نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، الناس كلهم ولوا ولم يعد أحد يسأل؛ فأنزل الله الآية بعدها: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:13]، يعني: أخفتم، وثقل عليكم، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، فاستمسكوا بالفرائض، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13].

معاني مفردات الآية

قوله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ[المجادلة:12]، أي: إذا أردتم المناجاة، فليس المقصود: أنه بعدما تناجون الرسول عليه الصلاة والسلام تقدموا صدقة؛ بل إذا أردتم المناجاة؛ ونظير ذلك قوله سبحانه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، فالمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن، وليس المعنى بعد فراغك من قراءة القرآن.

إذاً قوله: نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]: إذا أردتم مساررة الرسول، يعني: إذا كان بينكم وبينه سر في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة، والأمر هنا فيه خلاف بين أهل العلم هل هو للوجوب أو للندب.

وقوله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ[المجادلة:12]، أي: قبل نجواكم بقليل صدقة.

وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ[المجادلة:12]، ذلك الإشارة للتقديم المفهوم من قوله: (فقدموا)، والمراد من ذلك: التعريف بحكمة الصدقة.

ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ[المجادلة:12]، خير لكم؛ لأن فيه تحصيل رضا الله عز وجل في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، والطهر هنا طهر معنوي، والمراد به: زكاة النفس وطهرها؛ لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية، وكذلك المتطهر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء )، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نوراً، ويقصد بذلك النور المعنوي صلوات ربي وسلامه عليه.

وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]، يعني: أن الذي يريد أن يناجي النبي صلى الله عليه وسلم وهو فقير لا يجد صدقة يقدمها فلا حرج عليه، فقد خفف الله عنه ووسع عليه.

وقوله سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ[المجادلة:13]، أي: أخفتم الفقر والعيلة؟! والإشفاق هو الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير.

المعنى الإجمالي للآية

والمعنى الإجمالي في الآيتين الكريمتين: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا أردتم مساررة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور فقدموا أمام نجواكم صدقة تتصدقون بها على أهل المسكنة والحاجة، ولا يفهمن أحدكم أن الصدقة تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معلوم لدى كل مسلم أن الصدقة عليه حرام سواء كانت صدقة واجبة أو صدقة تطوعية، فالمقصود: أن هذه الصدقة تتوجهون بها إلى أهل المسكنة والحاجة قبل أن تناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم يقول الله عز وجل: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، فإذ لم تفعلوا هذه الصدقة التي بها أمرتم فأقيموا شكراً لله على هذا الكرم والحلم الصلاة، التي هي طهرة لأرواحكم وزكاة لنفوسكم ووصلة لكم بربكم، وآتوا الزكاة التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين.

فالله عز وجل ذكر هاهنا أشرف عبادتين: عبادة بدنية وهي: الصلاة، وعبادة مالية وهي: الزكاة.

ثم عمم فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ[المجادلة:13]، أي: أطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمرانكم به ففي ذلك زيادة في النور والبرهان.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال: يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان هناك تزاحم على الخلوة بالنبي عليه الصلاة والسلام ليحدثه كل فرد في شأن يخصه ويأخذ فيه توجيهه ورأيه، أو ليستمتع بالانفراد بالرسول عليه الصلاة والسلام، كل مسلم كان حريصاً على ذلك؛ ولذلك بعضهم كان يحرص على أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في بيته رجاء البركة، وكان كل واحد إذا رزق بمولود يأتي به للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك إذا مات له ميت فإنه يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحضر عند احتضاره، ويقوم عليه، ويصلي عليه ثم ينزل في قبره، كل هذه كانت تمثل مشقة على النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن هناك تقدير في الغالب لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى وهي مهمة البلاغ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وعدم الشعور بقيمة وقته وبجدية الخلوة به، وأنها ما ينبغي أن تكون إلا لأمر ذي بال مهم، فأراد الله أن يشعرهم بهذه المعاني؛ بأن وقت النبي صلى الله عليه وسلم وقت غال، فلا بد أن تدفعوا شيئاً قبل أن تخلوا به؛ لأن وقته صلى الله عليه وسلم حق للجماعة وليس حقاً للأفراد.

سبب نزول هذه الآية المباركة ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فوسع الله عليهم ولم يضيق.

وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى؛ فشق ذلك عليهم فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.

وخلاصة ما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقته ثمين غال، والناس كلهم راغبون في الخلوة به، فكل مسلم يرغب في أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم على انفراد؛ يبثه شكواه، ويعرض عليه مسائله، ويستنير بكلامه صلوات ربي وسلامه عليه، يسألونه عن أمور الدين، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله عز وجل هذه الآية، فصار من أراد أن يناجي النبي عليه الصلاة والسلام فلا بد عليه أن يتصدق بصدقة من ناحية ينفع بها الفقراء -وقد كانوا كثيرين كأصحاب الصفة وفقراء المهاجرين- ومن ناحية أخرى ليخفف الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس إذا قيل له: ادفع، فإنه يكف ويتراجع؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، يعني: هذه الآية فقط طبقها من المسلمين علي رضي الله عنه؛ فقد كان عنده دينار فصرف هذا الدينار بعشرة دراهم -يعني: أتى بفكة كما يقول الناس- ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطرح عليه عشرة أسئلة، وقبل أن يطرح سؤاله كان يقدم صدقة لفقير، ثم يأتي فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام.

قال بعض المفسرين: هذه الآية ما بقيت إلا عشر ليال ثم نسخت.

وقال بعضهم: بل بقيت ساعة واحدة ثم نسخت، يعني: بمجرد أن نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، الناس كلهم ولوا ولم يعد أحد يسأل؛ فأنزل الله الآية بعدها: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:13]، يعني: أخفتم، وثقل عليكم، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، فاستمسكوا بالفرائض، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13].

قوله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ[المجادلة:12]، أي: إذا أردتم المناجاة، فليس المقصود: أنه بعدما تناجون الرسول عليه الصلاة والسلام تقدموا صدقة؛ بل إذا أردتم المناجاة؛ ونظير ذلك قوله سبحانه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، فالمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن، وليس المعنى بعد فراغك من قراءة القرآن.

إذاً قوله: نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]: إذا أردتم مساررة الرسول، يعني: إذا كان بينكم وبينه سر في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة، والأمر هنا فيه خلاف بين أهل العلم هل هو للوجوب أو للندب.

وقوله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ[المجادلة:12]، أي: قبل نجواكم بقليل صدقة.

وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ[المجادلة:12]، ذلك الإشارة للتقديم المفهوم من قوله: (فقدموا)، والمراد من ذلك: التعريف بحكمة الصدقة.

ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ[المجادلة:12]، خير لكم؛ لأن فيه تحصيل رضا الله عز وجل في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، والطهر هنا طهر معنوي، والمراد به: زكاة النفس وطهرها؛ لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية، وكذلك المتطهر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء )، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نوراً، ويقصد بذلك النور المعنوي صلوات ربي وسلامه عليه.

وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]، يعني: أن الذي يريد أن يناجي النبي صلى الله عليه وسلم وهو فقير لا يجد صدقة يقدمها فلا حرج عليه، فقد خفف الله عنه ووسع عليه.

وقوله سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ[المجادلة:13]، أي: أخفتم الفقر والعيلة؟! والإشفاق هو الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير.

والمعنى الإجمالي في الآيتين الكريمتين: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا أردتم مساررة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور فقدموا أمام نجواكم صدقة تتصدقون بها على أهل المسكنة والحاجة، ولا يفهمن أحدكم أن الصدقة تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معلوم لدى كل مسلم أن الصدقة عليه حرام سواء كانت صدقة واجبة أو صدقة تطوعية، فالمقصود: أن هذه الصدقة تتوجهون بها إلى أهل المسكنة والحاجة قبل أن تناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم يقول الله عز وجل: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، فإذ لم تفعلوا هذه الصدقة التي بها أمرتم فأقيموا شكراً لله على هذا الكرم والحلم الصلاة، التي هي طهرة لأرواحكم وزكاة لنفوسكم ووصلة لكم بربكم، وآتوا الزكاة التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين.

فالله عز وجل ذكر هاهنا أشرف عبادتين: عبادة بدنية وهي: الصلاة، وعبادة مالية وهي: الزكاة.

ثم عمم فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ[المجادلة:13]، أي: أطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمرانكم به ففي ذلك زيادة في النور والبرهان.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال: يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان هناك تزاحم على الخلوة بالنبي عليه الصلاة والسلام ليحدثه كل فرد في شأن يخصه ويأخذ فيه توجيهه ورأيه، أو ليستمتع بالانفراد بالرسول عليه الصلاة والسلام، كل مسلم كان حريصاً على ذلك؛ ولذلك بعضهم كان يحرص على أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في بيته رجاء البركة، وكان كل واحد إذا رزق بمولود يأتي به للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك إذا مات له ميت فإنه يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحضر عند احتضاره، ويقوم عليه، ويصلي عليه ثم ينزل في قبره، كل هذه كانت تمثل مشقة على النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن هناك تقدير في الغالب لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى وهي مهمة البلاغ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وعدم الشعور بقيمة وقته وبجدية الخلوة به، وأنها ما ينبغي أن تكون إلا لأمر ذي بال مهم، فأراد الله أن يشعرهم بهذه المعاني؛ بأن وقت النبي صلى الله عليه وسلم وقت غال، فلا بد أن تدفعوا شيئاً قبل أن تخلوا به؛ لأن وقته صلى الله عليه وسلم حق للجماعة وليس حقاً للأفراد.