شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [3]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني، وله تركها معه من غير تجديد عقد، ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه.

فصل:

في بيان حكم العدة من الغائب، والموطوءة بشبهة، أو زناً، أو عقد فاسد، أو في العدة، ومن مات زوجها الغائب، أو طلقها اعتدت منذ الفرقة، وإن لم تحد، وعدة موطوءة بشبهة، أو زنا، أو بعقد فاسد كمطلقة، وإن وطئت معتدة بشبهة، أو نكاح فاسد، فرق بينهما، وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقد بعد انقطاع العدتين، وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها، فإذا فارقها بنت على عدتها من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني، وإن أتت بولد من أحدهما انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر، ومن وطء معتدته البائنة بشبهة استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى، وإن نكح من أبانها في عدتها، ثم طلقها قبل الدخول بنت.

فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح).

فتقدم لنا عدة ذات الأقراء، وما المراد بالأقراء؟ وقلنا: بأن المفارقة في حال حياة إذا كانت ذات أقراء، فإنها تتربص أو تعتد بثلاثة قروء؛ لقول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228].

واختلف العلماء رحمهم الله تعالى: في تفسير القرء، هل هو الحيض أو الطهر؟ وأن مذهب أبي حنيفة وأحمد أنه الحيض، ومذهب مالك والشافعي أنه الطهر، وذكرنا دليل كل قول، وما يترتب على هذا الخلاف من ثمرة.

كذلك أيضاً ذكرنا عدة من لم تحض إما لكبر، أو لصغر، وأن عدتها ثلاثة أشهر لقول الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، أي: عدتهن ثلاثة أشهر.

كذلك أيضاً تقدم لنا عدة من ارتفع حيضها، وذكرنا أنها لا تخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن تجهل سبب رفعه.

والأمر الثاني: أن تعلم سبب رفعه، وذكرنا عدة كل واحدة.

وأيضاً ذكرنا فيما تقدم أن المرأة إذا ارتفع حيضها وعلمت أنه لن يعود، فإن عدتها عدة الآيسة.

كذلك أيضاً تقدم لنا ما يتعلق بعدة امرأة المفقود، وأن امرأة المفقود تتربص، ولا يخلو هذا التربص من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون غالب فقده الهلاك، فإنها تتربص أربع سنوات لورود ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه كما لو فقد في سفينة غرقت، أو بين الصفين.

القسم الثاني: أن يكون غالب فقده السلامة كما لو خرج من بين أهله ولم يرجع، فهنا تتربص إلى أن يبلغ التسعين سنة منذ ولد، ثم بعد ذلك تعتد في الحالتين: عدة الوفاة، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، ذكرنا أن الشافعي رحمه الله: يرى أن التربص يرجع إلى اجتهاد الحاكم القاضي، وأن هذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، وعلى هذا إذا اجتهد القاضي، وضرب مدة للتربص، فإنها تتربص، قد يضرب سنة، قد يضرب سنتين، قد يضرب أقل من ذلك، أو أكثر حسب الأحوال، واختلاف المكان والزمان، ثم بعد مدة التربص تعتد عدة الوفاة، فإذا اعتدت عدة الوفاة فلها أن تتزوج، فإذا تزوجت، ثم قدم زوجها الأول، فما الحكم فيما يتعلق بهذه الزوجة؟ وما الحكم فيما يتعلق بالصداق؟

تقدم أن ذكرنا أن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه إذا قدم الزوج الأول، فإن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون ذلك قبل الوطء، يعني: قبل أن يدخل بها، فهنا تكون زوجة للأول بلا خيار.

والأمر الثاني: أن يكون قدومه بعد دخوله بها أي: بعد الوطء، فحينئذ يكون مخيراً بين أن يأخذ زوجته، وبين أن يأخذ الصداق الذي أعطاها.

وذكرنا الرأي الثاني في هذه المسألة: أنه مخير -مطلقا- سواء كان قدومه قبل وطء الثاني، أو بعد وطء الثاني، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو ظاهر ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

قال المؤلف: (وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني، فهي للأول، وبعده له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني).

إذا كان قدومه بعد أن وطئ الثاني، فكما تقدم أنه مخير بين أن يأخذها، وله أن يتركها للثاني.

ولو أن الزوج الأول اختار زوجته، وقال: أريد زوجتي، فهل يحتاج إلى أن يطلق الثاني؛ لأن الثاني قد عقد عليها، وهل يحتاج إلى أن نعقد له مرة أخرى عقداً جديداً، أو نقول: بأن هذا لا حاجة إليه؟

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولو لم يطلق الثاني).

بمعنى: أننا لسنا بحاجة إلى أن نقول للثاني طلقها وكذلك أيضاً لسنا بحاجة إلى أن نعقد للأول عقداً جديداً على زوجته، وهذا هو ظاهر ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وهذا الذي ذهب إليه المؤلف هو الصواب في هذه المسألة.

وقال بعض العلماء: إذا قلنا بأن الثاني يطلق، فإننا نحتاج أن نجدد عقداً للأول.

قال المؤلف رحمه الله: (ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني ويرجع الثاني، عليها بما أخذه منه).

لو أن الزوج الأول قال: لا أريد هذه المرأة، وأريد الصداق، فمن أين يأخذ الصداق؟ يقول المؤلف رحمه الله تعالى: نقول له: خذ المهر الذي أعطيته هذه المرأة من الزوج الثاني؛ لأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

قال: (ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه).

الزوج الأول يرجع على الزوج الثاني، ويأخذ منه قدر الصداق الذي أعطاه لهذه المرأة، والزوج الثاني إذا دفع الصداق إلى الزوج الأول، فإنه يرجع على الزوجة بقدر ما دفعه من الصداق إلى الزوج الأول، وهذا هو المشهور من المذهب، وعللوا ذلك وقالوا: يرجع الزوج الثاني عليها؛ لأنها غرامة لزمته بسببها، أي: بسبب وطئه لها، فيرجع عليها الزوج الثاني بما أعطى الزوج الأول من المهر.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه لا يرجع عليها، وهذا القول هو الصواب:

أولاً: لأن هذا هو الظاهر عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وثانياً: لأن الزوج الثاني دخل على بصيرة، وأن هذه المرأة هي امرأة مفقود، وامرأة المفقود ربما يرجع زوجها في يوم من الأيام، فيحتمل أن يقال: إذا حصل غش وتدليس، ولم يعلم أنها امرأة مفقود نقول: حينئذ يرجع عليها بما غرمه للزوج الأول، فأصبح عندنا التفصيل في هذه المسألة: إن دخل الزوج الثاني على أنها امرأة مفقود فقد دخل على بصيرة، وليس له أن يرجع عليها فيما غرمه للزوج الأول، وإن غش ولم يعلم أنها امرأة مفقود فله أن يرجع عليها بحصول الضرر له.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن مات زوجها الغائب، أو طلق اعتدت منذ الفرقة).

إذا مات زوج المرأة وكان غائباً، ولم تعلم بموته إلا بعد شهر، ومثله أيضاً: لو أن الزوج طلق زوجته، ولنفرض أنه في مكة وهي في المدينة ولم تعلم بعد الطلاق إلا بعد أن مضى شهر -حاضت حيضة- فهل نقول: بأن العدة تبدأ من حين وقوع الموت والطلاق، أو نقول: بأن العدة لا تبدأ إلا من حين علمها؟

للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: وهو ما مشى عليه المؤلف رحمه الله تعالى: أن العدة تبدأ من حين الموت، ومن حين الطلاق، ولو لم تعلم المرأة إلا بعد مضي زمن من العدة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، ويدل لذلك ظواهر الأدلة قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وقال سبحانه وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فيقع التربص؛ ولأن القصد ليس شرطاً في العدة يعني: كون المرأة تنوي العدة هذا ليس شرطا، فالعدة في المتوفى عنها تجب حتى على الصغيرة والمجنونة، وليس لهما قصد؛ لأن العدة فيها تعبدية؛ ولأنه زمن عقيب الموت أو الطلاق، فيجب أن تعتد به.

الرأي الثاني: العدة تبدأ من حين علم المرأة بالموت أو بالطلاق، وهذا قال به سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ، قالوا: لورود ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن لم تحد).

يعني: وإن لم تأت المرأة بالإحداد، ولنفرض أن امرأةً توفي عنها زوجها، وبعد خمسة أشهر علمت أن زوجها قد توفي انتهت عدتها؛ ولا يلزمها الإحداد، ولهذا قال المؤلف: وإن لم تحتد، يعني: هذه الفترة الماضية مدة الخمسة أشهر المرأة لم تحد، بل كانت تستعمل الطيب؛ وكذلك أيضاً كانت تستعمل الكحل، وتستعمل الزينة، وتلبس لباس الزينة... إلى آخر الأشياء التي تمنع منها الحادة، فيقول المؤلف رحمه الله: (وإن لم تحد)؛ لأن الإحداد ليس شرطا في انقضاء العدة، ولو فرضنا أن امرأة توفي زوجها، وعلمت أن زوجها قد توفي، ومع ذلك لم تأتي بصورة الإحداد فكانت تستعمل الطيب والزينة والكحل وثياب الزينة... إلى آخره، فنقول: بأن العدة تنتهي بمضي الزمن وإن لم تحد المرأة؛ لأن الإحداد ليس شرطاً في انقضاء العدة.

قال: (وعدة الموطوءة بشبهة، أو بزناً، أو بعقد فاسد كمطلقة).

تقدم لنا أن من طلقها زوجها إن كانت حاملاً فتمام عدتها بوضع الحمل وإن كانت غير حامل من ذوات الحيض، فثلاث حيض، وإن كانت لا تحيض فثلاثة أشهر.. إلى آخره.

وبقي لنا نساء وطئن، وفورقن بخلع، أو بفسخ، أو حصل لهن وطء بدون عقد، مثل: التي وطئت بزنا، أو وطئت بنكاح فاسد، أو بشبهة.. إلى آخره، فهل هؤلاء عدتهن كعدة المطلقة؟ أو ليس عليهن عدة، وإنما عليهن استبراء؟

إن التي وطئت بشبهة كأن تكون شبهة عقد، أو شبهة اعتقاد، كما لو وطئ امرأة في فراشه يظنها زوجة له ، ثم بعد ذلك تبين أنها ليست زوجة له، فهذه فيها العلماء على رأيين اختلفوا:

الرأي الأول: وهو قول جمهور العلماء، وهو ما مشى عليه المؤلف رحمه الله تعالى، أنه تجب عليها العدة كالمطلقة؛ لأن وطء الشبهة هذا يلحق به النسب، فلو أن هذا الرجل وطء هذه المرأة لشبهة عقد، أو اعتقاد، ثم حملت منه فولدت، فإن هذا الولد يلحق به، وعليه فإنها تعتد كمطلقه، وأيضاً قالوا: بأن الشبهة تقام مقام الحقيقة في الاحتياط.

الرأي الثاني: أن الموطوءة بشبهة لا تلزمها عدة، وإنما يلزمها استبراء بحيضة واحدة إن كانت تحيض، أو بشهر إن كانت لا تحيض، أو بوضع الحمل إن حملت... إلخ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحد الوجهين عند الحنابلة.

وهذا القول هو الصواب في هذه المسألة؛ لأن العدة إنما تكون للزوجة من أجل تطويل زمن المراجعة، والعدة كما تقدم لنا من مصالحها: تطويل زمن المراجعة، وأيضاً: القيام بحقوق المرأة من النفقة والسكنى... إلى آخره، وهذه الأشياء غير موجودة في الموطوءة بشبهة، فالموطوءة بشبهة لا تجب لها النفقة، ولا السكنى، كذلك أيضاً ليس هناك مراجعة بينهما.. الى آخره.

قال: (أو زنا).

وأما عدة الزانية، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنها -أيضاً- تجب عليها عدة، فتعتد ثلاث حيض إذا كانت تحيض، أو ثلاثة أشهر إذا كانت لا تحيض.. إلى آخره، وهو مذهب المالكية، ودليلهم على ذلك، قالوا: بأن هذا وطء يشتغل به الرحم فوجبت فيه العدة كالنكاح.

والرأي الثاني: رأى الحنفية والشافعية: أن الزانية لا تجب عليها عدة؛ لأن هذا الوطء محرم شرعاً، وإذا كان محرماً شرعاً فيكون كالمعدوم حساً، والعدة إنما شرعت لحفظ النسب، والزنا لا يتعلق به ثبوت النسب، وقال الحنفية: إذا حملت من هذا الزنا، فإنها لا يطؤها زوجها.

والرأي الثالث: أن الزانية عليها استبراء.

والصحيح في ذلك أن نقول: إذا زنت المرأة لا تخلو من أمرين:

إما أن تكون ليست ذات زوج، فهذه يلزمها الاستبراء، فلا يجوز أن يعقد عليها حتى تستبرأ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم .

وإما أن تكون الزانية ذات زوج، فإن كان الولد للزوج بأن زنت وهي حامل فلا يجب الاستبراء، ولا تجب عدة، بل الزوج له أن يطأ؛ لأن الولد للفراش وللعاهل الحجر، والزنا كما يقول الشافعية: لا عبرة به، فالحرام لا يحرم الحلال.

وأما إذا كان الولد للزاني، بمعنى: أنها طهرت من حيضتها، ثم بعد ذلك زنت، فنقول: يجب على الزوج أن يستبرئ؛ لأنه قد يظهر أن هذا الولد للزاني.

وأما إذا كان الزوج لم يستبرأ فبعد أن طهرت من حيضتها، ووطء الزوج، ثم زنت، فهنا نقول: كما يقول الشافعية: إن الصحيح أنه لا تجب عدة، ولا استبراء، وللزوج أن يطأ، والولد للفراش، فهذه الأقسام أربعة:

القسم الأول: أن يكون الولد للزوج كما لو كانت حاملاً، فهنا لا تجب عدة ولا استبراء، كما لو زنت وهي حامل.

القسم الثاني: أن يكون الولد للزاني، كما لو استبرأها الزوج، يعني: حاضت ولم يطأ الزوج، ثم زنت، فنقول هنا: يجب الاستبراء؛ لئلا تختلط المياه.

القسم الثالث: يحتمل أن يكون الولد من الزوج، ويحتمل أن يكون من الزاني, طهرت من حيضتها، ثم وطئ الزوج، ثم الزاني، فنقول: لا تجب عدة ولا استبراء، وللزوج أن يطأ؛ لأن الحرام لا يحرم الحلال.

القسم الرابع: إذا كانت ليس لها زوج، وزنت، فالصواب: أنه يجب الاستبراء، ولا تجب العدة؛ لأن العدة لتطويل زمن المراجعة، وهذه ليس لها مراجعة، وأيضاً للقيام بالمرأة من النفقة، والسكنى، والزانية ليست زوجة حتى ينفق عليها، أو تسكن، أو نحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: (أو بعقد فاسد كمطلقة).

ومن وطئت بعقد فاسد، فهذه باتفاق الأئمة أنه تجب عليها العدة.

والرأي الثاني: كما تقدم اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم أنه لا تجب العدة، ويجب عليها الاستبراء وهذا هو الصواب.

المطلقة ثلاثاً: وهي التي طلقها زوجها آخر الطلقات الثلاث، فهذه أيضاً جمهور العلماء أنه تجب عليها العدة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التي طلقها زوجها آخر الطلقات الثلاث يجب عليها استبراء، إن كان أحداٌ قال به.

وقد ذكر العلماء: أن ابن اللبان -وهو أحد التابعين- قال بذلك. وقد استدل الجمهور بعمومات الأدلة لكن شيخ الإسلام يقول: إن العدة لتطويل زمن المراجعة، والمطلقة ثلاثاً ليس لها مراجعة، وأيضاً الصحيح أنه ليس لها نفقة ولا سكنى.

والمختلعة: هي التي خالعها زوجها، وجمهور العلماء أنه تجب عليها عدة كالمطلقة، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وقالوا أيضاً: هو وارد عن عمر وعلي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، لكن أثري عمر وعلي أثران ضعيفان، وأثر ابن عمر ورد عنه خلافه.

الرأي الثاني روي عن الإمام أحمد وبه قال ابن إسحاق وابن المنذر: أن المختلعة لا يجب عليها عدة، وإنما تجب عليها استبراء، ويدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر امرأة ثابت بن قيس -كما تقدم لنا- أن تستبرئ بحيضة، وأمر الربيع بنت معوذ أن تستبرئ بحيضة، وكذلك أيضاً ورد عن عثمان رضي الله تعالى عنه، ولحديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ).

ثم إن المقصود من العدة تطويل زمن المراجعة، والمختلعة ليس لها رجعة ولا نفقة، ولا سكنى، والمقصود بالاستبراء أن تحفظ الأنساب، وعدم اختلاط المياه.. إلى آخره.

وهذا الرأي هو الصواب في هذه المسألة، واختاره شيخ الإسلام.

المفسوخة: هي التي فسخ عقد النكاح عليها، إما لوجود عيب، أو لتخلف شرط.

ذهب جمهور العلماء، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد إلى أنه تجب عليها عدة كالمطلقة لعمومات الأدلة.

والرأي الثاني: أن المفسوخة لا تجب عليها عدة، وإنما يجب عليها استبراء؛ قياساً على المختلعة، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو الصواب.

وبهذا نعرف أن الاستبراء أوسع مما يذكره الفقهاء، فالفقهاء رحمهم الله: يضيقون الاستبراء، ويجعلونه في الأَمَة -ملك اليمين- فقط، والصحيح أن الاستبراء أعم من ذلك، فالموطوءة بشبهة عليها استبراء، وكذلك الزانية، والموطوءة بنكاح فاسد، أو باطل والمطلقة آخر الطلقات الثلاث، كل واحدة من هؤلاء كما يقول ابن تيمية رحمه الله: عليها استبراء.

كذلك أيضاً المسبية: التي سباها المسلمون وهي كافرة هذه أيضاً عليها استبراء، وكذلك المهاجرة عليها استبراء إذا أسلمت وهاجرت؛ فإن المسلمين ليس لهم أن يطئوا هذه المرأة بعقد إلا بعد الاستبراء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن وطئت معتدة بشبهة، أو نكاح فاسد فرق بينهما).

هذا الكلام الذي تكلم به المؤلف رحمه الله تعالى فيما تعلق بتداخل العِدد بناءً على أن النكاح الفاسد فيه عدة، وأن الوطء بشبهة فيه عدة؛ ولكن إذا قلنا: فيه استبراء فقط فكثير من هذه التفريعات التي سيذكرها المؤلف لا ترد عندنا.

فالمؤلف يقول: إذا امرأة طلقها زوجها طلقة واحدة وشرعت في العدة، فجاء شخص ووطئها بشبهة، أو وطئها بنكاح فاسد، فيقول المؤلف رحمه الله: (يفرق بينهما)، يعني: إذا كان النكاح فاسداً فيجب أن يفرق بينهما، وهل تتداخل العدتان، -عدة الطلاق، وعدة الوطء بشبهة، أو الوطء بنكاح فاسد- أو لا تتداخلان؟

قال المؤلف رحمه الله: (وأتمت عدة الأول، ولا يحسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني).

على كلام المؤلف رحمه الله العدتان لا تتداخلان، نفرق بين الواطئ والموطوءة، ونقول: تتمم عدة الأول، ثم تعتد للثاني، فمثلاً إذا حاضت حيضة واحدة ثم وطئت، فإننا نفرق بينها وبين الواطئ، وبقي من عدة الأول حيضتان، وتعتد للثاني بثلاث حيض، فالحاصل أنه يبقى عليها خمس حيض إذا كانت ممن يحضن، وإذا كانت لا تحيض ووطئت بعد شهر من بدء العدة، بقي من عدة الأول شهران، فتتمم شهرين، ثم بعد ذلك تعتد للثاني ثلاثة أشهر، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.

وقالوا: بأن هذا وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه؛ لكن هذا الأثر ضعيف.

وقالوا أيضاً: بأنه وارد عن علي رضي الله تعالى عنه، وأنه قضى في التي تزوج في عدتها أن يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر، وهذا رواه الإمام مالك والشافعي والبيهقي وإسناده صحيح عن علي رضي الله تعالى عنه.

وإذا قلنا: بأن الوطء الثاني -سواء كان بنكاح فاسد، أو بشبهة- أصلاً لا تجب فيه عدة، وإنما يجب فيه استبراء، إذا قلنا ذلك فلا حاجة إلى عدة أخرى، ويكفي الاستبراء بوجود الحيضتين الباقيتين؛ ولأن الواطئ الثاني ليس زوجاً حتى نثبت له عدة، وهذا هو الصواب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين).

يعني: أن الواطئ الثاني إذا وطئها في العدة ففرق بينهما، يقول المؤلف رحمه الله: لا تحرم عليه بشرط أن يكون معذوراً؛ إما بوطء شبهة، أو بنكاح يظنه صحيحاً.. إلى آخره، فيقول: بأنها تحل له بعد انقضاء العدتين؛ لقول علي رضي الله تعالى عنه: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب.

وأما إذا كان غير معذور بالوطء، كما لو استعجل الزواج في العدة؛ لأن الزواج في العدة محرم ولا يجوز، والله عز وجل يقول: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، فالذي يظهر -والله أعلم- أن من تعجل شيئاً قبل أوانه أنه يعاقب بحرمانه، وأنها لا تحل له.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن أتت بولد من أحدهما انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر).

يعني: هذه المرأة معتدة، طلقها زوجها طلقة واحدة، ثم وطئت لشبهة، ثم حملت من هذا الوطء، فنقول: بأن عدة الثاني تنتهي بوضع الحمل، ثم بعد أن تنتهي من وضع الحمل تكمل عدة الأول بحيضتين.

قال: (ومن وطئ معتدته البائنة بشبهة استأنفت العدة بوطئه، ودخلت فيها بقية الأولى).

صورة المسألة: خلع الزوج زوجته، فإذا حصلت المخالعة تكون قد بانت منه بينونة صغرى، فإذا وطئها زوجها الذي خالعها لشبهة كأن ظنها زوجة له، فتبين أنها ليست زوجة له، فيرى المؤلف رحمه الله: أن العدتين تتداخلان؛ لأن العدتين من واحد، وعدتان من واحد بوطئين يلحق النسب فيهما لحوقاً واحداً فيتداخلان، فتعتد للوطء بشبهة بثلاث حيض، وبقي عليها حيضتان من العدة الأولى، فتدخل هاتان الحيضتان في الثلاث حيض فيلزمها ثلاث حيض فقط، أما إذا قلنا: بأن الوطء بشبهة ففيه استبراء، نقول: بقي عليها حيضتان، وعدة الخلع يلزمها حيضتان، وإذا قلنا: بأن الخلع استبراء، نقول: يجب عليها أن تستبرئ بالنسبة للخلع إن حاضت انتهت استبراءها؛ لكن إذا لم تحض بالنسبة للخلع، نقول: الخلع والوطء بشبهة يكفيه فيه حيضة واحدة استبراء.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن نكح من أبانها في عدتها، ثم طلقها قبل الدخول بنت).

صورة المسألة: رجل خلع زوجته بانت بينونة صغرى، كذلك -أيضاً- لو فسخها لفوات شرط، أو وجود عيب، فنقول: بأنها بانت من زوجها بينونة صغرى، وله أن يتزوج المختلعة أو المفسوخة في عدتها، أما غير الزوج فليس له ذلك؛ نعم، له أن يعقد عليها، وليس له أن يراجع.

فإذا رجل خلع زوجته، أو فسخها ثم عقد عليها في العدة، وقبل أن يدخل بها طلقها فإنها تبني على ما سبق؛ لأنه لم يحصل وطء، فمثلاً: مختلعة حاضت، ثم عقد عليها، ثم طلقها قبل أن يدخل بها فتبني على العدة السابقة، ويكون بقي عليها حيضتان، وإن فسخها، ثم حاضت، ثم عقد عليها وبقي حيضتان فإذا طلقها فإنها تبني على العدة السابقة، وأما هذا العقد فلا أثر له؛ لعدم وجود الوطء.