سورة الأنفال - الآية [15]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الرابع والأربعين في الآية الخامسة عشرة من سورة الأنفال؛ قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، وتكملة حكم هذه الآية يأتي في الآية التي بعدها في قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

سبب نزول الآية

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: قيل: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ومعلوم أن سورة الأنفال كلها نازلة في شأن يوم بدر، ووصف ما كان من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين، والآيات التي جرت في ذلك اليوم العظيم، مع تضمين حكم الفرار من الزحف في هذه الآية، وحكم الأنفال في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، وحكم موالاة من آمن ولم يهاجر.

لكن لما قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، يقول ابن عاشور رحمه الله: لعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر، ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا.

قال: والصحيح أنها نزلت بعد وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلا جزء من هذه السورة.

معاني مفردات الآية

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ[الأنفال:15]، اللقاء هو: أن يلقى إنسان إنساناً، لكن غلب استعمال هذه الكلمة على الالتقاء في القتال، فإذا قيل: حصل لقاء بين المسلمين والمشركين فالمراد بذلك: مناجزة العدو في الميدان.

وقوله: إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً[الأنفال:15]، الزحف هو: الدنو قليلاً قليلاً، وأصله: الاندفاع على الإلية مثلما يصنع الأطفال، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً، والتزاحف: التداني؛ أن يدنو الجيشان بعضهما من بعض، يقال: زحف إلى العدو زحفاً، وازدحف القوم إذا مشى بعضهم إلى بعض.

وقوله: فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، أي: لا تفروا وتتركوا أصحابكم، و(الأدبار) جمع دبر، والدبر ضد القبل، أي: لا توجهوا إليهم أدباركم، يقال: ولى فلان وجهه فلاناً إذا أقبل عليه بوجهه، ومنه قول الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

يقول ابن عطية رحمه الله: فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، التعبير بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة؛ لأنها بشعة على الفار ذامة له، أي أن كلمة: (تولوهم الأدبار) فيها تبشيع للفرار وذم للفار.

وقد عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرار من الزحف أحد كبائر الذنوب، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ).

قال الألوسي رحمه الله: الإدبار: الانهزام، فإن المنهزم يولي ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحاً للانهزام وتنفيراً منه، يعني: كان يمكن في غير القرآن أن يقال: إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الظهور، لكن الله عز وجل ما عبر بالظهور وإنما عبر بالأدبار تبشيعاً ومذمة لمن انهزم من عدوه وفر.

المعنى الإجمالي للآية

والمعنى الإجمالي في هذه الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! إذا لقيتم الذين كفروا في القتال متزاحفين بعضكم إلى بعض فلا تولوهم ظهوركم ولكن اثبتوا لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا )، وقد كان هذا دأب المسلمين باستثناء يومين اثنين:

الأول: يوم أحد، قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155].

الثاني: يوم حنين، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].

أما في يوم بدر فقد ثبتت قلة قليلة يبلغ عددهم ثلاثمائة مقاتل وبضعة عشر أمام ألف مقاتل، وفي يوم الأحزاب ثبت ثلاثة آلاف مقاتل أمام عشرة آلاف مقاتل، وفي يوم مؤتة اليوم الذي اصطفى الله فيه زيداً و جعفر و عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم مع أحد عشر شهيداً آخرين في ذلك اليوم ثبت ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف: مائة ألف من الروم وانضم إليهم مائة ألف آخرين من نصارى العرب من لخم وجذام، من الغساسنة، فثبت المسلمون القلة أمام هؤلاء مع كثرتهم، وكذلك في فتوحات الشام وفارس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عمل المسلمون بهذه الآية أروع ما يكون العمل، ما عهد عنهم فرار أمام عدوهم قط.

التحذير من التولي يوم الزحف وحالات جوازه

أيها الإخوة الكرام! عنف الله عز وجل من فروا من الزحف يوم بدر ويوم حنين، ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:27].

أيها الإخوة الكرام! الفرار من الزحف مباح في حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان العدو أكثر من الضعف، قال الله عز وجل: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، لكن لو كان ألف من المسلمين أمامهم أكثر من ألفين من الكفار جاز الفرار، فمثلاً: إذا كان مائة من المسلمين أمامهم أكثر من مائتين جاز الفرار.

وهذه الآية ناسخة للتي قبلها في قول ربنا: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً [الأنفال:65]، يعني: في البداية كان واجباً على الواحد أن يصبر أمام عشرة، ثم بعد ذلك خفف الله عنهم وعلم أن فيهم ضعفاً فأوجب على الواحد أن يصبر أمام اثنين، فإذا كانوا أكثر من اثنين جاز الفرار باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب عليه الثبات ولو كان أمامه من المشركين ألف أو ألف ألف؛ ولذلك يوم حنين لما فر الناس وانكشفوا عنه يقول العباس رضي الله عنه: إني لآخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يركض نحو العدو يقول: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )، فما عهد عنه فرار أصلاً عليه الصلاة والسلام.

وكذلك يوم أحد فر الناس وانكشفوا والنبي صلى الله عليه وسلم بقي ثابتاً حتى هشمت البيضة على رأسه -والبيضة: الخوذة التي يلبسها- من كثرة الضرب بالسيوف عليها من المشركين، هشمت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وشجت جبهته، وجحشت ركبتاه صلوات الله وسلامه عليه، هذه الحالة الأولى التي يجوز فيها الفرار.

الحالة الثانية: قال الله عز وجل: إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [الأنفال:16]، (متحرفاً لقتال) يعني: ينسحب انسحاب تكتيكي كما يقولون؛ من أجل أن يكر على الأعداء من ناحية أخرى، أو لأنه يعلم أن في ناحية عدداً من المسلمين لو أنه تحيز إليهم فسيكرون على عدوهم.

قال ابن عطية رحمه الله: الذي يراعى هو العدد حسب ما جاء في كتاب الله، وهذا هو قول جمهور الأمة، وقالت فرقة -وانظروا أيها الإخوان إلى ثراء الفقه الإسلامي، وكيف أن بعض العلماء كان يرى بنور الله- منهم ابن الماجشون في الواضحة، وهو من علماء المالكية الكبار: يراعى أيضاً القوة والعدد، فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك، يعني: أن يراعى مع العدد القوة والعدة، ولا شك أن هذا القول يناسب زماننا هذا، حيث إن الفارق كبير بين عدة المسلمين وعدة عدوهم، حتى إن الثبات أحياناً قد يكون من باب الإلقاء باليد إلى التهلكة.

قال القرطبي رحمه الله: وقع في تاريخ فتح الأندلس أن طارق بن زياد مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة (93) من الهجرة، فالتقى مع ملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان -تلاحظون ألف وسبعمائة أمام سبعين ألفاً- فزحف إليه طارق وصبر له، فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح، فهذا هو دأب المسلمين -والحمد لله- إلى يوم الناس هذا.

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: قيل: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ومعلوم أن سورة الأنفال كلها نازلة في شأن يوم بدر، ووصف ما كان من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين، والآيات التي جرت في ذلك اليوم العظيم، مع تضمين حكم الفرار من الزحف في هذه الآية، وحكم الأنفال في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، وحكم موالاة من آمن ولم يهاجر.

لكن لما قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، يقول ابن عاشور رحمه الله: لعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر، ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا.

قال: والصحيح أنها نزلت بعد وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلا جزء من هذه السورة.