سورة آل عمران - الآية [100]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

معنا في هذا الدرس النداء الثاني عشر وهو في الآية مائة من سورة آل عمران،

قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100].

هذا هو النداء الثاني عشر من نداءات الرحمن لأهل لإيمان، في الآية مائة من سورة آل عمران، وهو قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100].

سبب نزول هذه الآية كما ذكر أئمة التفسير: أن شأس بن قيس كان شيخاً من شيوخ يهود، وكان شديد الضغن على الإسلام وأهله، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم.

مر هذا الرجل على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاضه ذلك فقال: والله ما لنا بهذه الأرض من قرار -أي: إذا اتفق الأوس والخزرج واتحدت كلمتهم-، فأمر شاباً من شباب اليهود أن يذهب إلى ذلك المجلس، ويذكرهم بيوم بعاث، وكان يوماً قد وقعت فيه حرب بين الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، فذهب ذلك الشاب، وبدأ يستنشد القوم ما قالوا من أشعار في ذلك اليوم حتى غلت الدماء في العروق، وتذكر القوم ما كان بينهم من ثارات وإحن، وتنادوا إلى حمل السلاح، وقال قائلهم: إن شئتم رددناها جذعة، وتواعدوا ظهر الحرة، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وقال لهم: (يا معشر الأوس والخزرج! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة) أي: اتركوا الدعوى للجنس وللقبيلة وللعصبية، فإنها دعوة منتنة وقبيحة لا تؤدي إلى خير، وبدأ صلى الله عليه وسلم يذكر الأوس والخزرج بأن الله أكرمهم بالإسلام، وقطع عنهم أمر الجاهلية، حتى رقت قلوبهم، فألقوا أسلحتهم وعانق بعضهم بعضاً وهم يبكون، يقول الصحابي: فما رأيت يوماً أقبح أولاً ولا أحسن آخراً من ذلك اليوم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية وما بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100].

يقول الألوسي رحمه الله: هذا النداء تشريف للأوس والخزرج؛ لأن قبله نداءات لأهل الكتاب وتبدأ بقل، كقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[آل عمران:65]، وقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا[آل عمران:98-99]، وهنا لم يقل: قل يا أيها الذين آمنوا، وإنما خاطبهم مباشرة من غير واسطة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا )).

معاني المفردات

قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا )) الفريق: الطائفة من الناس، والمعنى: إن تطيعوا هذه الطائفة الحاقدة الحاسدة الظالمة الباغية من الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، (( إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ))، والذين آتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، ولكن المراد بأهل الكتاب هنا هم اليهود؛ لأنهم هم الذين كانوا يساكنون المسلمين في المدينة.

(( إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ )) أصل الرد: الصرف والإرجاع، والمراد به هنا التصيير، أي يصيرونكم ويحولونكم بعد إيمانكم كافرين، بمعنى التصيير والتحويل، ومنه قول القائل:

فرد شعورهن السود بيضاً ورد وجوههن البيض سوداً

أي صيرها وحولها.

فإذا أطعتم أهل الكتاب في إحياء النعرات الجاهلية والعصبيات القومية سيصيرونكم -بعد إذ كنتم مؤمنين طيبين تعرفون الله ورسوله- إلى جاهليتكم كفاراً لا تعرفون الله.

وهذه الآية قد ورد في معناها آيات، كقول الله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ[البقرة:109]، وقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[النساء:89]، وقول الله عز وجل وجل: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[آل عمران:69]، وغير ذلك من الآيات.

خطر طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم

يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه في الظلال: إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداءً معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشأت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس وهي لا تشعر به، ولا ترى خطره القريب.

ويجب أن نفرق بين قضيتين: قضية اقتباس مناهج من أهل الكتاب وفق روح الإسلام، وتوجيهه؛ من أجل أن ننتفع بجهود البشر في الارتقاء بحياتنا وخدمة ديننا، فهذا لا بأس به، وقد فعله المسلمون الأولون، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مصر الأمصار ودون الدواوين وجعل للجند عطاء وغير ذلك من التراتيب الإدارية والنظم إنما اقتبسها من غير المسلمين، لكنها لا تعارض دين الله عز وجل، هذه قضية.

والقضية الثانية: اقتباس مناهج أهل الكتاب في التفسير، والاعتقاد، والنظر إلى الكون والحياة، والنظر إلى الخالق جل جلاله، فهذا هو الممنوع المحذور، وقد وقع في ذلك دعاة القومية العربية، وقامت حربان كونيتان عظيمتان هلك فيهما ملايين من البشر، وهاتان الحربان سببهما: اعتقاد تفوق جنس على جنس، فأصحاب الجنس الآرمي، أو أصحاب الجنس الأنجلو سكسوني، كل منهم يعتقد أنه الأفضل والأرقى والأحسن، وأنه ينبغي أن يقضي على الجنس الآخر، فكانت النتيجة قيام الحروب الطاحنة التي هلك فيها من البشر ما لا يعلمه إلا الله، هذه الفكرة الخاطئة الكاذبة انتقلت إلى بلاد العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عبر دعاة القومية العربية، وهي حركة سياسية فكرية متعصبة، تقوم على ربط الناس برابطة الدم والجنس واللغة والتاريخ والآمال والآلام كما زعموا، وتنحية رابطة الدين.

إن هذه الدعوة القومية أتى بها مجموعة من النصارى في سوريا ولبنان ومصر، وهم بطرس البستاني و سليم البستاني و منيف خوري و نصيف اليازجي و خير الله خير الله، وغيرهم، وكلهم من النصارى، إلى أن وصل الأمر إلى ميشيل عفلق ، الذي أسس حزب البعث الذي قضى على الأخضر واليابس، هذه الدعوة تقوم على جملة من الأفكار الكفرية، وهي أن الدين لله والوطن للجميع، وأن رابطة الجنس هي التي توحد، وأن الدين لا يوحد، ثم تناولوا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه عبقرياً عربياً، لا بوصفه رسولاً نبياً، وقالوا: إن العبقرية العربية تتجلى في عدة صور فتارة في صورة شريعة حمورابي وتارة في صورة الشعر الجاهلي، وتارة في صورة الإسلام، أي: أن الإسلام مرحلة من مراحل القومية العربية، وقالوا بأن محمداً كان كل العرب فليكن كل العرب محمداً، إلى غير ذلك من الكلمات الفارغة، وبلغ الكفر ببعضهم أن يقول:

هبوني عيداً يجعل العرب أمة

وسيروا بجثماني على دين برهم

سلام على كفر يوحد بيننا

وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

أي: أنه يريد أن يعلي رابطة الجنس، والدم، ويلغي رابطة الدين.

ولقد كانت النتيجة أن قامت الجامعة العربية، وهي فكرة إنجليزية؛ من أجل القضاء على فكرة الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها بعض العلماء بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، حيث دعوا إلى قيام جامعة إسلامية تجمع شتات المسلمين عرباً وعجماً، فقامت فكرة الجامعة العربية وحصرتها في الجنس العربي، بصرف النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو غيره، ومنذ أن قامت هذه الجامعة لم ير الناس منها خيراً، ولم تنتصر لقضية واحدة من قضايا المسلمين، وقلصت القضايا وضيقتها، فقضية فلسطين التي هي قضية إسلامية أممية، جعلوها قضية عربية، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية قطرية تخص شعباً معيناً، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية داخلية تخص الشعب الفلسطيني الذي يقيم في داخل فلسطين.

وهذه الدعوة تعارض أصول الإسلام؛ لأن الإسلام لا يعتد برابطة الجنس أو غيرها، إنما يعتد برابطة الدين، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً[المؤمنون:52]، إلى غير ذلك من النصوص التي يعلمها كل مسلم.

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، هذه الآية ينبغي أن تكون أمام المسلمين في كل موقف.

ما ورد في السنة مما يؤيد معنى الآية

في معنى هذه الآية أحاديث ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه قال: (جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني مررت بيهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة. -أي: أن اليهودي كتب لـعمر بعض الصفحات من التوراة- ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن ثابت: يا عمر ! ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -أي: انتبه، أما ترى ما في وجه رسول الله من الغضب- فقال عمر رضي الله عنه: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، قال: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: عادت إليه بشاشته- وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لـعمر رضي الله عنه الله عنه: ليس لو كتب لك صحائف من التوراة، بل لو جاء موسى عليه السلام حياً بين أظهركم فتبعتموه لظللتم؛ لأن موسى عليه السلام تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث آخر عن جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أن أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني).

ما يستفاد من هذه الآية

هذه الآية يستفاد منها فائدتين عظيمتين:

الفائدة الأولى: طاعة اليهود والنصارى في الأخذ بنصائحهم، والتسمي بأسمائهم واتباع توجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر رضي ذلك أو لم يرض.

الفائدة الثانية: الحذر من تقلب القلوب، والرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، فلا يضمن أحد لنفسه الإسلام؛ لأنه مسلم بين أبوين مسلمين، وقد نشأ على الإسلام، ويظن أنه لا خوف عليه، فإن الله عز وجل يقول للصحابة: (( يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ))، وغيرهم من باب أولى.

نسأل الله أن يثبتنا على الإسلام.

قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا )) الفريق: الطائفة من الناس، والمعنى: إن تطيعوا هذه الطائفة الحاقدة الحاسدة الظالمة الباغية من الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، (( إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ))، والذين آتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، ولكن المراد بأهل الكتاب هنا هم اليهود؛ لأنهم هم الذين كانوا يساكنون المسلمين في المدينة.

(( إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ )) أصل الرد: الصرف والإرجاع، والمراد به هنا التصيير، أي يصيرونكم ويحولونكم بعد إيمانكم كافرين، بمعنى التصيير والتحويل، ومنه قول القائل:

فرد شعورهن السود بيضاً ورد وجوههن البيض سوداً

أي صيرها وحولها.

فإذا أطعتم أهل الكتاب في إحياء النعرات الجاهلية والعصبيات القومية سيصيرونكم -بعد إذ كنتم مؤمنين طيبين تعرفون الله ورسوله- إلى جاهليتكم كفاراً لا تعرفون الله.

وهذه الآية قد ورد في معناها آيات، كقول الله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ[البقرة:109]، وقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[النساء:89]، وقول الله عز وجل وجل: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[آل عمران:69]، وغير ذلك من الآيات.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه في الظلال: إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداءً معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشأت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس وهي لا تشعر به، ولا ترى خطره القريب.

ويجب أن نفرق بين قضيتين: قضية اقتباس مناهج من أهل الكتاب وفق روح الإسلام، وتوجيهه؛ من أجل أن ننتفع بجهود البشر في الارتقاء بحياتنا وخدمة ديننا، فهذا لا بأس به، وقد فعله المسلمون الأولون، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مصر الأمصار ودون الدواوين وجعل للجند عطاء وغير ذلك من التراتيب الإدارية والنظم إنما اقتبسها من غير المسلمين، لكنها لا تعارض دين الله عز وجل، هذه قضية.

والقضية الثانية: اقتباس مناهج أهل الكتاب في التفسير، والاعتقاد، والنظر إلى الكون والحياة، والنظر إلى الخالق جل جلاله، فهذا هو الممنوع المحذور، وقد وقع في ذلك دعاة القومية العربية، وقامت حربان كونيتان عظيمتان هلك فيهما ملايين من البشر، وهاتان الحربان سببهما: اعتقاد تفوق جنس على جنس، فأصحاب الجنس الآرمي، أو أصحاب الجنس الأنجلو سكسوني، كل منهم يعتقد أنه الأفضل والأرقى والأحسن، وأنه ينبغي أن يقضي على الجنس الآخر، فكانت النتيجة قيام الحروب الطاحنة التي هلك فيها من البشر ما لا يعلمه إلا الله، هذه الفكرة الخاطئة الكاذبة انتقلت إلى بلاد العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عبر دعاة القومية العربية، وهي حركة سياسية فكرية متعصبة، تقوم على ربط الناس برابطة الدم والجنس واللغة والتاريخ والآمال والآلام كما زعموا، وتنحية رابطة الدين.

إن هذه الدعوة القومية أتى بها مجموعة من النصارى في سوريا ولبنان ومصر، وهم بطرس البستاني و سليم البستاني و منيف خوري و نصيف اليازجي و خير الله خير الله، وغيرهم، وكلهم من النصارى، إلى أن وصل الأمر إلى ميشيل عفلق ، الذي أسس حزب البعث الذي قضى على الأخضر واليابس، هذه الدعوة تقوم على جملة من الأفكار الكفرية، وهي أن الدين لله والوطن للجميع، وأن رابطة الجنس هي التي توحد، وأن الدين لا يوحد، ثم تناولوا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه عبقرياً عربياً، لا بوصفه رسولاً نبياً، وقالوا: إن العبقرية العربية تتجلى في عدة صور فتارة في صورة شريعة حمورابي وتارة في صورة الشعر الجاهلي، وتارة في صورة الإسلام، أي: أن الإسلام مرحلة من مراحل القومية العربية، وقالوا بأن محمداً كان كل العرب فليكن كل العرب محمداً، إلى غير ذلك من الكلمات الفارغة، وبلغ الكفر ببعضهم أن يقول:

هبوني عيداً يجعل العرب أمة

وسيروا بجثماني على دين برهم

سلام على كفر يوحد بيننا

وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

أي: أنه يريد أن يعلي رابطة الجنس، والدم، ويلغي رابطة الدين.

ولقد كانت النتيجة أن قامت الجامعة العربية، وهي فكرة إنجليزية؛ من أجل القضاء على فكرة الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها بعض العلماء بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، حيث دعوا إلى قيام جامعة إسلامية تجمع شتات المسلمين عرباً وعجماً، فقامت فكرة الجامعة العربية وحصرتها في الجنس العربي، بصرف النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو غيره، ومنذ أن قامت هذه الجامعة لم ير الناس منها خيراً، ولم تنتصر لقضية واحدة من قضايا المسلمين، وقلصت القضايا وضيقتها، فقضية فلسطين التي هي قضية إسلامية أممية، جعلوها قضية عربية، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية قطرية تخص شعباً معيناً، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية داخلية تخص الشعب الفلسطيني الذي يقيم في داخل فلسطين.

وهذه الدعوة تعارض أصول الإسلام؛ لأن الإسلام لا يعتد برابطة الجنس أو غيرها، إنما يعتد برابطة الدين، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً[المؤمنون:52]، إلى غير ذلك من النصوص التي يعلمها كل مسلم.

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، هذه الآية ينبغي أن تكون أمام المسلمين في كل موقف.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2641 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2580 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2540 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2525 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2351 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2315 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2308 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2298 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2233 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2193 استماع