تفسير سورة النور - الآيات [4-5] الأول


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5].

هاتان الآيتان الكريمتان تأتيان في سياق الحديث عن وجوب حفظ الأعراض، وقد كانت الآيات السابقة في الكلام عن حرمة الاعتداء على الأعراض بالفعل، فأوجب الله عز وجل على من اعتدى على عرض غيره بأن يجلد مائة جلدة، سواء كان ذكراً أو أنثى، وبشع سبحانه وتعالى جريمة الزنا، وبين أنه لا يقع فيها إلا من كان زانياً أو مشركاً.

وفي هاتين الآيتين يحرم الله جل جلاله الاعتداء على الأعراض بالقول، ويوجب في ذلك ثلاث عقوبات:

قال: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، هذه العقوبة الأولى، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً[النور:4]، وهذه العقوبة الثانية، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، حكم عليهم بالفسق، وهذه العقوبة الثالثة.

ثم فتح لهم باب التوبة، فقال: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا[النور:5].

سبب نزول الآيات

وسبب نزول هاتين الآيتين كما قال بعض المفسرين: أنها نزلت في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي الحادثة المعروفة بحادثة الإفك، والتي كانت في غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق في أواخر السنة الرابعة، أو أوائل السنة الخامسة.

فبعض المفسرين ذكروا بأن هاتين الآيتين نازلتان في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وبعضهم قال: بل هي على العموم.

معاني المفردات

أما معاني المفردات، فقول ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ[النور:4]، والرمي هو القذف، ويطلق على المعنى الحسي وعلى المعنوي، والمعنى الحسي الرمي، كالرمي بالحجارة، ومنه قول الله عز وجل: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4]، ويطلق أيضاً على الشيء المعنوي، وهو أن يرمي الإنسان غيره بما يسوؤه، وينتقص عرضه، ويبشع حاله عند الناس، ومنه قول القائل:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني

والطوي هو البئر.

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] بفتح الصاد، وقرأ الكسائي بكسر الصاد: والذين يرمون المحصنات، والإحصان في اللغة المنع، ومنه قول الله عز وجل: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ[الأنبياء:80]، وفي قراءة: ليحصنكم من بأسكم، أي: ليمنع عنكم بأسكم، أي: ضرباتكم.

إطلاقات الإحصان في القرآن الكريم

والإحصان في القرآن أطلق على ثلاثة معان:

المعنى الأول: العفة، ومنه هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4]، أي: العفائف، ومنه قول الله عز وجل: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ[النساء:25]، أي: عفائف غير زانيات.

المعنى الثاني: يطلق الإحصان على التزوج، فمن تزوج من ذكر أو أنثى فهو محصن، ومنه قول الله عز وجل: فَإِذَا أُحْصِنَّ[النساء:25]، أي: تزوجن، ومنه قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ[النساء:23]، إلى أن قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ[النساء:24]، أي: المتزوجات.

المعنى الثالث: الإحصان بمعنى الحرية، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ[النساء:25]، أي: الحرائر، فالأمة لو زنت فإنها تجلد خمسين جلدة، بينما الحرة إذا زنت فإنها تجلد مائة جلدة.

معنى المحصنات وسبب تخصيص النساء بالذكر في الآية

والمقصود بالمحصنات في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] العفائف، وهاهنا سؤال: قال ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، فما حكم الذين يرمون المحصنين؟

نقول: أجمع أهل العلم على أن حكم الرجال والنساء واحد، فمن رمى رجلاً مسلماً فحكمه كحكم من رمى امرأة مسلمة، لكن قال بعض المفسرين: خص الله النساء بالذكر؛ لأن القذف في حقهن أعظم وأضر، فلو أن إنساناً رمى إنساناً وقذفه بالفاحشة -والعياذ بالله- فإن الرجل رميه أهون من رمي المرأة؛ لأن من رمى امرأة فقد شان سمعتها، وشوه سيرتها، وأجرى ألسنة السوء بالقيل فيها، ويجر ذلك ضرراً عظيماً عليها وعلى أهلها؛ ولذلك خص الله النساء بالذكر في هذه الآية، مثل ما قال سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ[الفلق:1-4]، والنفاثات: هن السواحر اللائي يعقدن عقداً ثم ينفثن فيه، ومعلوم أن السحر مثل ما هو من النساء قبيح، فكذلك هو من الرجال قبيح، لكن خص الله النساء بالذكر؛ لأن السحر فيهن أكثر، ويلجأن إليه أكثر.

وقال بعض المفسرين: قول ربنا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، المحصنات هنا صفة لموصوف محذوف، وتقدير الكلام: الفروج المحصنات، وهذا يشمل الرجال والنساء.

وقال بعضهم: بل التقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، وهذا أيضاً يشمل الرجال والنساء.

وقوله سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، شهداء جمع شاهد وشهيد، وتقدم معنا الكلام في أن الشهادة إخبار بحق للغير على الغير، قال الله عز وجل: فَاجْلِدُوهُمْ[النور:4].

والجلد هو الضرب على الجلد، مثل ما يقال: بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وجبهه إذا ضربه في جبهته، وهاهنا أيضاً جلده إذا ضرب جلده.

معنى الفسق

ثم قال: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، الفاسقون جمع فاسق، وهو اسم فاعل الفسق، والفسق في اللغة الخروج، ومنه يقال: فسقت الحبة إذا خرجت، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم.. )، فذكر الحدأة والكلب العقور والغراب الأبقع والحية والفأرة، فهذه الخمس تقتل حتى في الحرم، وسميت فواسق لخروجها عن حكم غيرها، وإلا فالدواب لا يطلق عليها العدالة أو الفسق؛ لأن الدواب غير مكلفة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد ههنا الفسق اللغوي، بمعنى أنها خرجت عن حكم غيرها؛ لأن الحرم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفر صيده )، فهاهنا فلما قال في هذه الدواب بأنها فاسقة، فهو يقصد أنها خرجت عن حكم غيرها، فالفسق في اللغة هو الخروج.

وأما الفسق في الشرع فهو الخروج عن حكم الله بارتكاب كبيرة، أو الإصرار على صغيرة؛ ولذلك شارب الخمر فاسق، وآكل الربا فاسق، ومرتكب الزنا فاسق، وسارق أموال الناس فاسق.

ثم قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5]، وسيأتي معنا الكلام في رجوع الاستثناء، هل يرجع إلى العقوبات الثلاث المذكورة أو أنه يرجع إلى بعضها دون بعض.

وسبب نزول هاتين الآيتين كما قال بعض المفسرين: أنها نزلت في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي الحادثة المعروفة بحادثة الإفك، والتي كانت في غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق في أواخر السنة الرابعة، أو أوائل السنة الخامسة.

فبعض المفسرين ذكروا بأن هاتين الآيتين نازلتان في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وبعضهم قال: بل هي على العموم.

أما معاني المفردات، فقول ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ[النور:4]، والرمي هو القذف، ويطلق على المعنى الحسي وعلى المعنوي، والمعنى الحسي الرمي، كالرمي بالحجارة، ومنه قول الله عز وجل: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4]، ويطلق أيضاً على الشيء المعنوي، وهو أن يرمي الإنسان غيره بما يسوؤه، وينتقص عرضه، ويبشع حاله عند الناس، ومنه قول القائل:

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني

والطوي هو البئر.

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] بفتح الصاد، وقرأ الكسائي بكسر الصاد: والذين يرمون المحصنات، والإحصان في اللغة المنع، ومنه قول الله عز وجل: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ[الأنبياء:80]، وفي قراءة: ليحصنكم من بأسكم، أي: ليمنع عنكم بأسكم، أي: ضرباتكم.

والإحصان في القرآن أطلق على ثلاثة معان:

المعنى الأول: العفة، ومنه هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4]، أي: العفائف، ومنه قول الله عز وجل: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ[النساء:25]، أي: عفائف غير زانيات.

المعنى الثاني: يطلق الإحصان على التزوج، فمن تزوج من ذكر أو أنثى فهو محصن، ومنه قول الله عز وجل: فَإِذَا أُحْصِنَّ[النساء:25]، أي: تزوجن، ومنه قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ[النساء:23]، إلى أن قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ[النساء:24]، أي: المتزوجات.

المعنى الثالث: الإحصان بمعنى الحرية، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ[النساء:25]، أي: الحرائر، فالأمة لو زنت فإنها تجلد خمسين جلدة، بينما الحرة إذا زنت فإنها تجلد مائة جلدة.

والمقصود بالمحصنات في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] العفائف، وهاهنا سؤال: قال ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، فما حكم الذين يرمون المحصنين؟

نقول: أجمع أهل العلم على أن حكم الرجال والنساء واحد، فمن رمى رجلاً مسلماً فحكمه كحكم من رمى امرأة مسلمة، لكن قال بعض المفسرين: خص الله النساء بالذكر؛ لأن القذف في حقهن أعظم وأضر، فلو أن إنساناً رمى إنساناً وقذفه بالفاحشة -والعياذ بالله- فإن الرجل رميه أهون من رمي المرأة؛ لأن من رمى امرأة فقد شان سمعتها، وشوه سيرتها، وأجرى ألسنة السوء بالقيل فيها، ويجر ذلك ضرراً عظيماً عليها وعلى أهلها؛ ولذلك خص الله النساء بالذكر في هذه الآية، مثل ما قال سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ[الفلق:1-4]، والنفاثات: هن السواحر اللائي يعقدن عقداً ثم ينفثن فيه، ومعلوم أن السحر مثل ما هو من النساء قبيح، فكذلك هو من الرجال قبيح، لكن خص الله النساء بالذكر؛ لأن السحر فيهن أكثر، ويلجأن إليه أكثر.

وقال بعض المفسرين: قول ربنا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، المحصنات هنا صفة لموصوف محذوف، وتقدير الكلام: الفروج المحصنات، وهذا يشمل الرجال والنساء.

وقال بعضهم: بل التقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، وهذا أيضاً يشمل الرجال والنساء.

وقوله سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، شهداء جمع شاهد وشهيد، وتقدم معنا الكلام في أن الشهادة إخبار بحق للغير على الغير، قال الله عز وجل: فَاجْلِدُوهُمْ[النور:4].

والجلد هو الضرب على الجلد، مثل ما يقال: بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وجبهه إذا ضربه في جبهته، وهاهنا أيضاً جلده إذا ضرب جلده.

ثم قال: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، الفاسقون جمع فاسق، وهو اسم فاعل الفسق، والفسق في اللغة الخروج، ومنه يقال: فسقت الحبة إذا خرجت، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم.. )، فذكر الحدأة والكلب العقور والغراب الأبقع والحية والفأرة، فهذه الخمس تقتل حتى في الحرم، وسميت فواسق لخروجها عن حكم غيرها، وإلا فالدواب لا يطلق عليها العدالة أو الفسق؛ لأن الدواب غير مكلفة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد ههنا الفسق اللغوي، بمعنى أنها خرجت عن حكم غيرها؛ لأن الحرم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفر صيده )، فهاهنا فلما قال في هذه الدواب بأنها فاسقة، فهو يقصد أنها خرجت عن حكم غيرها، فالفسق في اللغة هو الخروج.

وأما الفسق في الشرع فهو الخروج عن حكم الله بارتكاب كبيرة، أو الإصرار على صغيرة؛ ولذلك شارب الخمر فاسق، وآكل الربا فاسق، ومرتكب الزنا فاسق، وسارق أموال الناس فاسق.

ثم قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5]، وسيأتي معنا الكلام في رجوع الاستثناء، هل يرجع إلى العقوبات الثلاث المذكورة أو أنه يرجع إلى بعضها دون بعض.

والمعنى الإجمالي لهاتين الآيتين الكريمتين:

هو أن الله عز وجل قد أوجب حكماً في حق من يرتكب كبيرة القذف، الذي هو الرمي بفاحشة توجب حداً، أو ما يلزم منه ذلك وهو نفي النسب، فمن رمى غيره بفاحشة فقال لآخر: يا زاني! فهذا قد رماه بالفاحشة، أو قال لمرأة: يا زانية! فهذه توجب حداً، أو نفى نسبه، كأن قال له: يا ابن الزانية! أو يا ابن الزاني! أو قال له مثلاً: لست ابن فلان، نفاه من نسبه، أو قال له: أبوك ليس فلاناً، وسيأتي معنا الكلام في أن القذف منه ما هو صريح ومنه ما هو بالكناية. مثل ما قيل في الطلاق: فمن الطلاق ما هو صريح لا يحتاج إلى نية، كما لو قال لها: أنت طالق، أو أنت مطلقة أو طلقتك أو طلقانة، ومنه ما هو كناية، كما لو قال لها: أنت خلية، أنت برية، أنت حرة، اذهبي إلى بيت أبيك، لا ترجعي إلي، استغنيت عنك، فهذه الألفاظ كلها يسأل قائلها عن نيته، يقال له: ماذا نويت؟ هل نويت طلاقاً أو نويت شيئاً غيره، ومثله لو قال لها: الحقي بأهلك، فهذه قد يراد بها الطلاق وقد يراد بها غيره.

فالقذف من كبائر الذنوب، كما في الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله! قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، فعد القذف من السبع الموبقات.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ( قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة )، فالإنسان العاقل هو الذي يكف لسانه عن أعراض المسلمين والمسلمات، فلا يقول: بأن فلاناً زاني، ولا يقول: بأن فلاناً ابن حرام، ولا يقول: بأن فلانة سيرتها سيئة، وأن فلانة سلوكها مشئوم، وأن فلانة صفتها كذا وكذا.. هذا كله مما يورد صاحبه ناراً تلظى، نسأل الله أن يسلمنا ويسلم الناس منا.

فالكلام في الأعراض من الخطورة بمكان، والكلام في الأعراض أخطر من الكلام في الذمة المالية، وأخطر من الكلام في الأمانة العلمية، وأخطر من الكلام في سائر الأمور؛ ولذلك ربنا جل جلاله أوجب فيه هذا الحد المغلظ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4].

وفي هذه الآية مسائل، فمن المسائل التي ذكرت في الزاني والزانية: ذكر تعريف الزنا، وذكر الوسائل التي جعلتها الشريعة للوقاية من الزنا، وذكر الكلام عن تعريف الإحصان، وذكر الكلام عن حد الزاني البكر، وعن كيفية الجلد، ومن الذي يجلد، وذكر الكلام عن التغريب، وهل هو شامل للذكر والأنثى أم لا، وذكر الكلام عن الشهود وشروطهم، وذكر الكلام عن الإحصان ومعناه، وذكر الكلام عن الرجم، وبأي شيء يكون، وهل يحفر للمرجوم أو لا يحفر، ولو جمعت هذه المسائل ربما تبلغ خمسين مسألة.

ومثلها أيضاً المسائل المتعلقة بحد القذف:

المسألة الأولى: لو أن قائلاً قال: ما الدليل على أن هذه الآية مقصود بها الرمي بالفاحشة؟ يعني: ربنا سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، ربما يقول قائل: بأن هذه الآية ليست في القذف، فلو قال رجل لآخر: أنت لص، أو قال له: أنت خائن مثلاً أو أنت غبي، أو غير ذلك مما يسوء الناس فقد رماه. أقول: دلت قرينتان في الآية على أن المراد بالرمي هاهنا الرمي بالفاحشة:

أما القرينة الأولى: فهي ذكر المحصنات، وقد تقدم معنا الكلام في أن الإحصان من أولى معانيه العفة، فلما ذكر ربنا جل جلاله العفائف؛ علم أن المقصود بالرمي في الآية ما يناقض العفة، وهي الفاحشة.

القرينة الثانية: قول ربنا جل جلاله: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، ومعلوم أنه ليس في الحدود ما يحتاج إلى أربعة شهداء إلا الفاحشة، التي هي الزنا، وبعض العلماء ألحق بها ما كان مثلها والعياذ بالله، كاللواط والسحاق وما أشبه ذلك.

وتقدم معنا الكلام في أن أغلب الحقوق تثبت بشاهدين، وبعضها تثبت بشاهد ويمين المدعي، وعندنا شيء واحد يثبت بثلاثة شهود وهو التفليس، ( حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون: أصابت فلاناً فاقة )، فإذا ادعى أحد أنه مفلس، فهذه الدعوى لا تقبل إلا إذا شهد ثلاثة.

أما الجريمة التي تحتاج إلى أربعة فهي الفاحشة والعياذ بالله.