شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [21]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد تقدم معنا الكلام عن اسم الله جل جلاله (العزيز)، ومن آثار عزته جل جلاله الإماتة؛ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].

ومن آثار عزته: التنكيل بالمخالفين والمتعدين لحدوده سبحانه وتعالى.

ومن آثار عزته جل جلاله: أنه عز فحكم فغلب.

ومن أسمائه (العظيم)، ومن أسمائه (العفو والعليم والعلي).

الاسم الثالث والخمسون من أسماء الله الحسنى: الغالب؛ قال الله عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وكما قال الأول:

وليغلبن مغالب الغلاب.

فالله عز وجل غالب، ومن آثار غلبته جل جلاله: أن مشيئته فوق مشيئة العباد؛ كما قال سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

ومن آثار غلبته جل جلاله: أن قدره يمضي في العباد على خلاف ما يشتهون؛ ومن أوضح الأمثلة لذلك ما كان في غزوة بدر، إذ خرج المسلمون وهم يريدون الاستيلاء على العير -عير قريش-؛ قال الله عز وجل: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، ولكن غلبت إرادة الله؛ ولهذا قال: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7]؛ فالمسلمون كانوا كارهين للقتال، ولا يتمنون وقوعه؛ ولكن الله عز وجل أراد أن يقع قتالاً، وأن يقتل من صناديد الكفر سبعون، وأن تزول هيبة هؤلاء المشركين، وأن يعلي الله عز وجل كلمته، ويظهر أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ويرجع المسلمون بالغنائم؛ فإرادة الله عز وجل غلبت إرادة الناس؛ فلذلك نقول: (الله غالب على أمره) بمعنى: أنه جل جلاله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.

ومن آثار غلبته جل جلاله: أنه يحيي متى يشاء، ويميت متى يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء.

الاسم الرابع والخامس والخمسون من أسماء الله الحسنى: (الغفار، والغفور)، والغفور هذا تكرر في القرآن إحدى وتسعين مرة؛ فتارةً يقرن بالرحيم؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وتارةً يقرن بالودود؛ قال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، وتارةً يقرن بالعفو.

وكلمة (الغفر) في لغة العرب معناها: الستر، تقول العرب: اصبغ ثوبك بالسواد، فهو أغفر لوسخه، أي: أستر؛ فالإنسان إذا كان ثوبه أبيض ظهر فيه الوسخ، أما إذا سبغه بالسواد فإنه قد يلبسه أسبوعاً دون أن يعرف ما به من الوسخ، ومنه يقال لغطاء الرأس: المغفر؛ فقد ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر )، فمادة الغين والفاء والراء تدل على الستر، وهناك العفو، قلنا: مادة العين والفاء والواو تعني المحو؛ ولذلك في آخر سورة البقرة نقرأ قوله تعالى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة:286]؛ فقوله: (اعف) مأخوذ من العفو وهو المحو، أي: امح ذنوبنا، وقوله: (واغفر لنا) أي: استرنا ولا تفضحنا، وقوله: (وارحمنا)، أي نريد رحمتك بأن تدخلنا جنتك.

فالله عز وجل غفور وغفار؛ قال تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [نوح:10]؛ وقال سبحانه وتعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:66].

ومن آثار الإيمان بهذا الاسم أن الإنسان دائماً يقرع باب ربه جل جلاله ويطلب منه المغفرة والرحمة؛ ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغنا من التشهد أن نقول: ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم )؛ فدائماً عود نفسك أن تقول هذا الدعاء قبل السلام وبعد أن تستعيذ بالله من أربع وهي: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ).

وكثير من الناس يسأل عن فتنة المحيا ما هي؟ وفتنة المحيا هي ما ترون في هذه الدنيا، فالأموال فتنة، والأولاد فتنة، والأزواج فتنة، والجاه فتنة، والحرص على المنصب فتنة، والنسب فتنة، وغير ذلك مما جعله الله عز وجل فتنةً للعباد في المحيا وعند الممات نسأل الله العافية؛ فإذا لم يثبت الله العبد فقد يختم له بالسوء، وهذه هي فتنة الممات.

ومن فتنة الممات أيضاً ما يكون في القبر من سؤال الملكين اللذين سماهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتانين، والسيدة عائشة قالت: ( ماذا أصنع يا رسول الله وأنا المرأة الضعيفة؟ قال لها: ألم تقرئي: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ).

وأما فتنة المسيح الدجال فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أكبر من الدجال، وما من نبي إلا وأنذر قومه الدجال، وإني لأنذركموه إنه خارج فيكم فاعرفوه، ألا وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور )، يعني: عدو الله هذا لا يدعي بأنه نبي، ولا بأنه ولي؛ وإنما يدعي أنه رب العالمين، وهو في خلقته معيب؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام بأن ( عينه كأنها عنبة طافئة )، وفي رواية: ( طافية )، طافية أي: مطفية، وطافئة أي: ناتئة بارزة كما جاء في الحديث: ( كنخاعة في حائط مجصص )، نخاعة يعني: -أكرمكم الله- كإنسان خرج منه ما يسمى بالبلغم فقذف به على حائط مجصص، وهذه النخاعة تكون بارزة.

بعدما تستعيذ بالله من هذه الأربع تدعو الله بهذا الدعاء فتقول: ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً )، وهذا صحيح؛ أنك قد ظلمت نفسك -لا شك- فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين الخلق، ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت )، كما قال سبحانه: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:135]، ( فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم )، وهذا هو التوسل بأسماء الله عز وجل وصفاته سبحانه وتعالى.

الاسم السادس والخمسون من أسماء الله الحسنى: (الغني)؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]؛ وقال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، فالله عز وجل غني عن العباد بكل أنواع الغنى؛ فهو غنىً مطلق؛ فله ملك السموات والأرض، وله من في السموات ومن في الأرض، وله ما في السموات وما في الأرض، وهو يقول للشيء: كن فيكون.

ومن غناه: أنه لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية؛ قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً )، وكل ما في الكون مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى.

ومن آثار غناه جل جلاله: أنه يعطي من يشاء ما يشاء؛ كما جاء في الحديث القدسي: ( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر )، فإنه جل جلاله أعطانا؛ ولذلك لا حاجة بنا إلى الحسد فيما بيننا، فإذا وجدنا إنساناً أعطاه الله مالاً أو ذرية، أو آخر أعطاه الله علماً، أو ملكاً؛ فإننا نطلب من الغني جل جلاله الذي أعطاه أن يعطينا؛ فبدلاً من أن نحسده أو نزاحمه فيما عنده، نطلب من الغني جل جلاله الذي بيده مفاتيح كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض أن يعطينا.

الاسم السابع والخمسون من أسماء الله الحسنى (الفتاح)؛ قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26]، وهذا الاسم ورد في القرآن كثيراً؛ فقد ورد مجموعاً في قول الله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89].

والفتاح له معنيان:

المعنى الأول: الحاكم جل جلاله، قال: فتح أي: حكم، ومنه قول القائل: إني عن فتحاتكم لغني، فتحاتكم أي: حكمكم، ومنه دعاء النبي شعيب عليه السلام: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:89]، (افتح) أي: احكم، ومنه قول الله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ [الأنفال:19]، (تستفتحوا) يعني: تطلبوا الحكم من الله فقد جاءكم، وسبب نزول هذه الآية: أنه قبل أن تبدأ معركة بدر وقف عدو الله أبو جهل ودعا الله فقال: اللهم من كان أقطع للرحم، وآتانا بما لا نعرف، اللهم فأحنه الغداة؛ فالمسكين يدعو على نفسه دون أن يشعر؛ فالله عز وجل قال رداً على هذا: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ [الأنفال:19]؛ أي: أنت طلبت من الله أن يحكم فحكم جل جلاله، فهزم وغلب وأذل من كان أقطع للرحم، ومن أتى الناس بما لا يعرفون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الناس بالتوحيد، والتوحيد هو الفطرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة )، أما الذي أتى بعبادة الأصنام، وتحريم السائبة والوصيلة فهو الذي أتى الناس بما لا يعرفون، فالفتاح معناها الحاكم جل جلاله.

المعنى الثاني: الفتاح لأنه يفتح للعباد من رحمته ورزقه وفضله، ومنه قول الله عز وجل: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].

وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد أن يقول: ( بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك )؛ فهو سبحانه فتاح يفتح للناس أبواب رحمته وفضله.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.