شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه, سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أحمد الله الذي جمعنا في هذا المجلس المبارك, وأسأله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم.

وقد تقدم معنا الكلام في بيان معنى كلمة العقيدة, وأنها دالة على الشد والربط والإحكام والإبرام والتوثق والتمسك، وأنه يراد بها مجموعة من القضايا العلمية الغيبية, التي ينعقد عليها قلب المؤمن؛ فلا تقبل شكاً ولا ارتياباً, فقولنا: الله واحد. هذه هي عقيدة, وقولنا: محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. هذه عقيدة, وقولنا: القرآن كلام الله. هذه عقيدة, وقولنا: البعث حق لا ريب فيه. هذه عقيدة, فكل هذا الأمور استقرت في القلب لا تقبل شكاً ولا ارتياباً.

وعرفنا بأن الاعتقاد مقدم على العمل, فالاعتقاد أساس والعمل بناء, وبناء بغير أساس مهدوم؛ كما قال ربنا جل جلاله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23], وكما قال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[النور:39].

ومما سبق بيانه أن رسالة الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني رحمه الله قد جمعت بين الفقه الأكبر الذي هو المعتقد, وبين الفقه الأصغر الذي هو عمل الجوارح, وهذه الرسالة التي اشتملت على نحو من ثلاثة آلاف مسألة هي من الرسائل القليلة التي جمعت بين النوعين من الفقه, الفقه الأكبر أو فقه القلب أو الفقه الاعتقادي, وبين الفقه الأصغر أو الفقه العملي.

ومضت معنا ترجمة الإمام رحمه الله وبيان ما كان عليه من علم وفقه وسعة ودراية, وأن الناس قد رحلوا إليه من الآفاق لينهلوا من علمه, وأنه رحمه الله كان جامعاً بين العلم والعمل, وقد كتب الله لرسالته القبول حتى وضع عليها أكثر من خمسين شرحاً.

فبعدما عرفنا أهمية دراسة العقيدة ولماذا تدرس؟ وعرفنا أيضاً طرق التصنيف في العقيدة, فإننا نذكر هنا إن شاء الله بعض المسائل والتي تعتبر أشبه بالمقدمات الممهدات في دراسة العقيدة.

فأول هذه المسائل هي: ما هو الدليل على أهمية دراسة العقيدة؟ يعني: فيما مضى ذكرنا بأن العقيدة لا ندرسها من أجل أن نجادل بها, أو نماري بها, أو لكي نستطيل بها على الناس, ولا أن نتتبع عثراتهم وأخطاءهم لا, بل ندرسها من أجل أن نصلح بها قلوبنا أولاً, ومن أجل أن تستقيم أعمالنا ثانياً. ‏

اهتمام القرآن الكريم بالعقيدة الإسلامية

أولاً: نحن نهتم بالعقيدة وندرسها لاهتمام القرآن بها, فإنك لا تكاد تفتح سورة من القرآن إلا وتجد فيها حديثاً عن العقيدة, وعند دراستنا للتفسير ذكرنا بأن أجناس المعاني في القرآن ثلاثة وهي: إما عقيدة, وإما أحكام, وإما قصص, فالقرآن الكريم في سوره كلها يبدأ ويعيد في ذكر المعتقد الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن وينجو به.

أولوية العقيدة الإسلامية في دعوة الأنبياء والمرسلين

ثانياً: العقيدة هي الأساس في دعوة الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فقد قال الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36], وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء:25], وفي أول آية من سورة النحل قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ[النحل:1-2]، فإننا نلاحظ في البداية من قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ )), بأن أمر الله هو: القيامة, وهذه عقيدة, ثم من قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )), أن فيه: تنزيه لله جل جلاله, ونفي للشريك عنه, وتسفيه لما كان عليه أولئك المشركون من العقائد الباطلة؛ فهذه عقيدة، ثم يبين جل جلاله أن الأنبياء جميعاً كانوا مأمورين بأن ينذروا الناس بهذا التوحيد فقال: أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ[النحل:2].

مظاهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة الإسلامية

ثالثاً: كانت العقيدة محط اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويدل على ذلك عدة أمور:

أولاً: أنه عليه الصلاة والسلام مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى التوحيد فكان يقول لهم: ( أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا, قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم ), ولم ينزل في مكة من الأحكام إلا القليل كالصلاة مثلاً, ففي مكة اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير العقيدة, وبيان وجوب توحيد الله عز وجل, وذكر أدلة البعث والنشور, وأن بعد الموت قيامة وبعثاً وحساباً وجنة وناراً, فهذه هي العقيدة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: من مظاهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة: حرصه على تعليمها للصغار, وكلنا يحفظ حديث ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات, احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الغلام عن وجوب إفراد الله عز وجل بالعبادة واستحضار عظمة الله عز وجل في قلبه, ويحدثه أن الجزاء من جنس العمل, ويحدثه عن الإيمان بالقدر, وعن التوكل على الله عز وجل, واعتقاد أن النفع والضر منه سبحانه وتعالى, فهذا تعليم النبي عليه الصلاة والسلام للصغار.

ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أصحابه يأمرهم بأن يبدءوا بالعقيدة؛ ففي حديث معاذ حين أرسله إلى اليمن قال له: ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله -يعني: أن يبدأ بالعقيدة أولاً- فإن هم أجابوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة, فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم, وإياك وكرائم أموالهم, واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).

فالقرآن الكريم اهتم بالعقيدة, والعقيدة هي الأساس في دعوة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وبها ابتدءوا؛ فإننا نقرأ في القرآن بأن نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيب وغيرهم من الأنبياء أن الواحد منهم كان يبدأ فيقول: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف:65].

أولاً: نحن نهتم بالعقيدة وندرسها لاهتمام القرآن بها, فإنك لا تكاد تفتح سورة من القرآن إلا وتجد فيها حديثاً عن العقيدة, وعند دراستنا للتفسير ذكرنا بأن أجناس المعاني في القرآن ثلاثة وهي: إما عقيدة, وإما أحكام, وإما قصص, فالقرآن الكريم في سوره كلها يبدأ ويعيد في ذكر المعتقد الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن وينجو به.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [21] 2670 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [19] 2498 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [8] 2489 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [10] 2359 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [12] 2278 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [23] 2246 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1] 2210 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [2] 2117 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [16] 2022 استماع
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [20] 1798 استماع