خطب ومحاضرات
كشف الكربة عند فقد الأحبة
الحلقة مفرغة
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحد الأحد، ذي العزة والستر، لا نِدَّ له فيُبارى، ولا شريك له فيدارى.
كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقَوْا وعقبى الكافرين النار.
قدَّر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً.
جعل للمحسنين الدرجات، وللمسيئين الدَّركات؛ فحمداً لك اللهم مفرج الهموم، ومُنفِّس الكروب، ومُبدِّد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجاً، لم يخلِّ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعَطِيَّة.
نحمده على حلوِ القضاء ومُرِّه، ونعوذ به من سطواته ومكره، ونشكره على ما أنفذ من أمره، وعلى كل حالٍ نحمده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عدة الصابرين، وسلوان المصابين، الكريم، الشكور، الرحيم، الغفور، المُنزَّه عن أن يظلم أو يجور، الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخِيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أعرف الخلق به، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكرهم على نعمه.
أعلاهم عند الله منزلة، وأعظمهم عند الله جاهاً، بعثه للإيمان منادياً، وفي مرضاته ساعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً.
بلَّغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وتحمل ما لم يتحمله بشر سواه، وقام لله بالصبر حتى بلَّغه رضاه.
دعانا إلى الجنة، وأرشدنا إلى اتباع السنة، وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً، من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً، وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
لا أملك أمام ما سمعت إلا أن أقول: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
أما بعد:
فإن الله تعالى جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان؛ فلا مَفرَّ لأحد من الموت ولا أمان: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] ساوى فيه بين العبد والحر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11].
فالكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر، والمؤمن من تيقَّن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.
أيها الأحبة: كُرُب الزمان وفقد الأحبة عموماً مع أخصية الأبناء والأحفاد والآباء خَطْب مؤلم، وحدث موجع، وأمر مهول مزعج؛ بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان.
نار تستعر، وحرقة تضطرم، تحترق به الكبد، ويفت به العضد؛ إذ هو الريحانة للفؤاد، والزينة بين العباد، لكن مع هذا نقول:
فلرُبَّ أمر محزن لك في عواقبه الرضا |
ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا |
كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه! كم من خير منشور، وشر مستور! ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب! وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216].
لا تكره المكروه عند حلوله إن العواقب لم تزل متباينه |
كم نعمة لا يُستهان بشكرها لله في طي المكاره كامنه |
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور، ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها -وإن حسنت صورتها- خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟!
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار |
إنها على ذا وضعت، لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس؛ اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان:
والمرء رهن مصائب ما تنقضي حتى يوسد جسمه في رَمسِه |
فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه |
هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة دقَّت أو جلَّت حتى في قطع شسع نعله؟ الجواب معلوم: لا. وألف لا، ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، كما ورد عن أحد السلف:
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه |
سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويُسْر وعسر ثم سقم وعافية |
أحببت أن أجمع هذه الكلمات اللطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة، عَنْوَنْتُها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو: كشف الكربة عند فقد الأحبة راجياً من الملك الديَّان أن ينفعني بها وسائر الإخوان، وأن يجعلها تذكرة لأولي الألباب، وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب، تشرح صدره، وتجلب صبره، وتهون خطبه، وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره.
والله تعالى هو المسئول أن يجعل لي ولها القبول، لا رب غيره، ولا إله سواه، هو المأمول، وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات، وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي، وألاَّ يحرمني ثواب هذه الكلمات؛ فالمُصاب -حقاً- من حُرِم الثواب، نفع الله بها وأثاب، إنه الكريم الوهاب.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.
من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة
فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب. قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.
ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل.
هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟
إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة!
فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟
إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس فيما هنالك |
ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان.
يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها } قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟- قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]].
صلى عليه الله جل جلاله ما لاح نور في البروق اللُّمَّع |
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}.
وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}. وفي سنن الترمذي : {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].
وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله. فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب!
وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام.
وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه. فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}.
أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف : فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق ! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء. قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي. قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء. قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}. يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج اللهُ |
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ |
الله يحدث بعد الكرب ميسرةً لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ |
إذا بُليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ |
واللهِ مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ |
من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم
وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة : {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}. إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟
ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى. فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة : {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}.
ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد.
ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟!
إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}. وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين. فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟!
إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم.
يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد كلا ما إليه سبيل |
هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم.
نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن.
أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ |
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد |
أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدِ؟ |
من لم يُصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست عنه بأوحدِ |
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد |
صلى الله عليه وسلم.
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعُوَّد |
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المُصاب؛ فها هي إحدى المكروبات المصابات تقول -عند مصيبتها بأحد أبنائها-: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
فما أبرم الله لم ينتقض وما نقض الله لم يبرم |
ومات ولد لـأنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: [[الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله]] ولسان حاله: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: [[إنك امرؤ لا يبقى لك ولد. فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وتموت ابنة لـعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: [[الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله]] ثم ركب، ومضى في رعاية الله.
والله يفعل ما يشاء فَكِلِ الأمور إلى القضاء |
ومات لـعبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر -كما تعلمون- مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم.
يمضى الصغير إذا انقضت أيامه إثر الكبير ويولد المولود |
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد |
وفي سلوة الحزين: يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ! إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيّاً عمَّا في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرمِلون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون. اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكريم فإن ذلك أسلم |
وإذا ابُتليت بكربة فالْبسْ لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم |
لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم |
ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعد ما دفنه قائلاً: كل ذلك في كتاب، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه. اللهم فحقِّقْ رجائي فيه، وآمِنْ خوفي عليه. حاله:
أبكيه ثم أقول معتذرا له وُفِّقْتَ حين تركت أَلأَمَ دارِ |
جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه شتان بين جواره وجوارِي |
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحارِ |
دُرَّتْ عليك من الغمام مراضع وتكنَّفتْك من النجوم جَوارِي |
فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلِّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار.
ما قد قُضى يا نفسي فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدر |
ثم اعلمي أن المقدَّر كائن حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري |
من وسائل كشف الكربة: الاستعانة بالله على الكربة
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: {ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى. قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال صلى الله عليه وسلم: عجبت للمؤمن إن الله عز وجل لا يقضي قضاءً إلا كان خيراً له}.
فليعلم المكروب أن حظَّه من المصيبة ما يحدث له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
من رضى بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله. فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.
جعلنا الله وإياكم من الراضين بقضاء الله وقدره.
مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: التأمل والتملي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما ما تقرُّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن له -تبعاً لذلك- الجوارح مما منحه الله ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل؛ فلو قارن المكروب بين ما أٌخذ منه وما أعطي لاشك أنه سيجد أن ما أُعطيَ من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجلَّ، وكل ذلك عنده بحكمة، وكل شيء عنده بمقدار.
فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب. قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.
ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل.
هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟
إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة!
فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟
إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس فيما هنالك |
ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان.
يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها } قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟- قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]].
صلى عليه الله جل جلاله ما لاح نور في البروق اللُّمَّع |
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}.
وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}. وفي سنن الترمذي : {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].
وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله. فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب!
وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام.
وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه. فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}.
أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف : فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق ! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء. قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي. قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء. قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}. يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج اللهُ |
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ |
الله يحدث بعد الكرب ميسرةً لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ |
إذا بُليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ |
واللهِ مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ |
ومن وسائل كشف الكربة: تذكُّر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء.
وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة : {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}. إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟
ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى. فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة : {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}.
ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد.
ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟!
إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}. وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين. فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟!
إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم.
يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد كلا ما إليه سبيل |
هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم.
نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن.
أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ |
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد |
أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدِ؟ |
من لم يُصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست عنه بأوحدِ |
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد |
صلى الله عليه وسلم.
استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
صور وعبر | 2803 استماع |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا | 2674 استماع |
هلموا إلى القرآن | 2497 استماع |
الإكليل في حق الخليل | 2496 استماع |
أرعد وأبرق يا سخيف | 2410 استماع |
هكذا علمتني الحياة [2] | 2408 استماع |
أين المفر | 2328 استماع |
اسألوا التاريخ | 2276 استماع |
حقيقة الكلمة | 2243 استماع |
الأمر بالمعروف | 2202 استماع |