النعيم لا يدرك بالنعيم


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا يحصى له عدد     ولا يحيط به الأقلام والمدد

.....................     وأحمد الله منه العون والرشد

حمداً لربي كثيراً دائماً أبداً     في السر والجهر في الدارين مسترد

ملء السماوات والأرضين أجمعها     وملء ما شاء بعد الواحد الصمد

ثم الصلاة على خير الأنام رسول     الله أحمد مع صحبٍ به سعدوا

وأهل بيت النبي والآل قاطبةً     والتابعين الألى للدين هم عضدُ

والرسل أجمعهم والتابعين لهم     من دون أن يعدلوا عما إليه هدوا

أزكى صلاةٍ من التسليم دائمةً     ما أن لها أبداً حدٌ ولا أمد

والله أسأل منه رحمةً وهدى     فضلاً وما لي إلا الله مستند

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أيها المؤمنون! من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحياناً يعمل عمل الترياق:

ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر

ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد.

نعيم الأشواق بعد ذوق مُرَّ الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف:

ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض

ولم يجعل التبر حلي الفتاة      حتى أُهين وحتى كسر

لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.

والسيل حرب للمكان العالي

ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.

والمجد لا يشرى بقولٍ كـاذبِ     إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ

ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.

جهاد المؤمنين لهم حياةٌ     إلا إن الحياة هي الجهاد

لولا المشقة ساد الناس كلهم     الجود يفقر والإقدام قتال

قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] ويقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ويورد ابن القيم -رحمه الله- حول هذه المعاني كلاماً قيماً مضمونه: "إن الخيرات واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظٍ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسرٍ من التعب، وقد أدرك عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة، فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق والصعاب، تكون اللذة والفرح".

ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه     إلا وراء الهول من عبابه

من يعشق العلياء يلق عندها     ما لقي المحب من أحبابه

فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة.

وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب ونصب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، والله المستعان! وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله.

كذا المعالي إذا ما رمت تدركها     فاعبر إليها على جسرٍ من التعب

معاشر المؤمنين! النعيم لا يدرك بالنعيم.. هذا واقعٌ حيٌ مطَّبقٌ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، مُشاهدٌ في أتباعهم يوم جدوا في طريقهم إلى خلاقهم، فما عاقهم مكروهٌ ولا بأسٌ ولا شدةٌ عن بلوغ أهدافهم، بل وظفت هذه الشدة والمكروه والجوع والبأس لتهذيب أنفسهم وأخلاقهم، فإذا هم قلوبٌ تتصل بالله .. تتذكر الله وتخشاه، وتؤثره على كل مغريات الحياة، امتلأت نفوسهم بهممٍ وإيمانٍ وأماناتٍ وكفاءات من أخمص القدم إلى ذؤابة الرأس، تشابهت السبل فاتخذوا سبيل الله سبيلاً، وتفرق الناس فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه قبيلاً.

وقفوا على هام الزمان رجالا     يتوثبون تطلعاً ونضالا

وحي السماء يجيش في أعماقهم     ونداؤه من فوقه يتعالى

باعوا النفوس لربهم واستمسكوا     بكتابه واستقبلوا الأهوالا

اقتحمتهم الأعين أول ما خرجوا من الصحراء فاتحين، فلما اشتبكوا مع فارس والروم، جثا التاريخ يسجل ويروي ويقول:

قومٌ كرام السجايا أينما ذكروا     يبقى المكان على آثارهم عطرا

أخلاقهم عما يشين نقيةٌ     ونفوسهم عما يعيب مكفكفة

ما استعبدتهم شهوةٌ تدعو إلى     الصفراء والبيضاء لا والزخرفة

ليسوا بأسرى الأرغفة

ليسوا بأسرى الأرصدة

ليسوا بأسرى الأشربة

.. الأطعمة

.. الألبسة

قوم إذا جدَّ الوغى     كانوا ليوث الملحمة

ملأٌ لقد ملأ الإله صدورهم      نوراً فكانت بالضياء مزخرفة

جديرٌ بنا -معشر المسلمين- أن نقف على استعلائهم على شهواتهم ومكاره أنفسهم في سبيل مرضاة ربهم، علَّنا نقتبس قبساتٍ من ضوئهم، وومضات من شعاعهم، لتنهض همة مقعد، وتُشحذ عزيمة زمن؛ في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغُلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار، فحيهلاً بهم.. فقد صوت حاديهم: أن الله لا يزال يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، والنعيم لا يدرك بالنعيم.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم     أُسداً تخلف بعدها أشبالا

يقول سعد بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: [[كنا قبل الهجرة يصيبنا شظف العيش وشدته فلا نصبر عليه]] كانوا في رغدٍ من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فلم تألف ولم تعتد أجسادهم، ولم تتدرب على حياة الفقر والشدة وقد ألفت رغد العيش، أما قلوبهم ونفوسهم فلقوة إيمانهم كانت في غاية النعيم؛ حيث خولطت بشاشتها بالإيمان، فهم سادة الصابرين في الضراء، الشاكرين في السراء، كيف وهم يتلمحون ويرجون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ويؤمنون ..

بأن كريمات المعالي مشوبةٌ     بمستودعات في بطون الأساود

قال سعد : [[فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما]] اعتادت أجسادهم وانسجمت مع حياة الفقر والشدة وخشونة العيش، فأصبح القلب والجسد في ألفة لهذه الحياة، أيقنوا بالنقل أن الابتلاء مع الصبر والاحتساب كفارة للخطايا فـ(ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق:

صبراً على خوض المكاره أنفسٌ     لا تستكين وأعظم لا تضطرب

قال سعد : [[إلا مصعب بن عمير ، فقد كان أترف غلامٍ بـمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا، لم يقوَ على ذلك ]] ظل عدم الإلفة والانسجام واضحاً في حياة مصعب مكة لؤلؤة ندواتها ومجالسها، مالُ الأم بين يديه يتصرف به كيف شاء، حتى إذا ما أسلم لله واستسلم منع هذا كله.

يقول سعد : [[فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي، ثم نحمله على عواتقنا]].

والله معاشر المؤمنين ما كان من يريدهم على غير دينهم إلا كالقائل لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح، فهيهات لا براح، لاقى ما لاقى من أمه وقد كان فتاها المدلل، أفلت منها، وهاجر إلى الحبشة.

ارتدى المرقع البالي خشناً، وقد كانت ثيابه كزهور الحديقة نظرة وألقاً، خرج من النعمة الوارفة إلى شظف العيش والفاقة .. يأكل يوماً ويجوع أياماً، لكن روحه المتأنقة في سمو العقيدة، المتألقة بنور الله جعلت منه إنساناً يملأ العين إجلالاً.

قدوم مصعب بن عمير على النبي صلى الله عليه وسلم

قدم مكة ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبدأ أمه، فأرسلت إليه أمه تقول: أي لكع! أتدخل بلداً أنا فيه ولا تبدأ بي؟

فقال: ما كنت لا أبدأ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.

إيهٍ مصعب !!

إذا لم تجد في الشباب الإباء     ففضل عليهم ضعاف النساء

والله ما فكر مصعب يوماً أن يرجع عن إيمانه بعد إذ أنقذه الله من الكفر، علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن غمسةً في الجنة تنسي كل بؤسٍ وشدةٍ وشقاء، وموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فهان عليه ما يلقى، كيف وهو يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأن المرء يبتلى على قدر دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.

تأثر الصحابة من حياة مصعب بن عمير

كان الصحابة يتأثرون لمرأى مصعب -رضي الله عن مصعب - ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو الذي يعزُّ عليه عنت أصحابه ومشقتهم، إذا رآه تأثر وربما دمعت عينه صلوات الله وسلامه عليه، كيف وقد صار صاحب الحلل لا يلبس إلا فرواً مرقعاً بجلد، وقد تطاير جلده وتشقق، وتغيرت هيئته، فسبحان من أيده وبصره، وقواه ونصره!

وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه في المتفق عليه: {والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالباً لا تكون مع حياة الترف والسرف، لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاء، وقلَّ من يشكر عند الرخاء..!

قدم مكة ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبدأ أمه، فأرسلت إليه أمه تقول: أي لكع! أتدخل بلداً أنا فيه ولا تبدأ بي؟

فقال: ما كنت لا أبدأ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.

إيهٍ مصعب !!

إذا لم تجد في الشباب الإباء     ففضل عليهم ضعاف النساء

والله ما فكر مصعب يوماً أن يرجع عن إيمانه بعد إذ أنقذه الله من الكفر، علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن غمسةً في الجنة تنسي كل بؤسٍ وشدةٍ وشقاء، وموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فهان عليه ما يلقى، كيف وهو يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأن المرء يبتلى على قدر دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.

كان الصحابة يتأثرون لمرأى مصعب -رضي الله عن مصعب - ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو الذي يعزُّ عليه عنت أصحابه ومشقتهم، إذا رآه تأثر وربما دمعت عينه صلوات الله وسلامه عليه، كيف وقد صار صاحب الحلل لا يلبس إلا فرواً مرقعاً بجلد، وقد تطاير جلده وتشقق، وتغيرت هيئته، فسبحان من أيده وبصره، وقواه ونصره!

وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه في المتفق عليه: {والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالباً لا تكون مع حياة الترف والسرف، لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاء، وقلَّ من يشكر عند الرخاء..!

أيها المؤمنون! إن من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة الترف، وما أدراك ما الترف؟ داءٌ عضال، ومقتٌ ووبال، يقتل النخوة، ويقضي على البطولة، ويخمد الغيرة، ويفرز الوهن، ويكبت المروءة، ويضعف الهمة، ويفرز غثاءً متصكعاً يعيش بلا عقل ولا علم ولا تفكير، في تأنثٍ لم يبق معه إلا أن تلحق بصاحبه تاء التأنيث أو نون النسوة!

ضجعة.. يغط في النوم ما يغط، حتى إذا ما أفاق على صيحة لم يزل يرددها ترديد الببغاء..

لو اطلع الغراب على رؤاهم     وما فيها من السوءات شابا

استنوق وخضع وتأنث!

وما عجبي أن النساء ترجلت     ولكن تأنيث الرجال عجاب

همه ما يأكله، وقيمته ما يخرجه .. يذكر اليوم وينسى الغد، أشباحٌ بلا أرواح، جسومٌ بلا رءوس، والسبب الترف بغير هدف.

نوم الغداة وشرب بالعشيات     موكلان بتهديم المروءات

يستغيث المستضعفون والمحرومون في الأرض، فلا يُهب لنصرتهم، ومن أعظم الموانع الترف.

حقوق الله تنتهك، وحدوده تتجاوز، وأوامره تضيع، ويطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم قصصاً وروايات ونظماً ونثراً، ثم لا يهب لإنكار المنكر، ومن أعظم الأسباب الترف.

يركن إلى الظلمة، والداعي هو الترف..

يحارب الله -جلَّ وعلا- بالربا، والداعي هو الترف..

تثقل الكواهل بالديون، والداعي هو الترف..

يؤكل بالدين، والداعي هو الترف..

يجلس الواحد ريان شبعان متكئاً على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه، أو كلف بمهمة، أو عوتب في استغراقه في لهو؛ اندفع كالسهم مردداً: (يا حنظلة ساعة وساعة) وكأنه لا يحفظ من القرآن والسنة الصحيحة غيره.. والسبب الترف.

سقطت فئةٌ من شباب الأمة في أوحال المسكرات والمخدرات.. وعلى رأس الأسباب الترف.

امتلأت البيوت بالخدم والسائقين .. والداعي هو الترف.

ترفٌ شائع، وحقٌ ضائع، والسبب الترف، قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].

أما إن الاستقامة التامة لا تكون بالترف، وإنما بالقصد القصد: ( والله ما الفقر أخشى عليكم ) ذاك قول المصطفى نبيكم صلى الله عليه وسلم.

يقول سعد رضي الله عنه: [[ولقد رأيتني مرةً قمت أبول من الليل، فسمعت تحت بولي شيئاً يجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها وغسلتها حتى أنعمتها، ثم أحرقتها بالنار ورضضتها، فشققت منها ثلاث شقائق، فاقتويت بها ثلاثاً]] ثم لم يكن إلى الرضا والتسليم والصبر الجميل!

مصابرٌ حيث تجيش الأنفس     عرضٌ نقيٌ وأديم أشوس

والنعيم لا يدرك بالنعيم.

هاهو علي -رضي الله عنه- صبحٌ لا يحجب فلقه، أسلم وهو ابن تسع أو عشر، فأنعم به من فتى لا يجارى خلقه! حياةٌ لم تكن لها صبوةٌ ولا شهوةٌ ولا هفوة .. لهو الأطفال لم يكن له فيه حظٌ ولا نصيب .. تبعات الرجال فوق كاهله .. في نور الآيات قضى طفولته .. أخذ بنصيبٍ وافرٍ من التعب والنصب والشدة، فقام بأعبائه، وذلك كله ما رده ولا صده، وقع فيه أهل الأهواء رضي الله عنه حتى كفره بعضهم، واضطر ربيب بيت النبوة إلى أن يقول -فيما روي عنه- متحدثاً بنعمة الله عز وجل عليه:

محمد النبي أخي وصهري     و حمزة سيد الشهداء عمي

و جعفر ذاك من يمسي ويضحي     يطير مع الملائكة ابن أمي

بنت محمدٍ سكني وزوجي     منوطٌ لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمدٍ ولداي منها     فأيكمُ له سهم كسهمي؟

يقول: [[والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ قلت: اغرب عني]].

عند الصباح يحمد القوم السرى     وتنجلي عنهم غيابات الكرى

علي والكسب المشروع

يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه مجاهد رحمه الله: [[جعت مرةً بـالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة]] كان بإمكانه وإخوته -رضي الله عنهم- لو أرادوا نعيم الدنيا أن يبقوا في مكة التي هاجروا منها بدينهم؛ أيسر حالاً، وأهنأ بالاً في عرف عامة الناس، ولكنهم بما حملوه من الوحي جعلوا السعادة كل السعادة في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والتضحية بكل ما لديهم من طاقةٍ في سبيل الله، وإن ألجأهم ذلك إلى أقسى الظروف المعيشية.

جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله.. مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم.

يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3].

يقول علي رضي الله عنه: [[ وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك.

تأمل شمسهم ومدى ضحاها     تجد في كل ناحية شعاعا

إذا أسد الشرى شبعت فعفت     رأيت شبابهم عفوا جياعا

علي وزوجه فاطمة في مواجهة شظف العيش

وهاهي زوجه فاطمة -رضي الله عنها- ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الإمام البخاري : أنها شكت ما تلقى من أثر الرحى، فقد جرت بها حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى أثرت في هيئتها، اشتكت يوم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسبي؛ علها تعطى منهم من يخدمها، بلا هلعٍ ولا طمعٍ ولا جزعٍ ولا جشع، عجباً لأمرها بل لأمر المؤمن! {إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا له} إنها ابنت المجد!

المجد يشرق من ثلاث مطالع     في مهد فاطمةٍ فما أعلاها

هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟     من ذا يداني في الفخار أباها

أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ     حادي النفوس إذا تروم هداها

و علي زوجٌ لا تسل عنه فما     أزكى شمائله وما أنداها

دايونه كوخٌ وكنز ثرائه     سيفٌ غدا بيمينه تياها

انطلقت رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بما أرادت، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجيء فاطمة وبطلبها، فجاء في بعض الروايات أنه قال: {لا والذي نفسي بيده ما دام في الصفة فقير} لا يحابي أقاربه صلوات الله وسلامه عليه حتى ولو كانت ريحانته، على حساب من هم أشد حاجةً وفقراً ممن لا مال له ولا أهل، حاشاه صلوات الله وسلامه عليه..

تقول فاطمة : {فجاء إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما! فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتماني؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما؛ فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} فما تركاها بعد رضي الله عنهما وأرضاهما.

معشر المسلمين! إن القلوب إذا عمرت بذكر الله، هانت عليها المصائب، وسمت في أفكارها المطالب، وأصبح أصحابها يستعذبون الشدائد في سبيل الله، ويرون أنها أبواب خير لرفع رصيدهم من الحسنات، وخفض رصيدهم من السيئات كما يقول صاحب التاريخ الإسلامي مواقف وعبر .

يا لله! عليٌّ يؤجر نفسه لامرأة على تمرات، وفاطمة تطحن بالرحى وهي من سيدات الأمهات، إنه شظف العيش في هذه الأسرة الكريمة، يصحبه الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وما ضرهم يزول ويزولون:

قد تجوع الأسد في آجامها          والذئاب الغبس تعتام القتب

والنعيم لا يدرك بالنعيم.

فليفهم يا أبناء الجيل! ويا فتاة الإسلام! هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرعٌ طاب أصله، وزكى غرسه

هي أسوة للأمهات وقدوةٌ     يترسم الركب المنير خطاها

جعلت من الصبر الجميل غذائها     ورأت رضا الزوج الكريم رضاها

فمها يرتل آي ربك بينما     يدها تدير على الشعير رحاها

بلت وسادتها لآلئ دمعها     من طول خشيتها ومن تقواها

في روض فاطمةٍ نما غصنان لم     ينجبهما في الكائنات سواها

فأين من كانت الزهراء أسوتها     ممن تقفت خطى حمالة الحطب ؟

هل يستوي من رسول الله قائده     دوماً وآخر هاديه أبو لهب ؟

كلا، يا بنت الإسلام!

فلتحذري من دعاة لا ضمير لهم     من كل مستغربٍ في فكره خرب

أسموا دعارتهم حريةً كذباً     باعوا الخلاعة باسم الفن والطرب

هم الذئاب وأنت الطعم فاحترسي     من كل مفترسٍ للعرض مستلب

أختاه! لست بنبتٍ لا جذور له     ولست مقطوعةً مجهولة النسب

أنت ابنة الطهر والإسلام عشت به     في حضن أطهر أمٍ من أعز أب

يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه مجاهد رحمه الله: [[جعت مرةً بـالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة]] كان بإمكانه وإخوته -رضي الله عنهم- لو أرادوا نعيم الدنيا أن يبقوا في مكة التي هاجروا منها بدينهم؛ أيسر حالاً، وأهنأ بالاً في عرف عامة الناس، ولكنهم بما حملوه من الوحي جعلوا السعادة كل السعادة في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والتضحية بكل ما لديهم من طاقةٍ في سبيل الله، وإن ألجأهم ذلك إلى أقسى الظروف المعيشية.

جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله.. مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم.

يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3].

يقول علي رضي الله عنه: [[ وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك.

تأمل شمسهم ومدى ضحاها     تجد في كل ناحية شعاعا

إذا أسد الشرى شبعت فعفت     رأيت شبابهم عفوا جياعا

وهاهي زوجه فاطمة -رضي الله عنها- ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الإمام البخاري : أنها شكت ما تلقى من أثر الرحى، فقد جرت بها حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى أثرت في هيئتها، اشتكت يوم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسبي؛ علها تعطى منهم من يخدمها، بلا هلعٍ ولا طمعٍ ولا جزعٍ ولا جشع، عجباً لأمرها بل لأمر المؤمن! {إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا له} إنها ابنت المجد!

المجد يشرق من ثلاث مطالع     في مهد فاطمةٍ فما أعلاها

هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟     من ذا يداني في الفخار أباها

أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ     حادي النفوس إذا تروم هداها

و علي زوجٌ لا تسل عنه فما     أزكى شمائله وما أنداها

دايونه كوخٌ وكنز ثرائه     سيفٌ غدا بيمينه تياها

انطلقت رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بما أرادت، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجيء فاطمة وبطلبها، فجاء في بعض الروايات أنه قال: {لا والذي نفسي بيده ما دام في الصفة فقير} لا يحابي أقاربه صلوات الله وسلامه عليه حتى ولو كانت ريحانته، على حساب من هم أشد حاجةً وفقراً ممن لا مال له ولا أهل، حاشاه صلوات الله وسلامه عليه..

تقول فاطمة : {فجاء إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما! فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتماني؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما؛ فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} فما تركاها بعد رضي الله عنهما وأرضاهما.

معشر المسلمين! إن القلوب إذا عمرت بذكر الله، هانت عليها المصائب، وسمت في أفكارها المطالب، وأصبح أصحابها يستعذبون الشدائد في سبيل الله، ويرون أنها أبواب خير لرفع رصيدهم من الحسنات، وخفض رصيدهم من السيئات كما يقول صاحب التاريخ الإسلامي مواقف وعبر .

يا لله! عليٌّ يؤجر نفسه لامرأة على تمرات، وفاطمة تطحن بالرحى وهي من سيدات الأمهات، إنه شظف العيش في هذه الأسرة الكريمة، يصحبه الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وما ضرهم يزول ويزولون:

قد تجوع الأسد في آجامها          والذئاب الغبس تعتام القتب

والنعيم لا يدرك بالنعيم.

فليفهم يا أبناء الجيل! ويا فتاة الإسلام! هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرعٌ طاب أصله، وزكى غرسه

هي أسوة للأمهات وقدوةٌ     يترسم الركب المنير خطاها

جعلت من الصبر الجميل غذائها     ورأت رضا الزوج الكريم رضاها

فمها يرتل آي ربك بينما     يدها تدير على الشعير رحاها

بلت وسادتها لآلئ دمعها     من طول خشيتها ومن تقواها

في روض فاطمةٍ نما غصنان لم     ينجبهما في الكائنات سواها

فأين من كانت الزهراء أسوتها     ممن تقفت خطى حمالة الحطب ؟

هل يستوي من رسول الله قائده     دوماً وآخر هاديه أبو لهب ؟

كلا، يا بنت الإسلام!

فلتحذري من دعاة لا ضمير لهم     من كل مستغربٍ في فكره خرب

أسموا دعارتهم حريةً كذباً     باعوا الخلاعة باسم الفن والطرب

هم الذئاب وأنت الطعم فاحترسي     من كل مفترسٍ للعرض مستلب

أختاه! لست بنبتٍ لا جذور له     ولست مقطوعةً مجهولة النسب

أنت ابنة الطهر والإسلام عشت به     في حضن أطهر أمٍ من أعز أب

معشر المؤمنين! هذا هو الأسوة والقدوة.. النبي المربي صلوات الله وسلامه عليه، والسبيل سبيله، والسنة سنته، لم تكن الدنيا يوماً مقصده وغايته، إنما هي بلغة ووسيلة:

يروح إذا راح في المعسرين     وإن أيسر الناس لم يوسر

أما والله ما كان يغدى عليه بالجفان ولا يراح، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، بل يجلس على الأرض، ويوضع طعامه على الأرض .. يلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده..

يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه بيده، أعرض عن الدنيا بقلبه، أمات ذكرها من نفسه، لم يتخذ منها رياشاً، لم يعتقدها قراراً، لم يرج بها مقاماً، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه صلوات الله وسلامه عليه.

بيوت النبي صلى الله عليه وسلم

كانت بيوته في غاية البساطة، رغم اشتهار المدينة بالحصون العالية، وتباهي أهلها بها في السلم. وتفاخرهم في الحرب، كان باستطاعته صلوات الله وسلامه عليه أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة مما أفاء الله عليه، ولكنه صلى الله عليه وسلم جمع همه لعمل الآخرة، فكانت أبياته تسعة .. بعضها من جريدٍ مطينٍ بالطين.. وسقفها من جريد، وبعضها من حجارةٍ مرضومة بعضها فوق بعض مسقفة بالجريد، ينال الغلام المراهق سقوفها بيده..

والله الذي لا إله إلا هو للإيمان فيها كالجبال؛ فيها، وفي جنباتها، وفي نواحيها:

بنى لنا العز مرفوعاً دعائمه     و شيد المجد مشتداً مرائره

فما فضائلنا إلا فضائله     ولا مفاخرنا إلا مفاخره

ولما أمر الوليد بن عبد الملك بهدم تلك الحجر لإضافتها إلى المسجد النبوي ما رئي يومٌ كان أكثر باكياً من ذلك اليوم، يقول ابن المسيب رحمه الله: "والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر وقد ألهاهم التكاثر".

ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: [[يا ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده!]].

ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما ثبت عند أبي داود وصححه الألباني رحمهم الله: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي، فقال: ما هذا يا عبد الله ؟ قلت: يا رسول الله! شيء أصلحه، فقال: الأمر أسرع من ذلك، أو ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك}.

نَفَس من الأنفاس هذا العيش إن     قسناه بالعيش الطويل الثاني

طعامه عليه الصلاة والسلام

عرضت عليه صلوات الله وسلامه عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فلم يردها ولم يخترها، بل اختار التقلل منها، والصبر على شدة العيش بها، وقالها صريحة مدوية: {بل أجوع يوماً وأشبع يوماً}

لا يبتغي الدنيا ولا أحسابها     ولربه في كل أمرٍ قد رغب

عرضت عليه عروشها فأذلها     بإبائه وأبى الزعامة والذهب

وإذا أتاه المال جاد به كما     صبَّت حمولتها فأفرغت السحب

وروى البخاري في صحيحه رحمه الله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لـعروة : [[يا بن أختي! إن كنا لننتظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال عروة : أي أماه! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح وكانوا يهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسقينا]].

هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أيها السامعون!

بيت من الطين بالقرآن يعمره     وهو الإمام لأهل الفضل كلهم

طعامه التمر والخبز الشعير وما     عيناه تعدو إلى اللذات والنعم

وروى الترمذي بإسنادٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة ما لي ولـبلال طعامٍ يأكله ذو كبدٍ إلا شيء يواريه إبط بلال} يقول الترمذي رحمه الله: "ذاك حين خرج النبي صلى الله عليه سلم هارباً من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمل تحت إبطه " ليرفع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وترفع درجته، ويكون قدوةً لكل مصابٍ بضرٍ وبلوى صلى الله عليه وسلم.

لن تهتدي أمة في غير منهجه     مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم

وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراشٍ حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قلت: فلانة الأنصارية؛ دخلت عليَّ فرأت فراشك فبعثت إليَّ بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه، قالت عائشة : فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه.. رديه! والذي لا إله إلا هو لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة، اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى فارق الدنيا]].

ويقول أنس رضي الله عنه: [[ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرقعاً أو مرققا، ولا شاةً سميطاً مشويةً قط حتى لحق بربه، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير؛ يبيت الليالي المتتابعات وأهله لا يجدون عشاء]].

باعوا الذي يفني من الخزف الـ     خسيس بدائمٍ من خالص العقيان

تقول عائشة رضي الله عنها: [[والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبض، يقول عروة رحمه الله: فكيف كنتم تأكلون الشعير أي أماه؟! قالت: كنا نقول: أف، أي: ننفخه فيطير ما طار من نخالته ونعجن الباقي]] وهم خير القاصي والداني، ولا ضير:

الجوع يطرد بالرغيف اليابـس     فعلام تكثر حسرتي ووساوسي

وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: {لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى من شدة الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه}.

يبيت والجوع يلقى فيه بغيته     إن بات أعداؤه بطنى من التخم

ما أمسى عند آل محمدٍ صاع بر، ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة في تسع أبيات.

أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو الجهد والجوع كما في البخاري ، فبعث إلى نسائه جميعاً، فقلن: {والله ما معنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله} خرج وهو لا يعلم هل يجد لضيفه طعاماً في بيته أو لا يجد؛ كان يرجو رضا الله ورسوله وثواب الآخرة .. قطع الطريق مع ضيفه في فرحٍ وسرور .. قرع الباب، وسلم على أهل الدار، وقال في صوت المبشر لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، فقالت: مرحباً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ أكرم أضيافاً منا! والله الذي لا إله إلا هو ما معنا إلا عشاء الصبية، فاحتال الكريم -والكريم له حيل ولطائف- وقال: "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك" إذا أرادوا العشاء، يجوع البيت كله، ويطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا عليهم لو جاعوا ليلةً وآثروا بطعامهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فكل سعيٍ سيجزي الله ساعيَه     هيهات يذهب سعي المحسنين هبا

هيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، وقدمت طعامها، ثم قامت كأنها تصلح السراج فأطفئته، انطفأ السراج، وبدأ الضيف يأكل في الظلام، يمد صاحب البيت يده إلى الصحفة ويرفعها وهو لا يتناول شيئاً.. لا يشك الضيف أنهما يأكلان .. أكل الضيف مطمئناً، وشبع وظن أن صاحب البيت شبع أيضاً، لكنه لم يرفع لقمة إلى فيه، وكان الظلام عوناً له على ذلك.

قام الضيف وغسل يده، وحمد الله، ودعا لمضيفه، وقام صاحب البيت فغسل يده ليريه أنه كان يأكل معه، بات الضيف شبعان ريان، وبات البيت كله طاوياً مسروراً شاكراً؛ لقيامه بما يجب نحو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الليل عسعس، والصبح قد تنفس، وغدا صاحب البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ذاوياً، مسروراً شاكراً، وظن أن قصة الليل سرٌ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ثم هو مع زوجته، لكن الذي يعلم السر وأخفى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحى من خبر تلك الليلة، فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: {لقد ضحك الله الليلة من صنيعكما، أو عجب من فعالكما، وأنزل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]}.

معاشر المؤمنين! حينما يؤمن الإنسان إيماناً حقاً، فإن جواذب الإيمان ترفعه من الالتفات إلى الدنيا على أنها مقصدٌ وغاية، وتقصره على اعتبار أنها بلغةٌ ووسيلة كما هو حال رسوله.

فما يسبح الإنسان في لج غمرةٍ     من العز إلا بعد خوض الشدائد

ويا بن الإسلام!

فما أحذو لك الأمثال إلا     لتحذو إن حذوت على مثال

تريد التمر دون غراس نخلٍ          ولا حتى لجذع النخل هزا

إذا رمت العلا من غير بذلٍ     فنم واحلم وكل لحماً وأرزا

إذا لم تكسبك التقوى ستعرى     وإن حلوك ديباجاً وخزا

يدخل عمر رضي الله عنه -كما هو في الصحيح- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عليَّةٍ قد اعتزل نساءه، مضطجعا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، متكئاً على وسادة من جلدٍ حشوها ليف، فلما رآه عمر لم يملك نفسه، وجثا، وهملت عيناه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {صفوة الله من خلقه وخيرته أنت فيما أرى، وفارس والروم يعبثان بالدنيا وهم لا يعبدون الله، ادع الله فليوسع على أمتك يا رسول الله! فاحمرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب ؟ أو في هذا أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله يا عمر ، قلت: الحمد لله}.

هون عليك ولا تولع بإشفـاق     فإنما مالنا للوارث الباقي

حتى نلاقي ما كل امرئ لاقي

كابد الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه، وجبيت له الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً ولا ديناراً، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة.

وراودته الجبال الشم من ذهبٍ     عن نفسه فأراها أيما شمم