القرآن الكريم هو المصدر الأول للسيرة (4)
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
القرآن الكريم هو المصدر الأول للسيرة (4)مصادر السيرة - القسم السادس
وقد ذكَر كتابُ الله آياتٍ كثيرةً في موضوع الجهاد، وفي جهاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيِّد المجاهدين، وذكَر القرآن عددًا من غزواته.
ومن المفيد أنْ أنقل إلى القرَّاء الكرام الفصلَ الذي كتَبَه الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في "زاد المعاد"[1] قال:
"أوَّل ما أوحى إليه ربُّه - تبارك وتعالى - أنْ يقرأ باسمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 2] فنبَّأه بقوله: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، وأرسله بـ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1].
ثم أمَرَه أنْ يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِين، ثم أنذَر قومَه، ثم أنذرَ مَن حَوْلَهُم مِن العرب قاطبةً، ثم أنذَرَ العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوَّته يُنذِرُ بالدعوة بغير قِتال ولا جِزية، ويُؤمَر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح.
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذِنَ له في القتال، ثم أمَرَه أنْ يُقاتِلَ مَن قاتَلَه، ويَكُفَّ عمَّن اعتَزَله ولم يُقاتله، ثم أمَرَه بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله.
ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صُلح وهُدنة، وأهل حرب، وأهل ذمَّة، فأُمِر بأنْ يتمَّ لأهل العهد والصُّلح عهدَهم، وأن يُوفِي لهم به ما استَقامُوا على العهد، فإنْ خافَ منهم خِيانةً، نبَذَ إليهم عهدَهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أنْ يُقاتِل مَن نقَض عهده.
ولَمَّا نزَلتْ سورة "براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أنْ يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَة، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهَدَ الكفار بالسيفِ والسِّنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ والبَيان.
وأمره فيها بالبراءة من عُهُود الكفَّار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعَل أهلَ العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قِسم أمَرَه بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهدَه، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مُؤقَّت لم يَنقُضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمَرَه أنْ يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدَّتهم، وقسم لم يكن لهم عهدٌ ولم يُحارِبُوه، أو كان لهم عهدٌ مطلق، فأمر أنْ يُؤجِّلهم أربعة أشهر، فإذا انسَلخَتْ قاتلَهُم...
فقاتَل الناقضَ لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهدٌ مطلق أربعة أشهر، وأمَرَه أنْ يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدَّته، فأسلَمَ هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كُفرهم إلى مدَّتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية".
ثم قال ابن القيِّم:
"فاستقرَّ أمرُ الكفَّار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام: محارِبينَ، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلَتْ حالُ أهل العهد إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محارِبين، وأهل ذِمَّة، والمحاربون له خائفون منه"[2].
عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُمِرت أنْ أُقاتِل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقِيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك عصَمُوا مني دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله - تعالى))؛ رواه البخاري برقم 25، ومسلم برقم 32.
فهذا نصٌّ قاطعٌ على أنَّ الجهادَ شُرِع لتبليغ رسالة الله - جلَّ جلاله - لا لشيءٍ آخَر.
هذا، وقد وقَفتُ على كلامٍ في هذا الموضوع، كلام جيِّد للعلاَّمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز - رحمه الله - يحسن أنْ أورد مُقتَطفات منه، قال - رحمه الله -:
"...
ثم أنزَلَ الله بعد ذلك آية السيف في سورة براءة، وهي قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5].
قال العلماء - رحمة الله عليهم -: إنَّ هذه الآية ناسخةٌ لجميع الآيات التي فيها الصَّفحُ والكفُّ عن المشركين، والتي فيها الكف عن قتال مَن لم يُقاتِل، قالوا: فهذه آية السيف، هي آية القتال، آية الجهاد، آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله؛ حتى يَدخُلوا في دين الله، وحتى يَتُوبوا من شِركِهم ويُقِيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك فقد عصَمُوا دماءَهم وأموالهم إلاَّ بحقِّ الإسلام.
هذا هو المعروف في كلام أهل العلم من المفسِّرين وغير المفسِّرين، كلهم قالوا - فيما علمنا واطَّلعنا عليه من كلامهم -: إنَّ هذه الآية وما جاء في معناها ناسخةٌ لما مضى قبلَها من الآيات التي فيها الأمرُ بالعفو والصَّفح وقتال مَن قاتل والكف عمَّن كفَّ.
ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة براءة بعد ذلك: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
ومثلها قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]"[3].
وقال الشيخ ابن باز أيضًا:
"أَّما قول مَن قال بأنَّ القتال للدِّفاع فقط، فهذا القول ما علمتُه لأحدٍ من العُلَماء القُدامى، أنَّ الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدِّفاع فقط، وأنَّ الكفار لا يُبدَؤون بالقتال، وإنما يشرع للدِّفاع فقط!"[4].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عَبدِه ورسولِه محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] "زاد المعاد" 3/ 158 وما بعدها من الطبعة التي حقَّقها الأرناؤوطيانِ.
[2] "زاد المعاد" 3/ 160.
[3] "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" 3/ 188-189.
[4] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 3/ 196.