العدة شرح العمدة [71]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: المسابقة.

تجوز المسابقة بغير جعل في الأشياء كلها ].

الأصل في المسابقة الجواز، وقوله: (في الأشياء كلها)، يقصد الأشياء المباحة، أما السباق في الأشياء المحرمة فلا يجوز بجعل أو بغير جعل؛ لذلك قسم العلامة ابن عثيمين رحمه الله السباق إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: سباق لا يجوز بعوض ولا بغير عوض، يعني: لا يجوز بجعل ولا بغير جعل وهو السباق المحرم، كأن ندخل في سباق في لعب الكتشينة بجعل أو بغير جعل فهذا حرام؛ لأن أصل السباق حرام.

ثانياً: يجوز بعوض وغيره.

ثالثاً: يجوز بلا جعل ولا يجوز بجعل.

أي: أن الشارع الحكيم أجاز السباق، لكن بغير عوض، ومن هنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في ثلاث) والمقصود: لا سبق بجعل (إلا في ثلاث: حافر وخف ونصل) والمعنى: لا سبق بجعل إلا في هذه الأشياء الثلاثة، أما ما سواها فيجوز فيها السباق بغير جعل كأن يسابق الرجل زوجته، والنبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة ، فسبقها مرة وسبقته مرة عليه الصلاة والسلام.

والجعل: هو المقابل لا كما يفعل البعض في المقاهي العامة، يلعبون الطاولة، والمغلوب يحاسب على الغالب، فهذه المسابقة حرام بجعل، وحتى ولو كانت بغير جعل فهي حرام.

قال: [ الدواب والأقدام والسفن والمزاريق وغيرها ].

فهذه فيها مسابقة، ومعنى مسابقة الدواب: بعيري وبعيرك يتسابقان، وخروفي وخروفك يتسابقان، فكل ما يدب على الأرض من بهيمة الأنعام يجوز أن يتسابقا.

الأقدام: مسابقة المشي والجري يجوز أيضاً، لكن مسابقة الجري لم يرد في الحديث جعل لها، يعني: يتسابقان بغير جعل من أحد المتسابقين، وإذا كان الجعل من غير المتسابقين جاز، فإن قلت: أنت يا فلان! وأنت يا فلان! تسابقا جرياً، والسابق منكما له عندي جائزة، فالمتسابق لم يدخل في طرف؛ لأن الجائزة جاءت في طرف محايد، والسباق على الأقدام يجوز شريطة ألا يخالف الشرع، فنحن نرى البعض يلبس الشورت القصير جداً ويظهر الفخذ وهذا لا يجوز، أو مسابقة جري للنساء، فتجد المرأة عريانة وتجري! ويصرخون: العداءة المغربية! فهذه المسابقة في أصلها حلال، لكنها حرام لغيرها.

فصفة اللباس التي تلبسه جعلت السباق حراماً، والسباق على الأقدام لا بد أن يكون بغير جعل، إلا إذا كان الجعل من طرف محايد؛ لأن المنهي عنه هو المقامرة، وهو أن يكون أحدهما له مغرم ومغنم، وهذا لا يجوز.

قال: [ والسفن -فيها مسابقة- والمزاليق -فيها مسابقة- لما روى ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق) متفق عليه ].

يعني: النبي عليه الصلاة والسلام سابق بين خيول الصدقة من الحفياء إلى ثنية الوداع، والحفياء: مكان في المدينة، وثنية الوداع أيضاً: مكان في المدينة.

وأخرج البخاري هذا الحديث في باب: أن يقال: مسجد بني فلان، مسجد بني زريق، فإنه يجوز أن يحمل المسجد اسم حي أو اسم عائلة.

قال: [ وسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة على قدميه ].

يعني: سابق زوجته، فمرة سبقها ومرة سبقته.

قال: [ وسابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يربعون حجراً -أي: يرفعونه ليعلم الشديد منهم- فلم ينكر عليهم ].

فمسابقة رفع الأثقال جائزة، لكن بغير جعل من المتسابقين وبالزي الشرعي.

الأشياء التي يجوز المسابقة فيها بعوض

قال المصنف رحمه الله: [ ولا تجوز بعوض ].

أي: المسابقة لا تجوز بعوض -مقابل- إلا في ثلاث.

قال: [ ولا تجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) رواه أبو داود ].

يشير بالنصل إلى السهام، ويشير بالخف إلى الإبل، ويشير بالحافر إلى الخيل، إذاً: لا سبق بجعل إلا في هذه الثلاث: السهام والخيل والإبل، لكن هذه الثلاث ليست مقصودة لذاتها، وإنما باعتبارها أدوات حرب، فعلى ذلك يجوز السباق بين دبابتين، والسباق بين طائرة وطائرة بجعل يجوز، وبين بندقية وبندقية بجعل يجوز، أنت تمسك بندقية وأنا أمسك بندقية، فأينا يصيب الهدف له جعل.

إذاً: لا سبق بجعل -بمقابل- إلا في ثلاث: نصل وخف وحافر، والثلاثة ليست مقصودة لذاتها، إنما مقصودة باعتبارها أدوات حرب.

قال: [ فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما سبق من الأحاديث، والمراد بالحافر: الخيل خاصة، وبالخف: الإبل، وبالنصل: السهام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من اللهو ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله)؛ ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر ولا للفر في القتال، وغير السهام لا يعتاد الرمي بها؛ فلم تجز المسابقة بها كالبقر ].

يعني: علة هذه الأشياء الثلاثة هي الكر والفر بالنسبة للقتال، وعلى هذا قاس العلماء كل ما يشترك في الحرب وتستطيع أن تقاتل به العدو فإنه تجوز المسابقة فيه.

أحكام المسابقة بالجعل

قال: [ فإن كان الجعل من غير المستبقين جاز ].

يعني: الحالة الأولى أن يكون الجعل من غير المتسابقين جاز ذلك.

قال: [ وهو للسابق منهما؛ لأنه إخراج مال لمصلحة، فجاز أن يكون من غيرهما، كارتباط الخيل في سبيل الله عز وجل ويكون للسابق منهما؛ لأنه ليس بقمار، وإن كان العوض من أحدهما فسبق المخرج أو جاءا معاً أحرز سبقه ولا شيء له سواه ].

الحالة الثانية: أن يكون الجعل من أحد المتسابقين فقط والثاني لا يدفع، فهذا جائز؛ لأن الطرف الثاني لا غرم عليه فإن فاز الذي أخرج يأخذ ما أخرجه.

قال: [ أما إذا جاءا معاً فلا شيء لهما؛ لأنه لم يسبق واحد منهما، وإن سبق المخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من الآخر شيئاً؛ لأنه لو أخذ شيئاً كان قماراً، وإن سبق الآخر أحرز سبق صاحبه؛ لأنه ليس بقمار ].

القمار هو أن يكون المغرم والمغنم في الطرفين.

قال: [ وإن أخرجا جميعاً لم يجز ]. هذا هو القصد، والشيخ ابن عثيمين يخالف، لكن هذا رأي جمهور العلماء، إن أخرجا جميعاً لم يجز، يعني: أنت أخرجت ألفاً وأنا أخرجت ألفاً، وتسابقنا، وأينا يسبق يأخذ الألفين فهذا محرم؛ لأنه قمار؛ لأنني إما أن أصيب مغرماً وإما أن أغنم، والآخر إما أن يغرم وإما أن يغنم، فالأمر فيه مقامرة للطرفين.

قال: [ وإن أخرجا جميعاً لم يجز؛ لأنه يكون قماراً، إلا أن يدخلا بينهما محللاً ].

هذا رأي جمهور العلماء. مثال ذلك: أحمد يسابق إبراهيم، كل على جواده، وجعل أحمد جعلاً ألف جنيه، وجعل إبراهيم جعلاً ألف جنيه، فلو تسابقا هما فقط فهذا قمار ولا يجوز إلا إذا حلل السباق بأن يدخل بينهما ثالث ونسميه محللاً، وليكن في ذهنك أن المحلل تيس مستعار في الزواج لا يجوز؛ لأن البعض في بلادنا يمضي على قسيمة زواج باعتباره محللاً، ويمضي على قسيمة طلاق في آن واحد، فيتزوج ويطلق على اعتبار أن يحللها لزوجها الأول فقط، هذا هو النية، وهذا زواج باطل لا يجوز: (ولعن الله المحلل والمحلل له) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن المحلل في سباق الخيل يجوز بشروط:

أولاً: أن يدخل بفرس يكافئ فرسيهما، والمعنى: أنا يكون معي فرس سرعته سبعون كيلو متراً في الساعة، وأحمد معه فرس سرعته سبعون كيلو متراً في الساعة، فعندها لا يدخل المحلل بفرس سرعته عشرة كيلو مترات في الساعة، فإنه يكون قد دخل بفرس هزيل، ويعرف أنه في هذه المسابقة فاشل فاشل، ولكنه أراد بدخوله التحليل، فهذا لا يجوز، إن دخل للتحليل فقط لا يجوز، لابد أن يدخل وهو يكافئهما في السرعة، ويمكن له أن يفوز ولا يدفع شيئاً.

الشرط الثاني: ألا يدفع فهو قمار.

إذاً: عندي ثلاثة أطراف: اثنان هما اللذان دفعا، والثالث (المحلل) لم يدفع.

قال المصنف: [ وإن أخرجا جميعاً لم يجز؛ لأنه يكون قماراً إلا أن يدخلا بينهما محللاً وهو ثالث لم يخرج، يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رميهما؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار) ].

يعني: هو داخل في السباق ويعرف أنه خاسر، فهذا قمار؛ لأن العبرة بالمقاصد، ومقصد المحلل هنا أن يحلل السباق، وليس مقصده أن يدخل في السباق.

يقول الشيخ ابن عثيمين : المحلل ليس من الشرع، وإنما يوهم المتسابقين أن يتسابقا على جعل من كل واحد منهما؛ لأن المحلل يناقض الأصول الشرعية، فإن فاز المحلل أخذ من الاثنين، وهو إذا خسر لم يخسر شيئاً، إذاً: هو غير متكافئ معهما لا في الإخراج ولا في الخسارة.

قال: [ فإن سبق المحلل أحرز سبقيهما بالاتفاق، وإن سبق أحد المتسابقين وحده أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه، ولم يأخذ من المحلل شيئاً ].

يعني: إن سبق الأول يأخذ ألفي جنيه: الألف التي هي له، والألف الأخرى التي هي للآخر، والمحلل لا يخسر شيئاً.

[ وإن سبق أحد المتسابقين والمحلل ]. يعني: وصل الأول والمحلل في وقت واحد.

قال: [ أحرز السابق مال نفسه، ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين ]. والمعنى: أن المحلل وصل مع السابق الأول في وقت واحد، إذاً السابق يأخذ الألف جنيه التي هي له، والألف جنيه التي هي للمسبوق تقسم بين المحلل وبين الذي سبق.

تحديد المسافة والغاية في السباق

قال المؤلف رحمه الله: [ ولابد من تحديد المسافة -في السباق- والغاية ].

مثال ذلك: تسابق الأخ من مدينة مصر إلى بلبيس الصحراوي، إذاً: أنا حددت لك المسافة، ولكن إذا قلت لك: تسابق الأخ من مدينة مصر إلى ما شاء الله، وأصل السباق يقوم على الذكاء، فهذا لا يجوز؛ لأن تحديد المسافة يعطي المتسابق الفرصة في أن يقسم الجهد على المسابقة؛ ولذلك في الحديث الصحيح: (ألا إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع)، يعني: يدخل مباشرة في المعاصي، واليوم الثاني يتشدد، كرجل يركب حماراً يسير عليه من مصر إلى المنصورة، فما إن بدأ من الطريق الصحراوي إذا به يضربه، فإذا به يجري بسرعة مائة كيلو في الساعة، وبعد ثلاثين كيلو وقع الحمار، فلا هو بلغ إلى المنصورة ولا هو أبقى الحمار، وجميع المتنطعين -وأعرف بعضهم- يدخل فيضيق على الناس ويضيق على نفسه ويشدد على الناس ويشدد على نفسه، وبعد شهرين ينكص ويعود إلى طبيعته الأولى؛ لأن الغلو مرفوض: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، والغلو في الدين مرفوض بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى الغلو: أقوم الليل كله، وأصوم الدهر كله، ولا أتزوج النساء، وأظل مع القرآن طوال اليوم من الساعة الخامسة فجراً إلى الساعة عشرة ليلاً، فإن للنفس إقبالاً وإدباراً، فروحوا على النفوس بكتاب الله لا بالموسيقى، روِّح على نفسك يا عبد الله! بمداعبة الزوجة والولد، والقيام بألعاب مباحة كاللهو مع الأهل، فهذا يجوز، ونم تحت المروحة والتكييف، ولا تذهب إلى المصيف، خذ زوجتك إلى مكان آمن، ولا تحبس نفسك وأهلك.

اشغل أهلك بمحاضرات إسلامية، واجعل أطفالك يستمتعون بكراتين إسلامية ليس فيها تبرج ولا محاذير، بل تحتوي على قصص إسلامية وقرآنية ومسابقات إسلامية، أو وسائل تربوية كأرجوحة تصنعها لولدك في البيت، فيا عبد الله! طالما تنهى عن شيء أعط البديل، وزوجتك كذلك لابد أن تعطيها مقابل الممنوعات أموراً جائزة.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولابد من تحديد المسافة والغاية بما جرت به العادة ].

الغاية: الهدف.

[ لأن الغرض معرفة أسبقهما وأرماهما ].

مثال ذلك: هذه الساعة سنتسابق أنا وأنت على إصابة هذا الهدف، فأنت تضرب وأنا أضرب من بعد واحد نتفق عليه، ولكل من الطرفين أن يعود إلى الخلف أبعد من الآخر؛ لأن الغرض: هو إصابة الهدف، فإن أصابه فقد فاز.

قال: [ ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية؛ ولأن أحدهما قد يكون مقصراً في أول عدوه سريعاً في انتهائه، وقد يكون بالضد فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه ].

شروط المسابقة في الرمي

قال المؤلف رحمه الله: [ ويشترط معرفة عدد الإصابة وصفتها وعدد الرشق -الرِّشق بكسر الراء: عبارة عن عدد الرمي الذي يتفقان عليه، والرَّشق بفتح الراء: الرمي نفسه؛ اشترط معرفة عدده؛ لأن الحذق في الرمي- المهارة في الرمي- لا يعلم إلا بذلك، وعدد الإصابة ينبغي أن يكون معلوماً، فيكون الرشق مثلاً عشرين والإصابة خمسة، فيقولان: أينا سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق، اشترط ذلك ليبين أحذقهما ].

يعني: الماهر بالسباق، ولابد أن أحدد الهدف، إما في بطنه أو في خصريه أو في جنبه، ولا بد من تحقيق الإصابات الخمس من العشرين، إذاً: تحديد المسافة وتحديد الغاية.

[ وإنما تكون المسابقة في الرمي على الإصابة لا على البعد؛ لأن المقصود منه: الإصابة، وليس البعد مقصوداً ].


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
العدة شرح العمدة [13] 2695 استماع
العدة شرح العمدة [68] 2619 استماع
العدة شرح العمدة [26] 2594 استماع
العدة شرح العمدة [3] 2517 استماع
العدة شرح العمدة [1] 2474 استماع
العدة شرح العمدة [62] 2373 استماع
العدة شرح العمدة [19] 2336 استماع
العدة شرح العمدة [11] 2332 استماع
العدة شرح العمدة [56] 2301 استماع
العدة شرح العمدة [15] 2236 استماع