العدة شرح العمدة [54]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقه المعاملات من الفقه الغائب عن حياتنا، فقد أصبحت العناية الكبرى بفقه العبادات، وأما فقه المعاملات ففقه غائب في تدريسه وغائب عن واقعنا.

وكثير من معاملاتنا تقع مخالفة للشرع لعدم علمنا به، فمثلاً: بيع علبة السمن المغلقة بيع غرر، ونحن جميعاً نشتري السمن بهذه الطريقة، وهذا بيع جهالة؛ لأنه لا بد من رؤية المشترى قبل أن تشتريه، والبعض إذا اشترى علبة سمن مغلقة وذهب بها إلى البيت وفتحها وجد بها ما لذ وطاب ولا يجد بها سمناً فيعود بها إلى البائع فيقول له البائع: لا تعاد البضاعة بعد مفارقة المحل. وهذا بيع غرر.

وسأضرب من واقعنا بعض الأمثلة قبل أن أبدأ:

- بعض الشركات تضع جوائز للمستهلكين، كأن تضع سيارة وتقول: الذي يجمع صورة السيارة كاملة يحصل على سيارة، ثم تضع ربع السيارة في سلعة والربع الثاني في سلعة أخرى، والربع الثالث في سلعة، والرابع في سلعة، فإذا اشترى شخص سلعة ووجد فيها ربع سيارة، فإذا أراد أن يحصل على السيارة ولا سيما إن كانت جيدة فإنه يذهب يشتري السلعة بكثرة حتى يستطيع إكمال صورة السيارة، فهذا اشترى السلعة لغرض السيارة وهذا حرام، وهو موجود في حياتنا.

ومثل ما يحدث في الطريق العام، فتجد رجلاً يبيع سلعاً ويقول: اشتر سلعة وخذ معها الكوبون، وفي الكوبون جائزة تحصل عليها، إما أن يكون جهاز تسجيل أو مروحة أو مكواة أو جهاز كاميرا أو غير ذلك، وهذا البيع حرام؛ لأن فيه غرراً وجهالة. فإذا حددت الجائزة كأن يقول: من يشتري مني بألف فله جائزة بمقدار كذا فهذا معلوم وجائز، وأما الأول فمجهول، وكل بيع فيه جهالة حرام.

وأيضاً (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) ، وهو الجنين في بطن أمه، مثل أن يذهب التاجر إلى السوق ويشتري بهيمة فيقال له: هذه بثلاثة آلاف وما في بطنها بألف، فيدفع الأربعة آلاف، فيكون قد اشترى الجنين في بطن أمه، وهذا البيع حرام؛ لأننا لا ندري هل ينزل الجنين أم لا ينزل.

وكذلك بيع المصراة، كأن يربط على ضرع الجاموسة كيساً ليحبس اللبن في ضرعها، ثم يذهب بها إلى السوق وهي منتفخة الضرع، وهذا بيع حرام.

ومثل أن يفتح محلاً لبيع الخضروات والبطيخ مثلاً، ويأتي بثلاثة أشخاص لا هم لهم في البيع والشراء وإنما ليزيدوا على المشتري، فيقول أحدهم: سأشتريها بمائتين، وكل هدفه أن يرفع السعر على المشتري الحقيقي، وهذا يسمى عند العلماء بيع النجْش أو النجَش -على خلاف بينهم هل هو بالتسكين أو الفتح- وبيع النجش حرام. وهذا الذي يحدث.

ومثل من احتاج إلى اقتراض المال ولم يجد أحداً يعطيه، فإنه يذهب إلى تاجر آخر ويشتري منه سلعة بالتقسيط ثم يبيعها له مباشرة بسعر أقل، وهذا يسمى عند الفقهاء بيع العينة، وهو حرام؛ لأنه من الحيل التي لا ينبغي أن تكون.

وكذلك بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، وغيرها من أنواع البيوع كالمزابنة، والمحاقلة، والمخابرة.

وكذلك بيع الذهب بالذهب مع أخذ الفرق، وهذا يحدث في سوق الذهب والمجوهرات ولا سيما من النساء، فتجد المرأة تخلع ذهبها القديم وتعطيه لتاجر الذهب فيزنه، ثم تقول له: أريد ذهباً جديداً، فيزن لها الذهب الجديد وتدفع الفارق بين القديم والجديد، وهذا حرام، بل عليها أن تبيع القديم أولاً وتقبض ثمنه، ثم تشتري جديداً من المشتري أو من غيره، ولا يجوز أن يُباع الذهب بالذهب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة في باب الربا: (الذهب بالذهب والفضل ربا، والفضة بالفضة والفضل ربا، والشعير بالشعير والفضل ربا، والتمر بالتمر والفضل ربا، والبر بالبر والفضل ربا، والملح بالملح والفضل ربا). وقد اختلف الحنابلة هل علة تحريم هذه الأصناف الكيل والوزن أم الثمنية والكيل، أم الطعم والوزن.

والربا ليس مقتصراً على هذه الأصناف الستة في ربا الفضل، بل لو جاء رجل بكيلة ذرة واستبدلها بكيلتين من الذرة أيضاً فهذا ربا، مع أنه ليس في الحديث الذرة بالذرة، ولكن قياساً على المذكور في الحديث، وعلة الحرمة هي الكيل، والعلة في الأصناف الأربعة الكيل، وفي الذهب والفضة الثمنية وليست الوزن؛ والحنابلة يرون أن العلة في تحريم الذهب والفضة الوزن، وعلى هذا فلو أن رجلاً باع طناً من الحديد بطنين فعند الحنابلة أن هذا ربا؛ لأن العلة في تحريم الذهب والفضة عندهم هو الوزن، والحديد موزون، والذهب والفضة موزونان، ونحن نقول: لا، ليس ربا؛ لأن العلة من تحريم الذهب والفضة هي الثمنية، فأي شيء له ثمن فيه ربا، وعلى هذا فهذه النقود الورقية التي نحملها فيها ربا؛ لوجود علة التحريم فيها، وهي الثمنية.

وكذلك من البيوع المخالفة للشرع بيع الثمرة قبل نضجها، وهذا يسمى بيع المزابنة عند العلماء.

وكذلك بيع الثمرة وهي على غصنها قبل أن تنضج.

وكذلك بيع النخل المؤبر، أي: الملقح.

وتلقيح النخل هو: أخذ طلع الذكر ويأتي إلى الأنثى وينثر طلع الذكر عليها. فإذا أبرها صاحبها ثم باعها فثمرتها للبائع، وقد جاء هذا في حديث صحيح في البخاري ومسلم .

قال المصنف رحمه الله: [ كتاب البيوع]

قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ].

والبيع معاوضة المال بالمال، ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح، إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه، ولا غُرم على متلفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان).

ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه، ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات، ولا ما نفعه محرم كالخمر والميتة، ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته، أو مجهول كالحمل، والغائب الذي لم يوصف، ولم تتقدم رؤيته، ولا معجوز عن تسليمه كالآبق والشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه، أو من يقدر على أخذه منه، ولا بيع غير معيّن كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه، إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صبرة.

فصل

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة، وعن بيع الحصاة، وعن بيع الرجل على بيع أخيه، وعن بيع حاضر لباد، وهو أن يكون له سمساراً وعن النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وعن بيعتين في بيعة، وأن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسّرة، أو يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا، وقال: (لا تلقوا السلع حتى يُهبط بها الأسواق)، وقال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) ].

قال المصنف رحمه الله في الشرح: [ قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

فقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] يدل على أن الأصل في البيوع الحل، فإذا جاءك رجل وقال: هذا البيع حرام فعليه الدليل؛ لأن الأصل في البيع الحل، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]. والأصل عند الفقهاء براءة الذمة، فلو قال شخص: لي ألف جنيه عند فلان لزمه الدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة، فالأصل أن الثاني ليس مديناً، فمن ادعى أن فلاناً مدين له فعليه أن يقيم الدليل، فاستصحاب البراءة الأصلية مهم.

وكذلك الأصل في المرأة أنها بكر، فإن تزوجها أحد وادعى أنها ليست بكراً، فعليه الدليل؛ لأن الأصل فيها البكارة وهكذا.

وكذلك الأصل أن ما في حوزتي ملك لي، فالأصل في الحيازة الملكية.

والأصل في الماء أنه طهور، ومن قال: إن هذا الماء غير طهور لزمه الدليل.

وهذا الأمر مهم في البيوع، فالأصل في البيوع الحل، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

قال المصنف رحمه الله: [ والبيع: معاوضة المال بالمال لغرض التملك ].

فإذا اشترى لا لغرض التملك فهو حرام؛ لأنه اشترى لا ليتملك، والأصل في البيع أنه يشتري لغرض التملك، ومن هنا حرمنا البيوع التي هي لأجل الجوائز وليست لأجل التملك، فمن اشترى لا ليتملك وإنما ليحصل على المكسب المالي، كمواقع الإنترنت في التسويق الهرمي، وشراء خدمة النت لا لغرض التملك وإنما لغرض الحصول على المكسب المالي.

وهذه شركات يهودية وقعنا فريسة لها.

فالبيع هو معاوضة المال بالمال لغرض التملك، فإذا اشتريت منك كوباً ودفعت لك ثمنه وأعطيتني الكوب فهنا تنتقل الملكية لي، فأنا الآن متملك لهذه السلعة، وإذا اشتريت منك الكوب لا لأجل نقل الملكية، وإنما لأن بداخله جائزة، وأنا لا أريد أن أتملك السلعة وإنما أريد الجائزة فهذا البيع لا يجوز.

قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح ]، أي: فلا تبع إلا ما تملك، ويحرم عليك بيع ما لا تملك. وبيع ما لا نملك موجود بكثرة في حياتنا.

وذلك كأن يريد شخص شراء ثلاجة وليس معه ثمنها نقداً فيأتي إلى آخر فيقول له: أنا أشتريها وأقسطها لك، فيذهبان سوياً إلى التاجر ويشتري صاحبه السلعة دون أن يتملكها، وإنما يشتريها لحساب أخيه، ثم يقسّطها له، فهذا حرام وهو ربا؛ لأنه لم يتملك السلعة. فهذا هو عين الربا. وإذا أردت أن يكون البيع حلالاً فعليه أن يشتري الثلاجة أولاً ويتملكها، ثم يعيد البيع لك أو لغيرك، ولا تتفقان على الثمن قبل أن يتملك السلعة.

فالعبرة أن تبيع ما تملك، فلا تتفق مع المشتري على سعر السلعة وهي ليست ملكك، قال صلى الله عليه وسلم لـحكيم بن حزام : (لا تبع ما ليس عندك).

فيشترط لصحة البيع أن يكون المبيع مملوكاً لبائعه، فلا تبع السمك في الماء؛ لأنه ليس مملوكاً لك، وكذلك لا تبع ناقة في الصحراء.

قال المصنف رحمه الله: [ أو مأذوناً له فيه ]، أي: كأن آذن لك في بيع ما أملكه.

قال المصنف رحمه الله: [ فإن باع ملك غيره بغير إذنه لم يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـحكيم بن حزام : (لا تبع ما ليس عندك). رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح، يعني: (ما لا تملك)؛ لأنه ذكره جواباً له حين سأله أن يبيع الشيء، ثم يمضي ويشتريه ويسلمه، ولأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه أشبه ببيع الطير في الهواء، وعنه -أي رواية أخرى عن أحمد - يصح ويقف على إجازة المالك ].

ولكن المذهب والراجح هو ألا يبيع إلا ما يملك.

قال المصنف رحمه الله: [ وقوله: فيه نفع مباح احترازاً عما فيه نفع محرم كآلات اللهو ]، كآلة الجيتار بيعها حرام؛ لأن فيها نفعاً حراماً، فلا بد أن يكون النفع حلالاً، (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) فيحرم بيعه وشراؤه، فالسلعة حرام لذاتها.

ومن فقه البخاري أنه أخرج حديثاً عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا وهو يأكل جمّاراً -والجمّار هو قلب النخلة الأبيض- ثم سأل أصحابه إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها حدثوني ما هي؟) وفي رواية: (أخبروني ما هي؟) وفي رواية: (أنبئوني ما هي؟ فوقع الصحابة في شجر البوادي، فقال ابن عمر : وكنت أصغر القوم، فمنعني الحياء، فحدثتني نفسي أنها النخلة، فلما عجزوا عن الإجابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة، فقال ابن عمر لأبيه عمر : يا أبي! والله لقد حدثتني نفسي أنها النخلة، لكني استحيت أن أتحدث في وجودكم، قال: يا بني! لقد كان أحب إلي من الدنيا وما فيها أن تخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا الحديث قد أخرجه البخاري في كتاب العلم، وأخرجه أيضاً في كتاب البيوع، وعلة ذلك: أن الجمّار يؤكل، فيجوز بيعه؛ لأن ما يجوز أكله يجوز بيعه.

فيشترط في المبيع: أن يكون مملوكاً، ثانياً: أن يكون فيه نفع مباح.

قال المصنف رحمه الله: [ إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه، وإن كان معلماً؛ لما روى أبو مسعود الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب) وقال: (ثمن الكلب خبيث) متفق عليه ].

حتى وإن كان معلماً أو للحراسة؛ لما روى أبو مسعود الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب). وقال: (ثمن الكلب خبيث). فيحرم فتح المحلات التي تبيع الكلاب.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا غرم على متلفه لذلك ] فلو أن رجلاً أمسك بكلب فأتلفه لم يلزمه الضمان، ولا غرم عليه ].

قال المصنف رحمه الله: [ ولأنه لا قيمة له ].

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه ].

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه كالحشرات؛ لأنها لا قيمة لها، وهي محرمة، أشبهت الميتة ما لا نفع فيه ].

فلا يجوز لرجل أن يفتح متجراً لبيع الصراصير أو لبيع الذباب حتى وإن ملكهما؛ لأنه لا نفع فيهما، والنفع يختلف من فرد إلى آخر. فيشترط فيهما الملكية والنفع.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيع ما نفعه محرم كالخمر والميتة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، وفي حديث جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) ].

فما نفعه محرم لا يجوز أن يباع، فكل ما حرمه الله -كبيع الذهب للرجال- حرام؛ لأنه محرم وهكذا.