خطب ومحاضرات
سلسلة شرح صحيح البخاري [12]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فأيها الإخوة الكرام الأحباب في بداية هذا اللقاء الطيب المبارك نذكر بأمور هامة:
الأمر الأول: صيام عاشوراء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فلما سأل عن سبب صيامه أخبروه بأنه يوم أظهر الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر الناس بصيامه)، ولما أُخبر أن اليهود يفردونه بالصيام قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) وفي حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر ذنوب سنة ماضية)، فلا تحرموا أنفسكم من هذا الأجر الكبير، وفي هذا اليوم ينبغي أن نبيّن لأبنائنا الصغار ما وقع من صراع بين الحق والباطل، بين موسى عليه السلام وبين فرعون، وفي قصة موسى الكثير من الدروس والعبر التي ينبغي أن نقبل عليها دراسة وتحليلاً، فإن فرعون قتل لأجل موسى آلاف الذكور من بني إسرائيل، وخطط لعدم ميلاده وعدم وجوده إلا أن الله أراد أن يلقن الفراعنة درساً في كل الأزمنة والعصور، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، فربي موسى في بيت فرعون، وترعرع تحت بصره، ووقفت امرأته تدافع عنه، وعادة الفراعنة أنهم لا يملكون صناعة القرار، إنما الذي يصنع القرار لهم هن النساء، ولكنهم يتخذون القرار، وفرق بين صناعة القرار واتخاذ القرار، فالفراعنة إن تأملت في كتاب الله عز وجل تجد أن النساء يحكمنهم، قالت امرأة فرعون: (لا تقتلوه)، وهو كان قد قال من قبل (اقتلوه)، فكان صاحب القرار في الأمر هي المرأة، قال عز وجل حاكياً عنها أنها قالت: لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9] فتُرك موسى عليه السلام.
وهكذا .. فاذكر لهم الأحداث التي وقعت في قصته .. في هجرته من مصر، وفي زواجه من مدين، وفي عودته من مدين إلى مصر، وفي لقائه مع فرعون، وفي لقائه مع السحرة، وفي خروجه من مصر وإغراق فرعون في يوم عاشوراء، وفي نجاة بني إسرائيل، وفي عبورهم إلى الشاطئ الآخر حيث مروا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، فهي دروس وعبر ما أحوجنا أن نذكر بها الأبناء، وأن تخضع لمقاييس الفهم الصحيح من الكتاب والسنة.
الأمر الثاني: شركة مصرية تبيع كتباً في قصص الأنبياء اسمها ينابيع، وأسأل الله أن يهدي القائمين عليها، نشرت سلسلة قصص من القرآن، ومنها قصة الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام في رحلة طلب العلم، وصوروا فيها صوراً وقالوا: هذا هو الخضر وهذا هو غلام موسى يوشع بن نون، وهو نبي، فهل يجوز تصوير الأنبياء بصور كاريكاتورية تقدم للأبناء بهذه الطريقة؟ فهل يجوز أن الأنبياء يصورون صوراً فوتوغرافية؟ من الذي قال هذا؟ ومن الذي أفتاهم بهذا؟ فإن الأنبياء منزّهون، ومن ثَمَّ أُحذّر من هذه الكتب لا سيما من المخالفات الاعتقادية التي فيها.
الأمر الثالث: مجمع البحوث الإسلامية وافق على مسلسل سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ماذا سيعرض فيه، ولكن تمثيل الصحابة وتمثيل الأنبياء لا يجوز بإجماع أهل العلم المعتبرين؛ لأن الصحابة لا ينبغي أن يُمثّلوا كما قلنا قبل؛ فأحذّر من هذه الكتب، وأقول: لا ينبغي تصوير الأنبياء في صور فوتوغرافية تُعرض على الأطفال، فهذا إجرام في حق أنبياء الله ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
الأمر الرابع: مجلة الأزهر مجلة قيّمة نافعة فيها أبحاث طيبة، لكني فوجئت في هذا الشهر بملحق العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم لشيخنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى، وفيها ما يناقض عقيدة السلف حيث يقول الشيخ: وجمهور العلماء على أن آيات الصفات مجازات، فالاستواء مجاز عن الاستيلاء، والعين عن البصر، واليد عن القدرة، والوجه عن الوجود، ومعنى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] أنها تجري بالمكان الذي أحاطه الله بالكلاءة والعناية والحفظ والرعاية، ثم أخذ يعدد الصفات وأنها مجازات..
فهل جمهور السلف على هذه العقيدة؟ وهذا الكلام حينما ينشر على أنه معتقد السلف أليس في ذلك تدليساً على الأمة؟ فالسلف آمنوا بالصفات وأثبوتها لله بدون كيف، فقالوا: اليد معلومة وكيفيتها مجهولة، فأثبتوا لله الصفة مع تفويض الكيف، وهذه عقيدة مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي والأوزاعي والليث وهي عقيدة الصحابة من قبلهم. وحينما دخل من دخل على الإمام مالك وسأله عن الاستواء: ما معنى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؟ قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أخرجوا هذا المبتدع، فأخرج من المسجد.
فقوله: (الاستواء معلوم)، أي: معلوم المعنى، فإن استوى بمعنى علا وارتفع، وليس استوى بمعنى استولى كما يدرس الآن، استولى عليه من من؟ ورحم الله ابن القيم حينما قال: ولام المعطّلة كنون اليهود، قال الله لهم: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] فقالوا: حنطة، فزادوا نوناً، وقال الله: اسْتَوَى [طه:5] فقال هؤلاء المعطّلة: استولى.
ولكنهم يلقمون حجراً حينما قال الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فهل هذا يعني أن يديه بمعنى قدرته؟ فإذا قالوا ذلك فقد أثبتوا لله قدرتين، وقال عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] فهل معناها: أن قدرة الله فوق قدرتهم؟
وحينما وصل الجعد بن درهم إلى قول الله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وفي هذه الآية إثبات صفة الكلام وهو لا يريد أن يثبتها، فقال: وكلّمَ اللهَ موسى تكليماً، فجعل موسى هو الذي تكلم مع ربه، فأراد أن يُعطّل صفة الكلام، فلما وصل إلى قول الله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] لم يستطع أن يصنع شيئاً؟
فالقرآن بيّن واضح، والكلام صفة كمال، والله عز وجل له صفات الكمال، فهل تعبدون إلهاً لا يتكلم؟ فالكلام معلوم، والكيف مجهول، فلا نعلم كيف يتكلم، لكننا نثبت له صفة الكلام.
فكونه يُنشر هذا الكلام الذي فيه تأويل الصفات على أنه اعتقاد السلف فهذا ظلم وافتراء على سلف الأمة. وقوله: إنه رأي الجمهور، والله! ما هو برأي الجمهور أبداً، وإنما هو عقيدة الأشاعرة وعقيدة المعطّلة الذين عطَّلوا آيات الصفات فقالوا: إن الله عز وجل لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال .. فأين الله؟ وهل يعبدون عدماً؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
فهؤلاء هم الجهمية، وهؤلاء هم الذين عطّلوا صفات الله عز وجل، لذلك خالد القسري كان والياً في عهد الجعد بن درهم وبعد أن صلى صلاة عيد الأضحى بالمسلمين قال: أيها المسلمون! فليذهب كل واحد منكم فليضح بأضحيته، أما أنا فسأضحي بـالجعد بن درهم فهو ضحيتي، وذبحه عند المكان الذي خطب فيه؛ لأنه قال: ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وما كلم الله موسى تكليماً، فأراد أن يجحد آيات الله، فذبحه عند المكان الذي صلى فيه.
فأقول أيها الإخوة الكرام: لا ينبغي أن يُدرّس هذا الكلام، ولا ينبغي أن ينشر على أنه اعتقاد السلف، فهذا خلط للأمور، فليتقوا الله عز وجل. وأبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عاد عمّا ذهب إليه، فإن كانوا أشعرية فـالأشعري قد عاد عن اعتقاده في الأسماء والصفات فليرجعوا إلى ما رجع إليه.
الأمر الأخير: أن تجريح العلماء لا يجوز بحال، ومما ابتليت به الأمة: أن يقع العلماء بعضهم في بعض، وأن نعرّض بهم في المجالس، وأن طويلب العلم يحمل أوراقاً يوزعها بين الناس يُحذّر من علماء الأمة.
فأخونا الشيخ محمود المصري أبو عمار لا أعرف عنه إلا أنه سلفي الاعتقاد يدعو إلى الله عز وجل على بصيرة، فلا يجوز الطعن في العلماء والتعريض وقول: لا تسمعوا لهذا، ولا تسمعوا لها.. فلمن يسمعوا إذاً؟ لن يبقى هناك أحد، فكل من على الساحة جُرِّح، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا الكلام فليتق الله عز وجل من يردده، فكفى أن العلماء يُضطهدون من العلمانيين، وكفى أن العلماء يُعرّض بهم من هنا وهناك، فيا أخي! علِّم الناس العلم بدلاً من أن تُفرِّغ نفسك للطعن في إخوانك.
وفي الحقيقة هذا الكلام قد يُغضب البعض، ولكني أقوله وأحتسبه عند الله عز وجل، فمثل الشيخ محمد حسان وأخونا الشيخ أبو إسحاق شيخنا، وكل من يعمل على ساحة الدعوة إلى الله ممن نثق فيهم وعقيدتهم سلفية، فإن أخطأ أحدهم في لفظ فقد يكون بلا قصد، إنما أن تظل تصطاد الأخطاء اللغوية والأخطاء في المنهج.. فلا، وإن سمعت شيئاً فراجعه حتى يصحح ما قال، فالمؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، فلا داعي للفضيحة، فراجعه فيما قال ويُسحب الشريط من السوق، ويصحح الخطأ بأدب دون إحداث فتنة، إنما الذي يحزننا هو أن البعض تفرغ لهذه المسألة، حتى إني رأيت بعض الطلبة يحملون أوراقاً للطعن في علماء الأمة وفيها: فلان فيه حلول واتحاد، وفلان سروري، وفلان من الخوارج، وفلان جهمي مرجئي..، وما تركوا أحداً إلا وطعنوه، فلمن تستمع الأمة الآن؟
نسأل الله العافية والهداية للجميع.
توقفنا عند قول المصنف رحمه الله: [ باب الصبر عند الصدمة الأولى ].
ومما ينبه إليه: أن معرفة الإحالات في كتاب البخاري علم مهم، فعلى طالب العلم الذي يريد أن يجتهد في الطلب أن يبحث ويتتبع أطراف الحديث، أي: أن هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع، وهذا يشير إلى الفقه وإلى تعلم الفقه، فإن أردت أن تستفيد فتابع أطراف الحديث في الرواية كما أخرجها البخاري رحمه الله تعالى.
قال البخاري : [ باب الصبر عند الصدمة الأولى.
وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة ].
يعني بذلك قول الله عز وجل: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156].
فالذين إذا نزلت بهم مصيبة قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] فجزاؤهم: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
فقوله: فنعم العدلان ونعم العلاوة، العدلان في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ هذا واحد وَرَحْمَةٌ وهذه العدل الثاني، والصلوات والرحمة في مقابل صبرهم على المصيبة وقولهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، وزيادة على ذلك: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، وهذا هو العلاوة.
ثم أورد البخاري رحمه الله قول الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
ثم ذكر حديث أنس من طريق محمد بن بشار ، وهذا الحديث أخرحه الإمام البخاري في كتاب تفسير القرآن، وأخرجه في كتاب الأحكام في بيعة النساء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
وقد ذكرنا أن الصبر لغة: هو الحبس. واصطلاحاً هو: حبس النفس على الطاعة، أو عن المعصية، أو على أقدار الله المؤلمة.
فالصبر إما حبس على طاعة، وإما حبس عن معصية، وإما حبس على أقدار الله المؤلمة، فالصبر يحمل هذه المعاني كلها، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
قال رحمه الله: [ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا بك لمحزونون).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تدمع العين ويحزن القلب) ].
فللعين البكاء، وللقلب الحزن، (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل).
ثم أتى بحديث أنس بن مالك الذي هو عند البخاري برقم ( 1303 ).
قال: [ حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا يحيى بن حسان حدثنا قريش بن حيان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على
وأبو سيف القين هو زوج من أرضعت إبراهيم بن النبي عليه الصلاة والسلام، والقيّن هو الحداد، فقد كان يعمل حداداً.
قال: [ (دخلنا على
الظئر هو: زوج المرضعة، فهو صاحب اللبن.
قال: [ (وكان ظئراً لـ
الشم عموماً يجوز، فلو أن امرأة تشك أن ولدها يدخن، فلها عند نومه أن تشم ما يخرج منه من رائحة.
قال: [ (فقبّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك و
والمقصود: أن الحزن عند نزول المصيبة لا بأس به، والحزن للقلب والدمع للعين، لكن لا تتسخّط على قدر الله، فبكاء العين من رحمة الله عز وجل، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم ، وإبراهيم عليه السلام هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية ، ومات إبراهيم وهو يرضع قبل أن يتم الحولين، مات وهو ابن أربعة عشر شهراً على اختلاف بين العلماء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن ابني مات على الثدي، إن له مرضعة في الجنة، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا
قال البخاري رحمه الله: [ باب البكاء عند المريض ].
البخاري ينوع التبويب، فهنا تارة يبوّب البكاء عند الاحتضار والبكاء عند المريض، ثم أتى بحديث عبد الله بن عمر فقال: [ حدثنا أصبغ عن ابن وهب .. إلى أن قال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتكى
قال: [ (و
قال: [ (فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله -أي: في كرب وشدة- فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله! فبكى النبي صلى الله عليه وسلم) ] وهذا الموضع الثاني لبكاء النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه بكى عند موت ابنه إبراهيم وبكى عند مرض سعد بن عبادة .
قال: [ (فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا) ] أي: حينما رأوه بكى صلى الله عليه وسلم بكوا، وهذا يسمى عند العلماء بكاء المجاورة، أي: أني رأيتك تبكي فبكيت، وكل دمعة للعين تختلف؛ فدمعة الحزن تختلف عن دمعة الفرح، وتختلف عن دمعة الخوف، وتختلف عن دمعة النفاق، وتختلف عن دمعة المجاملة أو المجاورة، وابن القيم أورد هذه الأنواع من أنواع البكاء، وذُكر لـشيخ الإسلام أن رجلاً يقع في الصلاة من شدة البكاء، يصلي خلف الإمام فيسمع مثلاً: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] فيبكي ويقع، قال: ائتوني به وضعوه على حائط، واقرءوا عليه نفس الآيات التي قرئت في الصلاة، فإن وقع فهو صادق، فلما جاءوا به وضعوه على حائط، وقرءوا نفس الآيات فلم يتحرك. إذاً: هو إنما وقع نفاقاً وليس صادقاً، أعاذنا الله من ذلك، وهذا كما يفعل البعض في الصلاة يبكي، فإذا سألته: لم تبكي؟ قال: تذكرت أبي رحمه الله، وإذا سألت آخر: لم تبكي؟ قال: من بجواري بكى فأبكي لبكائه!
ولا يجوز رفع الصوت بالبكاء، ففي مساجد السنة نرى في رمضان العجب، فالبعض ينوح في الصلاة، وهذا مخالف للسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يبكي دون أن يسمعه أحد، وإنما كان لصدره أزيز كأزيز المرجل، وكان السلف يوارون الدمعة، حتى كان بعضهم إذا غلبته العبرة يقول: ما أشد الزكام، أي: أنه يريد أن يداري أنه بكى من خشية الله، حتى لا يدخله العجب ولا الرياء.
فلا بد أن نراعي هذه النقطة، فلا ترفعوا أصواتكم بالبكاء، ولا حرج أن تبكي لكن ابك دون أن ترفع صوتك بالبكاء.
قال: [ (فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم) ] يُعذِّب باللسان إن قال شراً، ويرحم إن قال خيراً.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).
وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب.
أي: أن عمر رضي الله عنه كان يمسك بعصا، فمن يبكي بنياحة أو بشق للجيوب كان يضربه بالعصا أو يرميه بالحجارة، أو يحثو على رأسه التراب، وغالب الناس في غالب الأحيان يبكي بشكل غير شرعي، ولذلك نحذر من هذا، ولا سيما النساء.
قال البخاري رحمه الله: [ باب ما ينهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك ].
ثم أتى بحديث فقال: [ حدثنا محمد بن عبد الله .. إلى أن قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (لما جاء قتل
البكاء الذي نهي عنه هو البكاء الذي فيه رفع الصوت وفيه نياحة، فحينما مات جعفر بن أبي طالب بكته نساؤه، فأمره أن ينهاهن.
قال: [ (فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن، وذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب وقال: والله! لقد غلبنني أو غلبننا) الشك من محمد بن حوشب ، فزعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاحث في أفواههن التراب، فقلت: أرغم الله أنفك، فوالله! ما أنت بفاعل وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء) ].
ثم أتى بحديث آخر من طريق أم عطية قالت: (أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح) ] وبيعة النساء ذكرها الله عز وجل في سورة الممتحنة بكسر الحاء وبفتحه، تسمى سورة الممتحَنة، أو سورة الممتحِنة، فيها ذكر بيعة النساء حينما جئن لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت معهن زوجة أبي سفيان واسمها هند ، وكانت تلبس النقاب، فلم يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم إلا من صوتها، وهذا فيه مشروعية النقاب، وكانت تراجع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قال لهن: (ولا تزنين) قالت: أوتزني الحرة؟ أي يستحيل أن تزني المرأة الحرة، فتجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ومعناه: أن المرأة الحرة لا تطلب الرزق بالرضاعة، يعني: لا تأخذ على الرضاعة أجراً، فعرفها النبي صلى الله عليه وسلم من صوتها فقال: (أنتِ
قالت أم عطية : (أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح) أي: أنه أخذ عليهن عند البيعة عدم النياحة.
قالت أم عطية : فما وفت منا غير خمس نسوة أي: ما وفّت بهذه البيعة إلا خمس، والباقي لم يوفين.
قالت: ( أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتين، أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى ).
وفي الحديث أن غالب النساء ينحن، إلا من رحم الله، وأم عطية تقول: فما وفّت منا إلا خمس، والباقي لم يوفين بعدم النياحة، لذلك الإنسان عند موت قريبه يحتاج إلى صبر.
قال البخاري رحمه الله: [ باب القيام للجنازة ].
فقه الجنائز من أهم أنواع الفقه؛ لوجود موضوعات هامة فيه، منها رفع اليد، ورفع اليد في التكبيرات الأربع مشروع، وهو الذي عليه عمل الصحابة؛ لأني أجد في بعض مساجد السنة يقول الإمام -وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً-: لا ترفعوا أيديكم إلا في التكبيرة الأولى! فمن أين جئت بهذا الكلام؟ وكيف تأمر الناس به؟
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في تعليقه على فتح الباري لـ ابن حجر : إن الرفع هو الأصل من عمل الصحابة.
وذكر ابن باز رحمه الله: أن حديث رفع اليدين في صلاة الجنازة أخرجه الدارقطني في العلل بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعاً وصوب وقفه؛ لأنه لم يرفعه سوى عمر بن شبة، والأظهر عدم الالتفات إلى هذه العلة؛ لأن عمر المذكور ثقة فيُقبل رفعه، ويكون ذلك دليلاً على شرعية رفع اليدين في تكبيرات الجنازة.
ثم الصلاة على الجنازة داخل المسجد وخارج المسجد، وهكذا القيام للجنازة والصلاة على الغائب، كل ذلك من فقه الجنائز. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة شرح صحيح البخاري [20] | 2722 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [5] | 2703 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [11] | 2339 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [4] | 2203 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [9] | 2175 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [10] | 2038 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [1] | 1780 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [2] | 1707 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [18] | 1680 استماع |
سلسلة شرح صحيح البخاري [14] | 1661 استماع |