سلسلة شرح صحيح البخاري [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلا زلنا مع صحيح الإمام البخاري في: ( كتاب الجنائز )، وسنذكر الباب الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر قبل الشروع في باب: ( الثياب البيض للكفن ).

قال البخاري رحمه الله تعالى: [باب: ( كيف الإشعار للميت )].

يقول البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن وهب أخبرنا ابن جريج أن أيوب أخبره قال: سمعت ابن سيرين يقول: جاءت أم عطية رضي الله عنها، امرأة من الأنصار من اللاتي بايعن، قدمت البصرة، تبادر ابناً لها فلم تدركه، فحدثتنا قالت: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته).

وحديث غسل بنت النبي عليه الصلاة والسلام هو العمدة في هذه الأبواب، وهو من طريق أم عطية رضي الله عنها، وأم عطية رضي الله عنها صاحبة الحديث الخاص بالختان في سنن أبي داود ، وقد صححه الحافظ ابن حجر والحافظ ابن عساكر والعلامة الألباني ، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي تختن النساء: (أخفضي ولا تنهكي؛ فإنه أحظى للزوج وأبهى للوجه).

قالت أم عطية (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، فإذا فرغتن فآذنني. قالت: فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه) والحقو هو الإزار، فقد كان يلبسه عليه الصلاة والسلام. (فقال: أشعرنها إياه ولم يزد على ذلك).

ومعنى: ( أشعرنها إياه ): أي: اجعلن الإزار يباشر ويمس جسدها رضي الله عنها وقد سبق وأن بوب البخاري رحمه الله تعالى باب: ( هل تكفّن المرأة في إزار الرجل؟ )، إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام خلع إزاره وجعله كفناً لابنته زينب كما في حديث أم عطية رضي الله عنها.

قال البخاري رحمه الله: [باب: هل يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون].

أي: يُجعل شعرها خلفها بعد غسلها ثلاث ضفائر.

يقول البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا قبيصة : حدثنا سفيان عن هشام عن أم الهذيل عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (ضفرنا شعر بنت النبي صلى الله عليه وسلم تعني ثلاثة قرون)، وقال وكيع : قال سفيان : ناصيتها وقرنيها].

أي: أنها ضفرت الناصية وقرنيها، وفي هذا: أن السنة عند غسل المرأة أن يضفر شعرها ثلاث ضفائر، وأما عند غسل الجنابة فلا ينبغي للمرأة أن تفك ضفيرتها، وإنما يكفيها أن تنضحها بالماء، وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تقول: عجباً لـعبد الله بن عباس يأمر النساء بفك ضفائرهن عند الغسل من الجنابة! ألا يأمرهن بحلق رءوسهن، إني اغتسلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ونضحت ضفيرتي، أي: أن أمنا عائشة كانت تخالف ابن عباس في بعض المسائل، ومنها هذه المسألة، لكن خير من تخبر بأحوال النساء النساء، فـعائشة رضي الله عنها تخبر أنها كانت صاحبة ضفيرة، وكانت لا تفكها عند غسل الجنابة، وإنما تنضحها بالماء.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [باب: يلقى شعر المرأة خلفها:

حدثنا مسدد : حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان ، قال: حدثتنا حفصة عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلنها بالسدر وتراً ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه، فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها)، أي: ألقين الضفائر خلفها بعد غسلها.

وكل هذه الأبواب تدور على حديث واحد، لكن البخاري يتفنن في التبويب، إما للطيفة في السند، وإما للطيفة في المتن.

وقد بوّب عليه -كما رأينا- قبل أن نبدأ في الكفن: باب: ( ما يستحب أن يغسل وتراً )، وباب: ( يبدأ بميامن الميت )، وباب: ( مواضع الوضوء من الميت )، وباب: ( هل تكفّن المرأة في إزار الرجل )، وباب: ( يُجعل الكافور في آخره )، وباب: ( كيف الإشعار للميت )، وباب: ( هل يُجعل شعر المرأة ثلاثة قرون )، وباب: ( يلقى شعر المرأة خلفها )، وكل ذلك يدور على حديث واحد، وهو حديث أم عطية في كيفية غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم شرع البخاري رحمه الله تعالى في باب: ( الثياب البيض للكفن )، أي: أن الرجل والمرأة يكفنان في ثوب أبيض على السواء، وهذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب، فيكفن الرجل بثلاث قطع، ويمكن أن يكون قطعتين أو قطعة واحدة -والبخاري رحمه الله تعالى يستدل على هذا بالأحاديث التي سأذكرها- ويمكن أن يكون كفن الرجل قميصاً، والقميص إما أن يكون له أزرار، وإما أن يكون بلا أزرار، وإما أن يكون سابغاً، أي: طويلاً، وإما أن يكون قصيراً، وسنذكر بعد قليل واقعة: عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه وتفل عليه. وفي رواية: أنه أخرجه من قبره وتفل عليه تبركاً، وكفّنه في قميصه. أي: تشفّعاً بأثر النبي عليه الصلاة والسلام، ولما قام يصلي عليه قال له عمر : (يا رسول الله تصلي عليه وهو القائل كذا وكذا؟ تصلي عليه وقد فعل كذا وكذا؟ فقال: إن الله خيّرني فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، قال تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، ثم أنزل الله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، ففيه بيان من الله عز وجل في عدم جواز الصلاة على المنافق، أي: صاحب النفاق الاعتقادي لا العملي.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية، بيض سحولية -من القطن- من كرسف، ليس فيهن قميص ولا عمامة).

إذاً: لا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، فقد كُفّن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب فقط، وهذا هو الأفضل بالنسبة للأمة، فتكفّن موتاها كما كُفّن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على وجه الاستحباب، لكن مصعب بن عمير رضي الله عنه قد كُفّن في قطعة واحدة، لأنهم لم يجدوا له إلا ذلك، فقد كانوا إذا غطوا أعلاه بدا أسفله، وإذا غطوا أسفله بدا أعلاه، وجاء عن عبد الرحمن بن عوف -وكان من المبشرين بالجنة- أنه كان صائماً يوماً، فجاءوا له بالطعام ليفطر فقال: ارفعوا الطعام عني، فلقد قتل أخي مصعب بن عمير ولم نجد له كفناً نواري به جسده إلا جزءاً يسيراً، إذا سترنا أعلاه بدا أسفله، وإذا سترنا أسفله بدا أعلاه، فأخشى أن تكون طيباتنا قد عُجّلت لنا، وأبى أن يأكل رضي الله عنه وأرضاه.

وكذلك الرجل الذي وقصته دابته وهو محرم، فقد كفن في قطعتين: هما الإزار والرداء، وعليه فيجوز أن يكفّن الرجل في ثوبين، ويجوز أن يكفّن في ثوب واحد، لكن المستحب أن يكفّن في ثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض من قطن ليست مخططة. وفي الحديث عند الإمام الطبراني وإن كان فيه ضعف، قال: (البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم)، صححه الترمذي والحاكم .

وربما يقول قائل: كيف نكفّن المرأة والرجل في البياض، رغم أن المأمور هو المخالفة بين المرأة والرجل؟ والجواب: أنه بعد الموت لا يعد هناك تشبه؛ لأن الجميع يوارى في التراب، أما في الحياة فقد لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة، أي: أن ملابس النساء خاصة بهن، وملابس الرجال خاصة بهم، فلا يجوز لأي من الجنسين أن يتشبه بالآخر.

وأما بالنسبة للقميص والعمامة للميت ففيه خلاف بين العلماء، لكن المستحب ألا يكفّن الرجل في قميص ولا في عمامة، وإنما في ثلاثة أثواب يُدرج فيها إدراجاً، فتطبق على الميت من الجانبين.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [باب ( الكفن في ثوبين )].

بعد أن بين البخاري أن المستحب والأفضل والمندوب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب قال: [باب الكفن في ثوبين]؛ لأنه ربما يعجز عن إيجاد ثلاثة أثواب، فنقول: تكفي الثوبين.

قال رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة، إذ وقع عن راحلته فاوقصته)] أي: كسرت عنقه. قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين)]، فثوبين هنا مطلق، أي: في أي ثوبين، لكن في روايات أخرى: (وكفنوه في ثوبيه)، أي: الإزار والرداء.

لذلك فالروايات لا بد أن تُجمع؛ ليقيد المطلق، أو يخصص العموم، أو يوضح المبهم، أو يبين المعنى، فمثلاً: أورد النووي حديثاً في كتاب: ( رياض الصالحين ): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فما معنى: ليخالفن الله بين وجوهكم؟ وضحتها الرواية الأخرى: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم). إذاً: فمخالفة الوجوه تعني: مخالفة القلوب، فنكون بجوار بعضنا البعض وهناك اختلاف في القلوب، وليسنا على قلب رجل واحد.

وبعض العلماء قالوا: (أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، أي: أن الوجه يلتف، فيصبح القفا في الوجه، ويصبح الوجه في القفا، وهذا رأي مرجوح؛ لأن النص الآخر قد بيّن معنى المخالفة، إذاً فجمع النصوص يبين المعنى.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تحنطوه)، أي: لا تطيبوه. (ولا تخمروا رأسه)، أي: لا تغطوا رأسه. (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). وفي هذا دليل على أن العبد إذا مات على عمل صالح ولم يتمه يُكتب له الأجر كاملاً، فلو أن رجلاً ذهب للحج، وبعد أن أحرم قُبض في جدة، فإنه يُكتب له أجر الحج؛ لأنه نوى وعزم وأحرم من الميقات وتوجه، والذي حال بينه وبين النسك الموت، وفي هذا أيضاً أن حُسن الخاتمة أن يموت العبد على طاعة.

قال العلماء: وفي هذا دليل على أن غير المحرم يحنّط؛ لأن قوله: (لا تحنطوه) أن من عادتهم أن يحنطوا الميت، وليس المقصود من التحنيط هو التجميد في الثلاجة كما يوضع البعض أشهراً فيها، ويقال عنه: هذا ميت إكلينيكياً لكنهم يضعون له الأجهزة الخاصة بالإنعاش، وهذا كلام لا يمكن أن يقبل بحال؛ لأنه ليس من دين الله سبحانه.

وهذا أخ فاضل يسأل عن رجل أثبت الأطباء موته، فهل يجوز أن ننزع الأجهزة التنفسية الصناعية منه أم نتركها؟

فأقول: يا عبد الله! إذا جاء الأجل وتوقف القلب فقد انتهى الأمر، فلم تتدخل طالما أن الأجل قد انتهى والآجال بيد الله سبحانه، فإذا مات إكلينيكياً أو توقف الدم عن النبض.. فما تفعله بعد ذلك ما هو إلا تأخير لا ينبغي أبداً، طالما أننا قد تأكدنا من موته، والله تعالى أعلم.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تخمروا رأسه)، أي: لا تغطوا رأسه، ومعنى ذلك: أنهم كانوا يغطون رأس الميت، وأما كشف وجه الميت في القبر فليس عليه دليل، وإنما يظل على حاله، أي: مغطى.

قال البخاري رحمه الله: [باب: ( الحنوط للميت )].

وأورد البخاري رحمه الله تعالى حديث الرجل السابق -الذي وقصته دابته- من طريق ابن عباس أيضاً، لكن شيخ البخاري هناك هو: أبو النعمان ، بينما شيخه هنا هو: قتيبة ، لكن البخاري يعيد الحديث لعلة.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة حدثنا حماد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما] فالسند هو هو، لكن الخلاف في الشيخ رغم أن الراوي الأعلى هنا ابن عباس وهناك ابن عباس عن سعيد بن جبير ، وسعيد بن جبير هو تلميذ ابن عباس ، وقد أخذ عنه التفسير والأحاديث، ويعد من كبار التابعين، وقد قتله الحجاج بن يوسف ظلماً.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [(بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذ وقع من راحلته فاوقصته، أو قال: فأقعصته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً).

وتحنيط الميت، أي: تطييبه بالطبيب].

وقد استدل البخاري رحمه الله تعالى بهذا الحديث على مشروعية تطييب الميت، وذلك من لفظة: (لا تحنطوه)، ففُهم أنهم يحنطون، والبخاري رحمه الله تعالى فقيه قبل أن يكون محدثاً.

قال البخاري : [باب: ( كيف يكفن المحرم )]، وكلها تدور حول حديث واحد، أي: حديث الذي سقط من على دابته يوم عرفة.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو النعمان أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما].

فهنا يحدث أبو النعمان عن أبي عوانة ، وهناك حدث عن حماد ، إذاً: هناك اختلاف في السند.

ويمكن أن يعيد البخاري هذا الحديث في كتاب الحج؛ ليستدل به على مشروعية الحج راكباً؛ لأن الرجل وقع من على دابته وهو يؤدي مناسك الحج، وقبل ذلك: فقد حج النبي عليه الصلاة والسلام راكباً، ويمكن أيضاً أن نستنبط من هذا الحديث كثيراً من الأحكام الشرعية.

قال البخاري رحمه الله تعالى: [(أن رجلاً وقصه بعيره، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر)] ففي الحديث مشروعية ركوب البعير، لكن في القرآن: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، إذاً جواز ومشروعية ركوب البعير مأخوذ من السنة المطهرة.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيباً)، فهذه الرواية قد فسّرت معنى: تحنطوه، ثم قال: (ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً).

قال البخاري رحمه الله: [باب: الكفن في القميص الذي يكف، أو لا يكف، ومن كفن بغير قميص ].

إذاً: فهو رحمه الله تعالى قد تحدث عن الكفن في ثلاثة أثواب، ثم تحدث عن الكفن في ثوبين، وهناك تحدث عن الكفن في قميص، وهذا إن دل فإنما يدل على الفقه العالي لدى البخاري رحمه الله تعالى، وأيضاً قد تفنن في التبويب، فمن حديث واحد أخذ أكثر من باب.

وقد اختلف العلماء في معنى قوله: ( يكف )، فمنهم من قال: يكف بمعنى: يغلق بأزرار. ومنهم من قال: يكف، أي: يغطي، فيكون سابغاً طويلاً. ومنهم من قال: معنى: ( لا يكف )، أي: قصيراً. ومنهم من قال: ( لا يكف )، أي: لا يغلق.

قال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد ومسدد هو أحد شيوخ البخاري ، وللبخاري في الصحيح (279) شيخاً، وقد أفرد بعض العلماء شيوخ البخاري بالترجمة في كتب مستقلة، ومن أشهر شيوخ البخاري في الصحيح: مكي بن إبراهيم وعبد الله بن يوسف التنيسي وحماد وإسحاق وعلي بن المديني وغيرهم من المحدثين الأعلام.

ثم قال رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال: حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما]. فالحديث ينتهي إلى عبد الله بن عمر ، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأنا أذكر السند لتعرف أن السند من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.

ثم قال رحمه الله تعالى: (أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وعبد الله بن أبي هو الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه قرآناً حينما قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، يقصد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف ابنه عبد الله على باب المدينة ومنعه من دخولها، وقال: (والله يا رسول الله لن يدخلها حتى يعلم من الأعز ومن الأذل)، وهذا هو ابنه رضي الله عنه، فتأمل الإيمان الحقيقي، ثم قال رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن أمرت بقتل أبي فلا تأمر سواي حتى لا يقتله غيري، فتأخذني الحمية فأقتل من قتل أبي، فأكون قد قتلت مسلماً بكافر)، فهنا يظهر الولاء والبراء، والموالاة والمعاداة، إذ هي من أوثق عرى الإيمان.

والعجب أنك تجد أناساً يقومون على عمل إسلامي، فيفتخر أحدهم بأنه عضو في جماعة نصرانية! ويقول: أنا أحب ميلاد يوحنا حبيبي وصديقي! فهل هذا ولاء وبراء؟ وهل أُمرنا أن نوالي من عادى الله ورسوله؟! إنه لابد أن نعلن العداوة: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [المجادلة:22]، وأوثق عرى الإيمان هي الحب في الله والبغض لله، فأين عقيدة الولاء والبراء؟ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، فهذه عقيدة الولاء والبراء التي قد ضاعت عندنا، فحينما أحب المشرك وأقبّله وأحتضنه وأواسيه وأزامله أكون قد هدمت أوثق عرى الإيمان.

وهذا نقد صحيح في محله، لذلك فحينما أسمع بعض الناس، بل ممن يشار إليهم بالبنان: أنه لا فرق بين مسلم وغير مسلم! أصاب بالإحباط، وربنا يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].

قال: (يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه)، أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد استجاب لطلب الابن، رغم أن أباه معروف بالكفر والنفاق، لكنه محسوب على المسلمين في الظاهر، فقد قال كلمة التوحيد بلسانه، لكن قلبه على الكفر والنفاق والشرك.

قال: (فقال: آذني أصلي عليه)، أي: بعد أن تكفنه ناد عليّ لأصلي عليه. (فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه)، ولا نعتقد أن عمر جذب النبي صلى الله عليه وسلم بسوء أدب، بل جذبه يخاطبه، فقال: (أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين، قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]. فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84]).

والحديث الآخر قال فيه البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابراً رضي الله عنه قال: (أتى النبي عبد الله بن أبي بعدما دفن)] أي: بعد أن كفنوه وأدخلوه في القبر قال: [(فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه)].

وقد جمع ابن حجر رحمه الله تعالى بين الروايتين فقال: إنهم كفنوه ابتداءً في قميصه الأول، ثم أراد ابنه أن يكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميص ثانٍ، فأخرجه وكفنه في قميص آخر، والله تعالى أعلم.

أيضاً: استدل ابن حجر هنا على مشروعية التبرك بآثار الصالحين، لكن علق شيخنا ابن باز على أن هذه خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أبداً أن تكون لغيره.

جواز المساعدة في الزواج

السؤال: هل يجوز لي أن أساعد أخي في زواج ابنته بدلاً من الأضحية؟

الجواب: نعم يجوز؛ لأن الأضحية سنة مؤكدة، والزواج في حق ابنة أخيك أمر واجب، والله تعالى أعلم.

حكم صرف الصدقة في غير الجهة التي أرادها صاحبها

السؤال: مال صدقة قد أعطي إلي ليذهب إلى فئة معينة، فهل يمكن أن أحوله إلى فئة أخرى؟

الجواب: لا. لأن شرط الواقف كشرط الشارع، ولا يجوز لك ذلك إلا بإذن من صاحب المال، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ العوائد الحاصلة من وضع المال في بنك فيصل الإسلامي

السؤال: هل فوائد بنك فيصل يمكن أن تستخدم في عدة تليفون أو خط تليفون؟

الجواب: بنك فيصل من البنوك التي لوائحها تطابق الشرع، سواء مضاربة أو مشاركة أو مرابحة، لكن بعض الناس يقولون: البنك المركزي يتدخل في سياسته، نقول: نعم يتدخل لكنه مضطر، وتدخل البنك المركزي يكون بأنه يحدد نسبة من الودائع يسمونها الاحتياطي القانوني فيأخذها منه، وهو له أن يقلل السيولة وأن يكثرها؛ لأن البنك المركزي يملك سلاح التحكم في المصارف، فعموماً البنك المركزي لو أخذ من بنك فيصل نسبة من الودائع وحدد نسبة مئوية على الودائع، فهنا بنك فيصل يكون مضطراً، ودفع جزء من المنكر يجوز، فلا داعي لأن نقدح في بنوك إسلامية تضطر اضطراراً إلى بعض التعاملات المفروضة عليها، فهذه ليست بإرادتها، فعائد بنك فيصل أعتقد أنه شرعي إن شاء الله تعالى.

مشروعية صيام العشر من ذي الحجة

السؤال: هل من السنة صيام العشر من ذي الحجة؟

الجواب: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام) أي: أن العمل الصالح في هذه الأيام محبب إلى الله عز وجل، ومن العمل الصالح: الصيام، لكن قد يقول قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصمها، نعم لم يصمها لكن ليس هناك نهي عن صيامها، فالأصل مشروعية الصيام، (وأفضل الصيام صيام داود عليه السلام، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً).

إذاً: فلا مانع من أن تصومها.

حكم صيام يوم عرفة إذا وافق الجمعة أو السبت

السؤال: هل يصام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت أو يوم الجمعة؟

الجواب: نعم؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: ( إذا صادف المندوب المضيق وقت كراهة قدم المضيّق )، فيوم عرفة مندوب مضيّق؛ لأنه يوم واحد، فإذا صادف وقت كراهة كصيام السبت أو الجمعة منفرداً، قدم المندوب المضيق، وهذا كصلاة الكسوف بعد الفجر، فصلاة الكسوف سنة مضيق وقتها، والصلاة بعد الفجر مكروهة، فيقدم المندوب المضيق على الوقت المكروه، وقد حقق هذا ابن حجر رحمه الله تعالى، وهو رأي جمهور العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم التكبير الجماعي خلف شخص واحد في أيام العيد

السؤال: هل التكبير الجماعي أو الترديد خلف شخص من السنة؟

الجواب: ليس ذلك من السنة، وإنما يكبر كل شخص منفرداً، فيسمع نفسه ويُسمع من بجواره، وكذلك: لا ننقسم إلى فريقين: فريق يكبر، وفريق يرد عليه، أو يقول الفريق الأول: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، والفريق الآخر يقول خلفه: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، فهذه كلها من البدع والمنكرات التي ما أتت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: التلبية فيلبي كل بمفرده، فيسمع نفسه ويسمعه من بجواره، والله تعالى أعلم.

حكم تغسيل أحد الزوجين الآخر

السؤال: هل يجوز أن تغسل الزوجة الزوج؟

الجواب: نعم، وكذلك يغسل الزوج الزوجة، وقد ثبت هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم البيع بالتقسيط مع الزيادة في الثمن

السؤال: ذهبت لأشتري بضاعة، وعندما أردت أن أدفع الثمن طلب مني صاحب البضاعة تأجيل الدفع، فهل هذا يعتبر ربا؟

الجواب: هناك فرق بين الشراء والدفع نقداً، وبين ارتفاع ثمن السلعة مقابل الأجل، أي: أنني حين أشتري هذه السلعة بعشرة قروش نقداً وبعشرين أو بخمسة عشر بالتقسيط نتفق، فنتفق على نوع المعاملة، ويقول لي: آجل أم نقداً؟ فأقول مثلاً: نقداً. إذاً: فالعقد هنا نقدي، لكن لو قال: بالتقسيط، فيُعمل بعقد القسط، وجمهور العلماء على جواز البيع بالتقسيط مع ارتفاع الثمن، لحديث بريرة عندما أعتقتها أمنا عائشة مقابل أن تؤدي قسطاً من المال في كل سنة، وجمهور العلماء على جواز البيع بالتقسيط، وقد ألفت الكتب في هذا النوع من البيوع.

حكم تقديم الحج على الزواج

السؤال: هل الزواج مقدم على الحج؟

الجواب: قد أجاب ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا السؤال، وقال: بأن الحج مقدم على الزواج؛ لأن الحج فرض على المكلف لابد أن يسقطه إن استطاع، وأداء الحج سبب في الغناء، قال عليه الصلاة والسلام: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر)، والله تعالى أعلم.

حكم الدم النازل من الفرج بسبب عملية جراحية

السؤال: هل يعامل نزول الدم لمدة يومين أو أكثر من الفرج بسبب عملية جراحية كالحيض؟

الجواب: لا، فهذا دم استحاضة ودم فساد، وعليها أن تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، والله تعالى أعلم.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة شرح صحيح البخاري [20] 2723 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [5] 2703 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [11] 2339 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [4] 2203 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [10] 2039 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [1] 1780 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [2] 1707 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [18] 1680 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [14] 1661 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [3] 1651 استماع