سلسلة شرح صحيح البخاري [20]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

فلا زلنا مع الإمام البخاري شيخ المحدثين، وطبيب الحديث في علله، في كتابه الجامع الصحيح، ومع كتاب الجنائز، وباب: ما جاء في عذاب القبر.

سبق أن من منهج الإمام البخاري في صحيحه: أنه يستدل بآيات من القرآن الكريم قبل الأحاديث ليجزم بالحكم الذي يريد، فهو قد علم سلفاً أنه سيخرج في الأمة من ينكر عذاب القبر، ويدعي أنه لم يصح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه من خبر الآحاد الذي يرد، فأراد أن يحسم القضية فجاء بالآيات القرآنية الدالة على عذاب القبر؛ ليبين أن عذاب القبر يثبت بالكتاب قبل السنة، وإن كان الكتاب والسنة هما مصدرا التشريع، والشيخ الألباني -وهذا رأي له اعتباره وقيمته وصحته- يرى أن القرآن والسنة يحتلان المصدر الأول للتشريع، ليس القرآن ثم السنة كما يقول البعض: المصدر الأول القرآن، والمصدر الثاني السنة، إنما القرآن والسنة هما مصدرا التشريع؛ لأن الذي ينظر في الحكم الفقهي ينبغي أن ينظر في القرآن ثم ينظر في السنة؛ لأن السنة تقيد المطلق، وتخصص العام، وتوضح المجمل وقد تنفرد بحكم.. إلى غير ذلك، ولذلك قال بعض السلف: (حاجة القرآن إلى السنة أكثر من حاجة السنة إلى القرآن)؛ لأن القرآن بلا سنة يصبح كتاباً مبهماً في كثير من جوانبه، مثل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، كيف؟ من الذي وضح الصلاة؟ السنة، وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] إجمال، فلابد لنا أن ننظر إلى السنة لنعرف كيف نقيم الصلاة، وكيف نؤتي الزكاة، وكيف نحج البيت، فمعنى ذلك: أن السنة تفصل القرآن وتبين مجمله، فلا غنى للقرآن عن السنة بحال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، والذي ينادي بعزل السنة والاكتفاء بالقرآن في واقع الأمر إنما ينادي بنزع الدين من الأمة؛ لأن القرآن بلا سنة لا معنى له إلا في القليل، ولذلك في السارق يقول الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [المائدة:38]، السرقة لها نصاب يوجب القطع، وهناك شروط للسارق حتى يتم القطع، وشروط في المكان المسروق منه، من الذي حدد ذلك؟ إنها السنة، ولذلك يقول ربنا: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته)، وقوله: (شبعان) يشير إلى أنه من أهل الترف، يأكل ما لذ وطاب (متكئ على أريكته) يشير إلى أنه من أهل الخمول، قابع في بيته لا يسافر إلى طلب العلم ولا لطلب الرزق، وإنما (متكئ على أريكته، يأتيه الأمر من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: ما وجدنا هذا في كتاب الله)، وهذا موجود الآن بيننا، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)، لذلك حفظ الله القرآن والسنة، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، من كمال حفظ القرآن أن يحفظ الله السنة؛ لأنه بدون حفظ للسنة يضيع القرآن، ومن هنا كان علم الجرح والتعديل، وكان علماء الحديث يقفون للأحاديث الموضوعة والضعيفة بالمرصاد فيبينون الضعيف من الصحيح، وكان ما كان من جهدهم في بيان هذا.

قال البخاري رحمه الله بعد أن استدل بآيات من كتاب الله على عذاب قبر، قال:

[ أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ]. حينما تقول: أسماء بنت أبي بكر تقول: رضي الله عنهما، عن أسماء وعن أبيها.

[ (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بين الناس، فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجاً) ]، من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب الناس خطباً راتبة وخطباً عارضة، والراتبة هي الجمعة، تتكرر في كل أسبوع، وخطبة العيد في كل سنة في الفطر والأضحى، والخطب العارضة هي التي ليس لها صفة الاستمرارية كخطبة الكسوف، فهو يخطب إذا انكسفت الشمس، وخطبة الاستسقاء، وفي حجة الوداع خطب في عرفة وفي يوم النحر، وأيام التشريق صلى الله عليه وسلم أربع أو خمس خطب كما تروي كتب السنة، وكان يخطبهم أحياناً بين الحين والآخر في القبور، وكان متكئاً فجلس، وخط خطاً بيمينه على الأرض ثم بين لأصحابه، وكان يخطب وهو يركب الناقة عليه الصلاة والسلام يعظ من خلفه عليه الصلاة والسلام.. إلى غير ذلك. ومن هذه الخطب العارضة أنه قام خطيباً عليه الصلاة والسلام مرة فذكر فتنة القبر، وبين أن المؤمن يفتن في قبره، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون في المسجد خوفاً من عذاب القبر ومن فتنة القبر.

ثم روى البخاري رحمه الله من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم).

وفي هذا حجة لمن استدل على أن النعال لا تخلع في المقابر؛ لأن بعض العلماء قالوا: لابد من خلع النعال في المقابر ولهم أدلة، فرد الفريق المخالف واستدل بحديث البخاري وفيه: (أنه يسمع قرع النعال)، وهذا يشير إلى أن الميت يسمع صوت النعال على الأرض.

[ (أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان) ]. من مات محروقاً أو غريقاً أو في طائرة أو على فراشه كلهم سواء؛ لأن القبر مستقر الروح، فليس شرطاً أن يقبر في الأرض؛ لأن البعض يقول: كيف يسأل من يموت في الهواء؟ لا. القبر هو المستقر النهائي له، سواء مات في الهواء أو في الأرض.

قال: [ (أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار) ]. يرى مقعده من النار وهو في قبره ويعاين المقعد، ثم يقال له: [ (قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً) ]. يعني: يرى مقعده في النار ويرى مقعده في الجنة.

[ قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره -ثم رجع إلى حديث أنس -: (وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين) ]. والحديث دليل على أنه يفتن في قبره، أما المؤمن فيجيب: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27] يجيب بثبات، أما المنافق فلا يدري ما يقول، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فتضربه الملائكة ضربة.

قد يقول بعض الناس: مازلتم تحدثون الناس عن عذاب القبر ويهزءون بعذاب القبر، لذلك عذاب القبر من الدين ومن عقيدة المؤمن، ولذا قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بعذاب القبر، فنحن حينما نتحدث عنه إنما أسوتنا النبي عليه الصلاة والسلام، تجد أن البعض الآن يهزأ من هذا، ويقول: العلماء ليس لهم حديث إلا عذاب القبر والثعبان الأقرع، ويحضرون صورة جمجمة ويهزءون بها، واقع الأمة مرير وهم يتحدثون عن عذاب القبر! يا عبد الله! وظيفة الأنبياء هي الترغيب والترهيب، وبدون الترهيب لا يمكن للمؤمن أن يعمل، فهذا حافز للعمل.

قال البخاري رحمه الله: [ باب: عذاب القبر من الغيبة والبول ].

بعد أن أثبت البخاري عذاب القبر بالأدلة بدأ يذكر أسباباً له، فقال: (باب: التعوذ من عذاب القبر. وباب: عذاب القبر من الغيبة والنميمة)، يعني: ما هي الأسباب المؤدية لعذاب القبر. والغيبة: أن تذكر أخاك بما يكره، وكذلك البول. ومعنى البول: عدم الاستنزاه من البول أو الاستتار.. كل هذا من أسباب عذاب القبر.

ثم روى البخاري رحمه الله من طريق ابن عباس : (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى) يعني: بلى إنه لكبير، حتى لا يفهم البعض أنه ليس من الكبائر.

قال ابن القيم رحمه الله: يعني: أي: يعذبان في أمر كان من اليسير عليهما أن يتجنباه. يعني: لا يعذبان في أمر كبير شاق عليهما، وإنما يعذبان في أمر كان من اليسير عليهما أن يتجنباه، وإنما هو كبير عند الله عز وجل.

[ (أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله. قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين، ووضع كل واحدة منهما على قبر، ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ].

وقد شرحت هذا الحديث من قبل، وبينت أن هذه الخاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، وخاصية لهذين القبرين؛ إذ لم يؤثر عنه أنه كان يضع الجريد على كل القبور، ولم يؤثر عن الصحابة أنهم كانوا يضعون الجريد على القبور، هذا أولاً.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى أطلعه بهذين القبرين أنهما يعذبان، ولذلك جاء بجريدة وشقها إلى نصفين تبركاً بفعله عليه الصلاة والسلام.

ولعل هناك من يسأل: أنا لن آتي بجريدة وإنما سآتي بنخلة وأضعها على قبر أبي، فهل تشفع له النخلة؟ حتى لو جئت بشجرة، فرق بين يدك وبين يدي النبي عليه الصلاة والسلام.

ثالثاً: أن الله عز وجل أوحى إليه أنهما يعذبان، فلذلك من يضع الجريدة على قبر كأنه يعلن للناس أن القبر يعذب، وهذا سوء ظن بالميت، فأقول: هذه خاصية للنبي عليه الصلاة والسلام لاسيما أنه لم يكرر هذا الفعل إلا مع هذين القبرين.

وفي الحديث: أن من أسباب عذاب القبر الغيبة وعدم الاستتار من البول، والنميمة والغيبة صنوان، ومع هذا بينهما عموم وخصوص، وربنا عز وجل يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10-11]، ينم وينقل الكلام من جهة إلى جهة بغرض الإيقاع بين الناس، وإيغار الصدور، وهذه مشكلة ومرض خطير. قال رجل لـعمر بن عبد العزيز : (فلان وقع في عرضك وقال عنك كذا. فقال: أيها الرجل! إن كنت كاذباً فيما تقول فأنت من الذين قال الله فيهم: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، وإن كنت صادقاً فيما تقول، فأنت من الذين قال الله فيهم: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فأنت في الحالتين كاذب. فقال: العفو يا أمير المؤمنين)، فهذا معناه أنه حينما يأتيك أحد يقول لك: فلان يقول فيك كذا، لابد أنه كما قال لك قال لغيرك، لابد أن يتعلم الأدب في عدم نقل الحديث من طرف إلى طرف، وهذا مرض ينتشر بيننا. بعض الناس هذه وظيفته ليل نهار، حتى أن الصدور تضيق بالنقل، فلا تفعل هذا، هذه نميمة حتى وإن كنت صادقاً فلا يحسن بك أن تنقل الكلام لغرض الوقيعة وإيغار الصدور، هذه نميمة يا عبد الله فضلاً عن الغيبة، ولذلك كانت أحد أسباب عذاب القبر.

قال البخاري رحمه الله: [ باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي].

من طريق ابن عمر : (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) ].

يعني: يعرض عليه المقعد وهو في قبره للجنة أو للنار؛ لأن الله عز وجل خلق لكل مخلوق مقعده في الجنة ومقعده في النار. يعني: النار على حسب عدد البشر والجنة كذلك.

هل المشركون سيدخلون النار أو الجنة؟ هناك فتوى تقول: من مات في كنيسة فلسطين من أهل الكتاب مات شهيداً! وربنا يقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72].

وهو يقول: يموت شهيداً؟! إذاً: المشركون في النار، وسيتركون أماكنهم في الجنة ليرثها المؤمنون: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، الميراث في الجنة على قدر العمل، ودخول الجنة ابتداءً برحمة الله، لذلك وفق شيخ الإسلام ابن تيمية بين النصوص، فقال في حديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله): الباء هنا باء مقابلة وعوض -يعني: عوض عن عمله الجنة- إنما الباء في قوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] باء سببية. والمعنى: أن الباء هنا لها معنى، والباء هناك لها معنى آخر. دخول الجنة ابتداء برحمة الله، والميراث فيها بقدر العمل، فلا تناقض بين النصوص أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، يعني: لن يصل به العمل إلى أن يكون عوضاً له الجنة، وإنما الجنة برحمة الله، لذلك يقول علماء السنة: إن أدخلنا الجنة بفضله وإن أدخلنا النار بعدله، لذلك في مقام الحسنات يعاملنا سبحانه بالفضل، وفي مقام السيئات يعاملنا بالعدل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] فضل أم عدل؟ فضل: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160] فضل أم عدل؟ عدل. لا توجد سيئات فهو عدل، وفي الحسنات فضل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، أي: أن العمل لا يساوي الجنة، والله لو ظللت ساجداً طوال عمرك لله راكعاً مستغفراً لن توازي النعم التي أسداها لك.

وفي ذلك يقال: لا كبيرة إذا قابلك فضله، ولا صغيرة إذا قابلك عدله. والمعنى: أنه إذا عاملك بالفضل فإن الكبيرة تغفر، وإذا عاملك بالعدل فإن الصغيرة تحاسب عليها.

قال البخاري رحمه الله: [ باب: كلام الميت على الجنازة ].

معناه: أن الميت يتكلم، ولكن يتكلم بلسان الحال أم بلسان المقال؟ هذا اختلاف بين العلماء، هل يتكلم بكلام حقيقي دون أن يسمع؟ فهناك من يتكلم ولا نسمعه، كحديث: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ملكان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، فهل تسمع هذا النداء؟! وحينما ينادي في القبر لا تسمعه، فهناك كلام لا نفقهه، ولذلك هل كلام الميت بلسان الحال أم بلسان المقال وبالفعل؟ خلاف بين العلماء. منهم من قال: يتكلم لكن الحي لا يسمعه. ومنهم من قال غير ذلك.

قال: [ من طريق أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم) ]. هذا الحديث يكرره البخاري ، وقد أورده البخاري في كتاب الجنائز في باب: حمل الرجال للجنازة دون النساء. إذاً: فالذي يحمل الجنائز هم الرجال، والنساء لا يحملن، ولابد أن يحملها الرجال، وقد كنت في بعض بلادنا فرأيتهم لا يضعون الجنازة على أعناق الرجال، إنما توضع في السيارة ويغلقون أبوابها، فإذا بالسيارة من جهة والمشيعون من جهة ويلتقون إلى المقبرة، فبمجرد أن تنزل الجنازة إذا بهم يدفنونها سريعاً لأننا في عصر السرعة، فلا أحد عنده وقت ليقف على القبر أو ليتعظ، ففي ثلاث دقائق تنطلق السيارة ويفتح القبر، ويغلق الباب، ويوضع القفل، شكر الله سعيكم! هكذا في بعض البلاد. لا متابعة للجنازة، ولا يحملها الرجال، عصر السرعة في كل شيء!

ولذلك قال البخاري : [ (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني. وإن كانت غير صالحة، قالت: يا وليها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) ]. والمعنى: أن الجنازة تتكلم بلسان المقال أو بلسان الحال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسمعها كل شيء)، يثبت أنها تتكلم، وكذا قوله: (ولو سمعها الإنسان لصعق).

قال البخاري رحمه الله: [ باب: ما قيل في أولاد المسلمين].

قال أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا حجاباً من النار أو دخل الجنة).

ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم).

لما توفي إبراهيم عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم: (إن له مرضعاً في الجنة) ].

يريد البخاري أن يحسم هنا أن أطفال المسلمين الصغار الذين يموتون قبل التكليف في الجنة، مات وعنده سنة أو سنتان أو ثلاث أو قبل أن يفطم أو قبل أن يبلغ، فلابد أن تعلم أنه في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم لما مات إبراهيم ، وقد مات وعمره ستة عشر شهراً على الراجح قال: (إن له مرضعاً في الجنة).

فأولاد المسلمين لا خلاف بين العلماء أنهم في الجنة، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد) والولد يشمل الذكور والإناث، وفي حديث (قالوا: واثنان؟ قال: واثنان)، وفي حديث: (ولو سئل عن الواحد لقال: نعم)..

يقول: [ قال صلى الله عليه وسلم لما مات إبراهيم : (إن ابني مات على الثدي) ]. يعني: مات وهو في مدة الرضاعة.

[ (وإن له مرضعاً في الجنة) ]. يعني: له مرضعة في الجنة، وهذا يدل قولاً واحداً على أن إبراهيم في الجنة، وكل أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل التكليف في الجنة.

قال البخاري رحمه الله: [ باب: ما قيل في أولاد المشركين ].

بعد أن حسم مسألة أولاد المسلمين جاء بأولاد المشركين، لكن انتبه من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث وهو سن البلوغ؛ وسن البلوغ هو الحنث لأنه بمعنى الإثم، ومنه قوله تعالى: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46]، معناه: أن الولد لم يبلغ الحنث. يعني: دون التكليف، فيكلف في البلوغ.

سؤال: قبل البلوغ ما الذي يجري من الأقلام: أقلم السيئات أم قلم الحسنات؟ الحسنات فقط، أما السيئات فلا. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (علموا أولادكم الصلاة لسبع)، فإن صلى الولد وهو ابن سبع سنين يثاب، لكن إن ترك الصلاة لا يعاقب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ)، والقلم هنا قلم السيئات، رفع القلم عنه حتى يحتلم، والمعنى: أنه إن جاء قبل الحلم بشيء أو بمعصية لا يأثم؛ لأن هذا دون التكليف، إنما هو محاسب بعد التكليف.

وعلامات البلوغ عند الرجال تختلف عن علامات البلوغ عند النساء، فيبلغ الصبي بثلاثة أمور: الاحتلام، وإتمام خمسة عشر سنة، وظهور الشعر الخشن حول القُبل، وتزيد المرأة بشيء رابع وهو الحيض، والحيض أقله تسع سنين، إنما ممكن أن تحيض على أكثر، ممكن أن تحيض بعد الخامسة عشر.

الشافعي يقول: رأيت جدة في مصر -عندما نزل مصر- عمرها إحدى وعشرين سنة. قالوا: حاضت في تسع، ثم تزوجت بعد حيضها. أما نداءات: لا للزواج المبكر. فيقال لهم: نعم للزواج المبكر، ماذا تريدون للأمة بعد ذلك؟ وهل يجد أي شخص أن يتزوج؟ وهؤلاء يقولون: لا للزواج المبكر! أقول: تزوجت في سن تسع بعد حيضها، ثم حملت وأنجبت بنتاً، حاضت هي الأخرى لتسع، فأصبحت بنت الأم عمرها تسع سنوات، وعمر الأم ثمانية عشر، والبنت حاضت، ثم تزوجت وأنجبت هي الأخرى فأصبحت جدة وعمرها واحد وعشرون سنة، وأخرى عمرها واحد وأربعون عاماً ولم تتزوج إلى الآن.. هذا هو واقع الأمة المؤلم.

ويقال: لا تحيض لستين إلا قرشية. تظل تحيض إلى ستين سنة؛ ولذلك تلد بعد الخمسين، تبلغ خمسة وخمسين ومازالت تلد، ولهذا في إسرائيل جن عقل شارون فهو يقتل للمرأة الفلسطينية ثلاثة وأربعة أولاد وهي مازالت تنجب، هو ينهي وهي تلد، والجيل اليهودي ينقرض، والجيل الفلسطيني المسلم يزيد، المرأة الفلسطينية ولادة، وهذا معناه أنك لا تستذل هؤلاء، السكان عندنا مشكلة لابد أن تواجه! وهم في الحقيقة ثروة يجب أن تسخر وتستغل، ولذلك يقول الله عز وجل: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:11-13]، إن البنين عز فهو يمشي وحوله عشرة، يا محمد يا إبراهيم يا علي يا محمود يا أحمد. عز وهو يمشي وحوله عشرة، أما الآخر حسنين ومحمدين، مات حسنين بقي محمدين أرأيتم المصيبة، لكن انظر إلى كثرة الأولاد طالما تستطيع أن تربيهم تربية صحيحة وتستغلهم استغلالاً حميداً، ولو أن عدد مصر مائة مليون افتحوا الصحراء لزراعة القمح وعمروها بدلاً من استيراد القمح، حتى نملك القرار، اجعلوا الشباب ينتج، المورد البشري لابد من استغلاله أفضل استغلال، اكتفينا فقط ببطالة مقعنة، خمسة على مكتب. هذا ليس من العدالة في التوزيع.

قال: [ باب: أولاد المشركين ]. أما أولاد المشركين ففيهم آراء:

الرأي الأول: أنهم يمتحنون في الآخرة، وهذا ما مال إليه ابن القيم ، أي: أن الله عز وجل ينشئ لهم ناراً فيأمرهم بدخولها، فإن دخلوها أدخلهم الله الجنة، وأولاد المشركين كشأن من لم يسمع بالدعوة كأهل الفترة.

الرأي الثاني: أنهم خدم لأهل الجنة، الحديث صح عند البعض: (إن أولاد المشركين خدم أهل الجنة)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الرأي الثالث: أنهم في النار تبعاً لآبائهم؛ لحديث: (الله أعلم بما كانوا يعملون).

لكن الراجح من أقوال العلماء أنهم يمتحنون في الآخرة أو أنهم من أهل الجنة، وهذا اختيار النووي وغيره؛ لحديث: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: الله إذا خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)، وفي الحديث الآخر قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين).

ثم: (كل مولود يولد على الفطر)، معنى هذا: أن البخاري لم يحسم المسألة برأي، إنما لمح فيها برأي: أن أولاد المشركين يولدوا على الفطرة، يعني: على التوحيد، فإن مات مات موحداً.

(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء؟)، ثم أورد ابن حجر عشرة آراء للعلماء في أبناء المشركين، بعضهم اختار الجنة، والبخاري توقف في المسألة، لكن ابن القيم يرى أنهم يختبرون، ومن الآراء: أنهم تحت مشيئة الله، أنهم تبع لآبائهم، أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار، أنهم خدم أهل الجنة، أنهم يصيرون تراباً، أنهم في النار، أنهم يمتحنون، التوقف، الإمساك. إذاً: عشرة آراء للعلماء في أولاد المشركين، أرجحها وأقواها أنهم يمتحنون في الآخرة، ويميل البعض إلى أنهم في الجنة إن صح الحديث.

قال البخاري رحمه الله: [ باب ].

ولم يضع عنواناً للباب، فمن منهج البخاري في التبويب إما أن يعقب المسألة بحكم، فيقول: باب وجوب كذا، باب استحباب كذا، وإن لم ير فيها حكماً يتوقف، فيقول: باب ما قيل في أولاد المشركين، هل حسم المسألة؟ لا؛ لأنها عنده لم تحسم المسألة.

فقوله: [ باب ] بدون ذكر عنوان له كأنه لم ير في هذا حكم ينتهى إليه لا بالوقوف ولا بغير الوقوف ولا بالتبويب، وأبواب البخاري وضعها وهو في روضة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي قبل كل تبويب ركعتين، فبمجموع الأبواب يكون عدد الركعات 3150 ركعة، قبل أن يضع عنوان الباب يصلي لله ركعتين في الروضة المباركة، ثم يفتح الله عليه فيضع عنوان الباب، هؤلاء هم الرجال!

قال: [ عن سمرة بن جندب : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) ]. وهذا من فقه الإمام بعد كل صلاة، أن يقبل على الناس بوجهه.

[ (ثم يقول: من رأى منكم الليلة رؤيا؟) ]. في صلاة الفجر، والحديث أيضاً أعاده البخاري في كتاب التعبير؛ لأن من رأى الرؤيا يكون عنده في الفجر صفاء.. ما زال يذكر، وصفاء للمعبر، فالفجر أقرب الأوقات إلى الرؤيا، فبعد صلاة الفجر كان يسألهم عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم الليلة رؤيا؛ فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء الله، فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين) ]. هو رأى رؤيا عليه الصلاة والسلام. [ (أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة) ] وأتى بحديث طويل فيه بيان أن أبناء المشركين في الجنة، هذا الحديث طويل سوف أختصره؛ لأنه سيمر بنا مرة أخرى في كتاب التعبير، النبي صلى الله عليه وسلم رأى مشاهد عجيبة، كل مشهد فسره حسبما رآه صلى الله عليه وسلم، ومن ضمن ما رأى: رأى إبراهيم عليه السلام وحوله أطفال، فلما سئل عنهم، قيل له: هؤلاء أطفال المسلمين، ومن مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مات على فطرة الإسلام بدون أدنى شك، فـالبخاري يلمح إلى أن أولاد المشركين في الجنة.

[ باب: موت يوم الإثنين ] يوم الإثنين هو اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

[ باب: موت يوم الإثنين.

قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين. قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران - يعني: طيب- قال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيهما. قلت: إن هذا خلق -يعني: رديء أصابه البلاء- قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح ].

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين، وأبو بكر له مواقف عديدة في موت النبي عليه الصلاة والسلام.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة شرح صحيح البخاري [5] 2702 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [11] 2338 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [4] 2202 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [9] 2174 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [10] 2037 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [1] 1779 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [2] 1706 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [18] 1677 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [14] 1659 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [3] 1648 استماع