سلسلة أصول الفقه [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن موضوعنا في أصول الفقه من الأهمية بمكان لطالب العلم، إذ لا ينبغي لأحدٍ أن يفتي في دين الله عز وجل إلا بمعرفته، ألا وهو: الناسخ والمنسوخ، وقد اشترط العلماء في المفتي أن يكون على علم بالناسخ والمنسوخ؛ فإن لم يكن على علم به فلا يجوز له أن يفتي أبداً؛ لأنه ربما يجيب في مسألة بحكم أو بنص منسوخ وهو لا يدري.

وقد أفرده العلماء بالتصنيف لأهميته، فأول من كتب فيه على الراجح: أبو عبيد بن سلام، ثم النحاس عليه رحمة الله تعالى، وقد وجدنا الآن من يخرج علينا بكتاب بعنوان: لا نسخ في القرآن! والله يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فالنسخ قد نص عليه في القرآن، وكما أن هناك نسخاً في القرآن أيضاً هناك نسخ في السنة.

النسخ لغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، أي: أزالته، ويأتي بمعنى: نقل الشيء من موضع إلى موضع آخر، يقول ربنا سبحانه وتعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، وتقول: نسخت الكتاب، أي: نقلته من موضع إلى موضع آخر.

والنسخ اصطلاحاً: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي.

قوله: (رفع حكم شرعي) أي: أن النسخ لا يدخل إلا في الأوامر والنواهي، وما سوى ذلك فلا، وخرج بذلك العقائد والقصص والوعد والوعيد، أي: وعد المتقين بالجنة، وتوعد العاصين بالنار.

وقوله: (بخطاب شرعي)، أي: أن النسخ لا بد له من خطاب شرعي يرفعه.

يعرف النسخ إما بنص صريح من القرآن أو السنة، فمن السنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها)، ومن القرآن كقول الله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66]، فالتخفيف في الآية نسخ للمتقدم بدون أدنى شك، وإما أن تجمع الأمة على وقوع النسخ، والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما في الحديث: (ولا تجتمع أمتي على ضلالة)، وإما أن يعرف المتقدم من المتأخر، ويتعذر الجمع بينهما فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، كوجود نص يبيح ونص يحرم، وتعذر الجمع بينهما عند العلماء، فيكون القول بالنسخ لا بد منه.

انقسمت الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في قضية النسخ إلى أقسام:

أولاً: اليهود، فينكرون النسخ؛ لأن النسخ عندهم معناه: أن الله كان لا يعلم ثم علم، وهذه تسمى عقيدة البداء، وهي من عقائد الشيعة بطوائفها، وفيها اتهام لله عز وجل بالجهل، فيا من يقول: إنه لا فرق بين سني وشيعي! ويا من يردد بصوت مرتفع: مسلم سني ومسلم شيعي، وأرضه هي أرضه، ودينه هو دينه، إن هذا هو الجهل بعينه، فكيف تجمع بين أهل السنة والشيعة وتقول: إنهم سواء؟! وربنا يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، إن هذا لا يقوله إلا رجل لا علم له بعقائد الشيعة، فهذه الشيعة الاثنى عشرية الإيرانية قد انقسمت إلى قسمين: زيدية، وإسماعيلية؛ لأن الشيعة تعتقد أن الولاية ينبغي أن تكون من سلالة الحسن بن علي الأكبر فالأكبر، فجاء دور الإمامة على إسماعيل فقالوا: لن نعطيها له وإنما سنعطيها لـزيد ! رغم أن زيداً أصغر من إسماعيل ، فسألوهم: لماذا ذلك؟ فقالوا: إن الله بدا له أن يغير هذا الحكم! فانقسموا إلى فريقين: إسماعيلية، وزيدية، والزيدية هي أعدل فرق الشيعة، ورغم ذلك يقولون بالبداء، فضلاً عن الرجعة والتقية ونكاح المتعة وتحريف بعض الآيات، وحدث ولا حرج في ذلك، ثم يأتي أحدهم فيقول: لا فرق بين الشيعة وأهل السنة!

ونقول لهؤلاء الذين ينكرون النسخ: إن الله شرع وهو يعلم ما شرع، فشرّع أولاً لحكمة يعلمها، وشرّع ثانياً لحكمة يعلمها، ولذلك يخفف عن العباد لحكمة، بل فوق ذلك.

فالنسخ موجود في شريعة اليهود، يقول تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93]، ولذلك يقول الله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فهذا نسخ يحل ما حرم الله عز وجل.

ثانياً: الروافض، وهي فرقة من الشيعة، وسموا بالروافض لأنهم رفضوا خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فرفضوا ما أجمع عليه الصحابة من أن الصديق له الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

المهم أن الروافض على النقيض من اليهود، اليهود قالوا بعدم جواز النسخ، والروافض قالوا بالبداء، أي: أن الله كان لا يعلم ثم علم، فهذا معناه أنهم على النقيض من الفرقة الأولى، عكسها تماماً.

ثالثاً: فريق ينتسب إلى أبي مسلم الأصفهاني من المعتزلة، وهم يقولون: بجواز النسخ عقلاً لا شرعاً، لذلك قالوا: بأنه لا نسخ في القرآن؛ ويقولون: إن الأحكام التي نسخت إنما هي على سبيل التخصيص وليس على سبيل النسخ.

جمهور العلماء على جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعاً، وأدلة ذلك ما يلي:

أولاً: أن أفعال الله عز وجل لا تعلل بالأغراض، فله سبحانه أن يأمر في وقت بشيء ثم ينهى عنه في وقت آخر لحكمة خاصة يعلمها سبحانه، فمثلاً: كان في شريعة آدم يجوز للأخ أن يتزوج من أخته في بطن واحد، وفي شريعة يعقوب كان يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين، بينما في شريعتنا لا يجوز ذلك، وإباحة زواج الأخ من أخته في شريعة آدم؛ لأنه لا يوجد في ذلك الوقت بشر على الأرض حتى تأتي الذرية، ولو كان لا يجوز للأخ أن يتزوج الأخت لم تكن هناك ذرية على وجه الأرض، إذاً فالله يحلل لحكمة ويحرم لحكمة، وما ذلك إلا لمصلحة العباد.

ثانياً: أن نصوص الكتاب والسنة تدل على جواز النسخ، يقول الله في سورة النحل: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل:101]، ويقول ربنا في سورة البقرة: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

ينقسم النسخ إلى أربعة أقسام:

الأول: نسخ القرآن بالقرآن، وهذا كثير في القرآن، مثال ذلك: يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]، أي: أن من أراد أن يناجي النبي صلى الله عليه وسلم منفرداً فعليه أن يتصدق قبل ذلك، وقد تصدق علي بن أبي طالب بنصف دينار ثم ناجى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذه الآية قد نسخت حكماً وبقيت تلاوة، والناسخ لها هو قول الله تعالى في نفس السورة: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13].

مثال آخر: كان في أول الأمر أن المرأة المتوفى عنها زوجها تعتد حولاً كاملاً، يقول ربنا: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، ثم نسخت بقول الله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234].

الثاني: نسخ القرآن بالسنة، وهذا ينقسم إلى قسمين:

الأول: نسخ القرآن بالسنة المتواترة.

الثاني: نسخ القرآن بالسنة الآحادية.

فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقد أجازه مالك وأبو حنيفة وأحمد ، وأما نسخ القرآن بالسنة الآحادية فموضوع خلاف، فالجمهور على عدم وقوعه؛ لأن القرآن قطعي الثبوت، والسنة الآحادية ظنية الثبوت، فلا يُنسخ القطعي بالظني.

وهناك رأي بجواز ذلك.

الثالث: نسخ السنة بالقرآن، كصلاة المسلمين في أول الأمر إلى المسجد الأقصى، ثم نسخ ذلك بقول الله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وكوجوب صيام يوم عاشوراء في أول الأمر، ثم نسخ بوجوب صيام رمضان، فقال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فبقي صيام عاشوراء على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر.

الرابع: نسخ السنة بالسنة، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسواءً كانت السنة أحادية أم متواترة.

وأما الإجماع والقياس فلا يُنسخان - بضم الياء - ولا يَنسخان - بفتح الياء -.

الأول: نسخ الحكم والتلاوة معاً.

الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.

الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة أصول الفقه [8] 1756 استماع
سلسلة أصول الفقه [4] 1727 استماع
سلسلة أصول الفقه [5] 1288 استماع
سلسلة أصول الفقه [3] 1266 استماع
سلسلة أصول الفقه [6] 1249 استماع
سلسلة أصول الفقه [7] 1021 استماع
سلسلة أصول الفقه [2] 925 استماع
سلسلة أصول الفقه [1] 551 استماع