سلسلة أصول الفقه [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا أيها الناس! اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون، خلقنا من عدم، وأطعمنا من جوع، وعلمنا من جهل، وكسانا من عري، وهدانا من ضلال، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! نعود إلى ما بدأنا به قبل شهر رمضان، وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، وأن يختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وأن يبلغنا رمضان أعواماً عديدة، ودهوراً مديدة، وأن يحسن خاتمتنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كنا قد توقفنا في أصول الفقه عند مصادر التشريع أو ما نسميه بأدلة الأحكام، وتحدثنا عن القرآن باعتباره أصل الأصول ومصدر المصادر، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى السنة باعتبارها المصدر الثاني، أو قل: المصدر الأول في نفس الرتبة مع القرآن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أوتيت القرآن ومثله معه، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) ، فحاجة القرآن للسنة أشد من حاجة السنة للقرآن، ولا يمكن بحال أن نستغني عن السنة، والهجوم على السنة هجوم على القرآن، لكنهم لا يستطيعون أن يهاجموا القرآن، فمن طريق غير مباشر يتعدون على السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول لسيد البشر صلى الله عليه وسلم: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، ويقول ربنا تبارك وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فلا شك أن السنة لها منزلة عظيمة.

ولشيخنا العلامة الألباني رحمه الله تعالى رسالة مختصرة تحمل عنوان: منزلة السنة في التشريع، بين فيه بالأدلة التفصيلية أنه لا يمكن بحال للقرآن أن يستغني عن السنة، فكلاهما يبين الآخر.

توقفنا عند المصدر الثاني وهو السنة، وقلنا: إننا سنعيش مع علم مصطلح الحديث في عجالة؛ لنعرف بعض المصطلحات عند علماء الحديث، وقلنا: إن مرجعنا في ذلك هي المنظومة البيقونية، وهذا عرض سريع للمنظومة.

قال الناظم رحمه الله:

أبدأ بالحمد مصلياً على محمد خير نبي أرسلا

وذي من أقسام الحديث عدة وكل واحد أتى وحده

أولها الصحيح وهو ما اتصل إسناده ولم يشذ أو يعل

يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله

والحسن المعروف طرقاً وغدت رجاله لا كالصحيح اشتهرت

وكل ما عن رتبة الحسن قصر فهو الضعيف وهو أقسام كثر

وما أضيف للنبي المرفوع وما لتابع هو المقطوع

والمسند المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن

وما بسمع كل راوٍ يتصل إسناده للمصطفى فالمتصل

مسلسل قل ما على وصف أتى مثل أما والله أنبأني الفتى

كذاك قد حدثنيه قائماً أو بعد أن حدثني تبسما

عزيز مروي اثنين أو ثلاثة مشهور مروي فوق ما ثلاثة

معنعن كعن سعيد عن كرم ومبهم ما فيه راو لم يسم

وكل ما قلت رجاله علا وضده ذاك الذي قد نزلا

وما أضفته إلى الأصحاب من قول وفعل فهو موقوف زكن

ومرسل منه الصحابي سقط وقل: غريب ما روى راوٍ فقط

وكل ما لم يتصل بحال إسناده منقطع الأوصال

والمعضل الساقط منه اثنان وما أتى مدلساً نوعان

الأول الإسقاط للشيخ وأن ينقل عمن فوقه بعن وأن

والثان: لا يسقطه لكن يصف أوصافه بما به لا ينعرف

وما يخالف ثقة فيه الملا فالشاذ والمقلوب قسمان تلا

وضع العلماء للحديث الصحيح شروطاً أربعة وهي:

الأول: اتصال السند، أي: أن يكون السند متصلاً ليس فيه انقطاع في أوله أو في وسطه أو في آخره؛ لأن السند هو الطريق المؤدي إلى المتن، فبدون اتصال السند يكون الحديث ضعيفاً.

الثاني: عدالة الرواة، ومن شروط العدالة: الصدق وعدم الكذب، وضبط الدين، والمروءة.

الثالث: عدم الشذوذ.

الرابع: عدم العلة.

قال الناظم:

أولها الصحيح وهو ما اتصل إسناده ولم يشذ أو يعل

يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله

إذاً: فهذه شروط الحديث الصحيح، والإسناد من فخر هذا الدين، ومن محاسن هذه الشريعة الغراء.

هناك فرق واحد وهو: أن الحديث الحسن يكون فيه الراوي خفيف الضبط، مع توفر شروط الحديث الصحيح من اتصال السند، وعدالة الرواة، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، إلا أن الرواة في الحسن خفيفي الضبط، وفي الصحيح تامي الضبط، ولذا فالحسن في مرتبة أدنى من مرتبة الصحيح.

إذا سقط من أول السند راوٍ فأكثر على التوالي يسمى معلّقاً، وللبخاري في الصحيح معلقات غلقها العلامة ابن حجر في كتاب يسمى: تغليق التعليق.

فإن سقط من وسط السند راويان على التوالي يسمى معضلاً.

قال الناظم:

والمعضل الساقط منه اثنان وما أتى مدلساً نوعان

وإن سقط من وسط السند راويان لا على التوالي نسميه منقطعاً، وإن سقط راوٍ من آخر السند فوق التابعي نسميه مرسلاً.

قال الناظم: ومرسل منه الصحابي سقط.

وهذا التعريف غير صحيح، والأولى أن يقول : ومرسل فوق التابعي سقط، أي: ما بعد التابعي؛ لأننا لا ندري من الساقط فيسمى مرسلاً.

والمعضل والمنقطع والمرسل والمعلق كلها من أنواع الضعيف.

إذا نقل الراوي حديثاً بصفة لاصقة بالحديث، كأن يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتسم حتى بدت نواجذه، فيبتسم أبو هريرة، فنسمي هذا الحديث مسلسلاً.

قال الناظم:

مسلسل قل: ما على وصف أتى مثل أما والله أنبأني الفتى

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ: (إني أحبك! فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، فـمعاذ رضي الله لما أراد أن يحدث بهذا الحديث قال لمن حدثه : إني أحبك، ومن حدثه قال لمن حدثه: إني أحبك، فأصبحت كلمة: (إني أحبك) صفة لاصقة بالحديث، وعندئذ نسمي الحديث مسلسلاً.

ثم بعد ذلك تحدث الناظم عن المدلس وعن أنواع التدليس وعن الشذوذ.

قال الناظم:

وما يخالف ثقة فيه الملا فالشاذ والمقلوب قسمان تلا

إبدال راو ما براوٍ قسم وقلب إسناد لمتن قسم

شرع الناظم في بيان الحديث المقلوب، وهو ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يكون القلب في السند.

الثاني: أن يكون القلب في المتن.

ومن أمثلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، قال الراوي: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ، فهذا نسميه قلب المتن؛ لأن الإنفاق يكون باليمين لا بالشمال، فقلب الراوي اليمين بدلاً من الشمال.

وقد يكون القلب في السند، بمعنى: أنه يقدم ويؤخر في السند، وقد حدث هذا مع شيخ المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، فقد كان طبيب الحديث في علله رحمه الله تعالى، لما نزل بغداد أراد جمع من العلماء أن يختبر ذكاءه وحفظه -كلما زادت حاسة الحفظ عند العبد فهذا معناه رضا من الله عز وجل عليه- فجلس البخاري بينهم فأرادوا أن يختبروه، فأتوا بمائة حديث وقلبوا أسانيدها، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات) رواه عمر بن الخطاب ، فجعلوا الراوي هو أبو هريرة بسند مختلف، وهكذا في كل الأحاديث.

فقام السائل الأول يقول له: حدثنا فلان عن فلان عن أبي هريرة قال: (إنما الأعمال بالنيات)، فقال البخاري: لا أعرفه، فقال الجهلاء: سقط في الاختبار، وقال العلماء: أدرك اللعبة، وقام الثاني والثالث والبخاري لا يزيد على أن يقول: لا أعرفه، حتى أتموا المائة، ولما انتهوا قال: أين السائل الأول؟ قال: أنا. قال: حديثك الذي ذكرت كذا، وصحة السند كذا، حتى أتى على المائة تماماً بترتيبها.

يقول الحضور: ما عجبنا من تصحيحه بقدر ما عجبنا من إعادته للأحاديث المائة مرتبة كما ذكروها.

قوله الناظم: (والمقلوب قسمان تلا)، أي: أن المقلوب قسمان.

الأول: إبدال راوٍ ما براوٍ، مثل أن يقول: حدثنا مكي بن إبراهيم ، فيضع مكانه أبا اليمان.

الثاني: قلب إسناد لمتن قسم

وقد بين الناظم أنواع القلب في هذا البيت، وإن شاء الله تعالى سنواصل الحديث بعد ذلك.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة أصول الفقه [8] 1759 استماع
سلسلة أصول الفقه [4] 1729 استماع
سلسلة أصول الفقه [5] 1289 استماع
سلسلة أصول الفقه [3] 1269 استماع
سلسلة أصول الفقه [6] 1252 استماع
سلسلة أصول الفقه [9] 1218 استماع
سلسلة أصول الفقه [7] 1024 استماع
سلسلة أصول الفقه [1] 553 استماع