سلسلة أصول الفقه [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما ترك من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

ففي علم أصول الفقه سأتحدث عن موضوعات ترتبط بعلمين: علم أصول الفقه، وعلم علوم القرآن، وهي المطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، هذه الموضوعات الأربعة من أهم الموضوعات، وهذه الموضوعات سنتحدث عنها ثم نلخصها بإذن الله عز وجل.

وقبل أن نبدأ في الدرس هناك أمور تحتاج إلى تعليق منا، فهناك حملة إعلامية الآن خاصة بالنساء يكتب على الشاشة: لا لختان الإناث، لا للزواج المبكر، ونقول: نعم لختان الإناث، ونعم للزواج المبكر، وهذه الحرب على الزواج المبكر، والتي يراد منها تأخير سن الزواج المقصود منها: انتشار الفاحشة، والدعوة إلى عدم ختان الإناث الهدف منها غير معلن، لكننا نفهم هذا الهدف، وختان الإناث أمر قرر شرعاً عند فقهاء الأمة جميعاً، حتى قال الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر في رسالة أصدرها كملحق لمجلة الأزهر: لو اجتمع أهل بلد على عدم ختان الإناث وجب على ولي الأمر أن يقاتلهم، وهذا رأي الأحناف، والمسألة ليس في شرعيتها خلاف، إنما الخلاف بين الفقهاء في: هل هو واجب على النساء أم مكرمة يعني سنة؟ ولم يقل أحد من فقهاء الأمة: إنه غير مشروع، والذين قالوا: إن بنات النبي صلى الله عليه وسلم لم يختتن كاذبون في دعواهم، ففي الأدب المفرد عند البخاري : أن أم المهاجر أسلمت على كبر سنها ومعها بعض النسوة فأمر بهن عثمان فاغتسلن واختتن، فاختتن بعد سن متقدمة، وعند البخاري في الصحيح في كتاب الغسل: باب إذا التقى الختانان، يعني: ختان الرجل، وختان الأنثى، فالمرأة تختتن بدون أدنى شك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: وكان الرجل يعير قديماً إن لم تكن أمه مختونة فيقال له: يا ابن القلفاء، أي: أمك ليست مختونة، فهي تتطلع إلى الرجال أكثر من غيرها، فكان عار بين الرجال في المجتمعات ألا تختتن المرأة، فننادي بأعلى صوتنا: يا قلفاء اختتني، ولا تستجيبي لهذه الحملة المسعورة مدفوعة الأجر؛ لأجل أن تشيع الفاحشة في مجتمع المسلمين.

وأما الزواج المبكر فهو يعالج مشاكل كثيرة، لكنهم يريدون من الأمة بهذا الشحن الإعلامي التبرج السائد، وإن لم يتزوج الشاب مبكراً، أو البنت مبكرة فسيحصل الفساد.

والشافعي قال: رأيت جدة في اليمن عمرها إحدى وعشرون سنة، يعني: أنها تزوجت لتسع فأنجبت بنتاً، فأصبحت أمها جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، فماذا يريد منا هؤلاء؟

فنقول: بكر بزواج ولدك إذا استطاع الباءة، وبزواج ابنتك ولا تستجب لهذه الحملة المسعورة.

وهكذا مسألة تحديد النسل، ونحن -والحمد لله- بلا فخر نفوق السبعين مليوناً، وسنصل -إن شاء الله- إلى مائة، والحملة عكسية، فهل أحد من علماء الاقتصاد يقول: إن الثروة البشرية تعطل الموارد؟ ما قال أحد هذا، بل إن الثروة البشرية كنز، لكن المشكلة هي في استغلال هذه الثروة البشرية، فلابد أن تستغل، حتى تكون طاقة منتجة، وزيادة عدد الأولاد يسموها في الأرياف عندنا عزوة، فيمشي الرجل ووراءه عشرة أولاد أو أكثر، يمشي وهو مفتخر بهم، بخلاف من لم يكن له إلا ولد أو اثنان، قال عز وجل: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:11-13] أي: أنه كان يفتخر بكثرة أولاده.

فمصر الآن تتمتع بقوة بكثرة عدد سكانها، والقاهرة الكبرى وحدها تعادل بعض الدول، بل بعض الدول كقطر -مثلاً- تساوي حياً في القاهرة، وهذه مسألة لها فخر واعتزاز، لكن المشكلة فعلاً هي في عدم استغلال هذه الثروة البشرية، حتى تكون ثروة منتجة، وثروة مؤمنة لها وجود ولها كيان، وعندئذ لا يمكن لقائل أن يقول: إنها كساد، وأنها تعطل، وأنها وأنها.

وهذا الكلام أؤكد لكم أنه يأتي بنتيجة عكسية، والحمد لله رب العالمين، فهم يعطون وسائل منع حمل، لكن تجد المرأة تلد أربعة بدلاً من اثنين.

فنقول لهم: وجهوا هذه الموارد لأمر آخر، اكسوا العراة.. أنفقوا على الفقراء.. اشتروا كتباً لطلبة العلم، فهذا العلاج الذي يمكن أن يقدم للأمة خيراً.

نتكلم في هذا الدرس على المطلق والمقيد، ونذكر تعريف المطلق وتعريف المقيد، وأنواع المطلق والمقيد، مع الأمثلة سريعاً بإذن الله عز وجل، لذا فأقول: إن بعض الأحكام الشرعية يأتي مطلقاً، وبعضها يأتي مقيداً، فما هو المطلق؟ وما هو المقيد؟

موضوع المطلق والمقيد موضوع نحتاج إليه في علم أصول الفقه وفي علم علوم القرآن.

والمطلق هو: ما دل على الحقيقة بلا قيد.

والمقيد: ما دل على الحقيقة بقيد.

مثال ذلك: يقول ربنا في سورة المائدة في آية الوضوء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فقوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، فكلمة (اليد) هنا جاءت مقيدة بقوله تعالى: إلى المرافق ، فقيد اليد بغسلها إلى المرفق، فدخل غسل المرفق في الوضوء، ولو قال: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) وأطلق، فسنغسل اليد إلى الرسغ؛ لأن اليد إذا أطلقت دون قيد أريد بها اليد المعروفة عندنا.

لكن في قوله تعالى في آية التيمم: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فكلمة: (اليد) هنا جاءت مطلقة، لكن في آية الوضوء جاءت فيها (اليد) مقيدة.

مثال آخر من القرآن الكريم للمطلق والمقيد: يقول ربنا في سورة المجادلة: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3]، رجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أو حرام، أو حرم زوجته على نفسه: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] فـ(الرقبة) هنا جاءت مطلقة: ذكر، أنثى، غلام، صغير، كبير، مؤمنة، كافرة.

وفي قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، فـ(الرقبة) هنا جاءت مقيدة.

ينقسم المطلق والمقيد إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يتحد السبب والحكم.

القسم الثاني: أن يتحد السبب ويختلف الحكم.

القسم الثالث: أن يختلف السبب ويتحد الحكم.

القسم الرابع: أن يختلف السبب ويختلف الحكم.

وتفصيل ذلك:

أولاً: أن يتحد السبب والحكم، مثال ذلك: يقول ربنا سبحانه في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، فإذا حلف رجل يميناً على شيء، ثم أراد أن يحنث فيها، فنقول له: كفِّرِ، وتكون الكفارة بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم -للتخيير- أو تحرير رقبة، ومن كان غير قادر على الكسوة، وغير قادر على تحرير رقبة، فإنه يصوم ثلاثة أيام، لكن هل يصوم ثلاثة أيام متتابعة أم متفرقة؟ في الآية: فصيام ثلاثة أيام جاءت مطلقة، سواء كانت متتالية أو متفرقة.

لكن في قراءة لـابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، فإن ثبتت هذه القراءة فيجب علينا أن نحمل المطلق على المقيد؛ لاتفاق السبب والحكم، والآية واحدة، سببها واحد وحكمها واحد، وهذا قول الأحناف وقول الشافعي ، وهو أنه يجب أن يكون صيام الأيام متتابعاً؛ حملاً للمطلق على المقيد، وقال جمهور العلماء: قراءة ابن مسعود قراءة شاذة، ولا يجب أن تحمل الآية المطلقة على قراءة شاذة، وبالتالي فصيام الثلاثة أيام جاء مطلقاً فيبقى على إطلاقه، وهذا هو القول الراجح.

ثانياً: اتحاد السبب واختلاف الحكم، مثال ذلك: آية الوضوء مع آية التيمم، قال الله عز وجل في آية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فهذه مقيدة، وفي آية التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، وهذه مطلقة، فهل يجوز أن أحمل المطلق في آية التيمم على المقيد في آية الوضوء؟ الجواب: يجوز عند الشافعي، قال رحمه الله: في حالة التيمم على المسلم أن يمسح الوجه والكفين إلى المرفقين بالتراب، فحمل المطلق في آية التيمم على المقيد في آية الوضوء.

وقال جمهور العلماء: ليس كذلك؛ لأنه لا يجب أن يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الحكم، وهنا الحكم قد اختلف، فهذه طهارة وهذه طهارة، والسبب واحد وهو أن كلاهما رفع الحدث.

ثالثاً: أن يختلف السبب ويتحد الحكم، ولهذا القسم نوعان:

النوع الأول: أن يكون التقييد واحداً، مثال ذلك: عتق الرقبة في الكفارة، ففي آية الظهار جاءت الرقبة مطلقة، قال عز وجل: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]، أي رقبة، وفي سورة النساء جاءت الرقبة مقيدة بالإيمان في قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، فالرقبة قيدت في موضع وأطلقت في موضع، فحمل كثير من الفقهاء المطلق على المقيد وهو الراجح، وقالوا: ينبغي أن تكون الرقبة مؤمنة في الحالتين.

فهنا اختلف السبب واتحد الحكم، فكفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ السبب مختلف، والحكم واحد وهو عتق رقبة.

النوع الثاني: أن يكون التقييد مختلفاً، قال تعالى في كفارة القتل الخطأ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92]، وفي كفارة الظهار قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:4].

وجاء تقييده بالتفريق في صوم المتمتع بالحج: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196]، فهنا تفريق الصوم: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم، وقال في كفارة اليمين: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة:196] وقال في قضاء رمضان: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فالمطلق هنا لا يحمل على المقيد؛ لأن القيد مختلف.

رابعاً: أن يختلف السبب ويختلف الحكم، مثال ذلك: اليد في الوضوء واليد في السرقة، فهل يمكن أن أحمل اليد المطلقة في آية السرقة على الآية المقيدة في آية الوضوء؟ الجواب: لا؛ لاختلاف السبب واختلاف الحكم، لذلك ربنا يقول في السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، ويقول ربنا في الوضوء: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فهل نقطع في السرقة من المرفق؟ الجواب: لا؛ لاختلاف السبب والحكم، والقطع بالإجماع من الرسغ من أعلى الكف، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة أصول الفقه [8] 1756 استماع
سلسلة أصول الفقه [4] 1727 استماع
سلسلة أصول الفقه [5] 1288 استماع
سلسلة أصول الفقه [3] 1267 استماع
سلسلة أصول الفقه [9] 1217 استماع
سلسلة أصول الفقه [7] 1021 استماع
سلسلة أصول الفقه [2] 925 استماع
سلسلة أصول الفقه [1] 551 استماع