أرشيف المقالات

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى

مدة قراءة المادة : 31 دقائق .
﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾
[البقرة: 197]

قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
فالتقوى هي وصيةُ الله عزَّ وجل للبشر أجمعين؛ وذلك لأنها جامعةٌ لكل خير، فالذي يتَّقي الله سبحانه وتعالى سيوحِّده وحده ولن يشرك به شيئًا، سيبحث عمَّا يُرضيه سبحانه فيأتيه، وعمَّا يغضبه سبحانه فيجتنبه، فهي خير وصية من ربِّ البريَّة، يرشد عبادَه لما فيه فلاحُهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة.
 
شرف التقوى وأهميتها:
قال الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، فالتقوى هي أفضلُ زاد يتزوَّد به العبد.
 
وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63].
 
وجعل الله التقوى هي ميزان الحقِّ الذي يوزن به الناس، لا ميزان الحَسَب والنسب والمال والشهرة؛ فقال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
 
والتقوى أجملُ لباسٍ يتزيَّن به العبدُ، قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
 
وهي سببٌ لمحبة الله عز وجل؛ ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].
 
وبها ينال العبدُ معيَّةَ الله عز وجل؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخَالق الناسَ بخُلُق حسن)).
 

• كتب عمر إلى ابنه عبدالله: "أمَّا بعد، فإني أوصيك بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنه من اتَّقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زادَه، واجعل التقوى نُصْب عَينك وجلاء قلبك".
 
• وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل: "أوصيك بتقوى الله عزَّ وجل؛ التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلاَّ أهلَها، ولا يثيب إلاَّ أهلَها، فإنَّ الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلني اللهُ وإياك من المتقين".
 
• قال ابن القيم رحمه الله: ودَّع ابنُ عون رجلاً، فقال: "عليك بتقوى الله؛ فإن المتَّقي ليس عليه وَحْشَة".
 
• قال الثوري: "إن اتَّقيت اللهَ كفاك الناسَ، وإن اتَّقيت النَّاسَ لن يُغنوا عنك من الله شيئًا".
 
• وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها)).
 
تعريف التقوى:
اختلفَت التعبيرات في تعريف التقوى، ولكنَّها كلها تدورُ حولَ مفهومٍ واحد؛ وهو: "أن يأخذ العبدُ وقايته مِن سخط الله عز وجل وعذابه؛ وذلك بامتثالِ المأمور، واجتناب المحظور".
 
قال الحافظُ ابن رجب: "وأصل التَّقوى: أن يجعل العبدُ بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد ربَّه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربِّه مِن غضبه وسخطه وعقابه - وقايةً تقيه من ذلك؛ وهو فعلُ طاعته، واجتناب معاصيه".
 
قال ابن القيم: التَّقوى حقيقتُها: العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر اللهُ به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى اللهُ عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيده، كما قال طَلْق بن حبيب: "إذا وقعَت الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة اللهِ على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصية الله على نورٍ من الله تخاف عقاب الله"، وهذا من أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإن كلَّ عمل لا بد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعةً وقربة حتى يكون مبدؤُه محض الإيمان، وغايتُه ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب.
 
وقد جمع هذا التعريفُ بين شرطَي قبول العمل: الإخلاص والاتباع، فبدونهما لا تتحقق التَّقوى المنشودة.
 
وقال ابن مسعود: "حق تقاته؛ أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر"، قال ابنُ رجب: وشكره يدخل فيه جميع فعلِ الطاعات، ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبِه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته، كما قال أبو هريرة وسئل عن التقوى، فقال: "هل أخذتَ طريقًا ذا شوك"، قال: نعم، قال: "كيف صنعت؟"، قال: إذا رأيتُ الشوكَ عدلت عنه أو جاوزتُه أو قَصرت عنه، قال: "ذاك التقوى".
 
• لا تكون من المتقين حتى تكون عالمًا بما تتَّقي: لا يستطيع أحد أن يتَّقي ربَّه ما لم يكن عالِمًا بما يتقيه، فالتَّقوى تكونُ بفِعل الصالحات، وتركِ المنكرات، فإذا كان المرءُ غيرَ عالمٍ بما يتَّقيه فقد يظن المنكرَ معروفًا، والمعروفَ منكرًا، وهذا يقع للمبتدعة كثيرًا؛ فتراهم يبتدعون أعمالاً ما أنزل اللهُ بها من سُلطان، يظنون أنها تقرِّبهم إلى الله.
 
قال ابنُ رجب: "أصل التَّقوى: أن يعلم العبدُ ما يتقي ثم يَتَّقي، وذكر معروف الكرخي: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يتقي؟! ثم قال: إذا كنتَ لا تُحسن تتَّقي أكلتَ الرِّبا، إذا كنت لا تحسن تتَّقي لقيَتك امرأةٌ ولم تغضَّ بصرك".
 
مراتب التقوى:
1- اتِّقاء الكُفر والشرك: أول ما يجب على العبد أن يتَّقيه الشرك بالله.
 
2- اتِّقاء البِدَع: وتكون باعتقاد خلاف الحقِّ الذي أَرسل الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم، أو التعبُّد بما لم يأذن به الله.
 
3- اتِّقاء كبائر الذُّنوب؛ الشيطان إذا ظفر بالعبد زيَّن له الكبائر وحسَّنها في عينه وسوَّف له، وفتح له باب الإرجاء.
 
4- اتِّقاء صغائر الذنوب: فالشيطان يوسوِس للإنسان، ويقول له: "ما عليك إذا اجتنبتَ الكبائر ما غشيت من اللَّمَم، أوَما علمت بأنها تُكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات؟"، ولا يزال يهوِّن عليه أمرَها حتى يُصرَّ عليها فيكون مرتكب الكبيرة الخائف النادم أحسن حالاً منه، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُم وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَومٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ)).
 
5- اتِّقاء المباحات: فالمباحات لا حرج على فاعلها، ولكن التوسُّع فيها قد يضرُّ صاحبَها وقد يوقعه في المنهيات.
 
6- اتِّقاء تفضيل الأعمال المرجوحة: فالشيطان يأمرُ العبدَ بالأعمال المرجوحة من الطاعات، فيأمره بها ويحسِّنها في عينه ويزينها له، ويريه ما فيها من الربح والأجر؛ ليشغله بها عمَّا هو أفضل منها؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثَّواب طمع في تخسيره كمالَه وفضله.
 
يقول ابن القيم رحمه الله: "ولكن أين أصحاب هذه العقبَة؟! فهم الأفراد في العالم، والأكثر قد ظفر بهم الشيطانُ في العقبات الأُول".
 
فمن الناس من يقي نفسَه الخلودَ في النار؛ وذلك بالإقرار بالتوحيد، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يقي نفسَه دخولَ النار بالكلية، فيفرِّط في الواجبات ويتلبَّس بالمخالفات، فهذا نوعٌ من التقوى وإن كان في أدنى درجاتها، ولا يستحق صاحبها اسم المتقي بإطلاق؛ لأنه متعرِّض للعذاب مستحقٌّ للعقاب، إن لم تتدارَكْه رحمةُ الله؛ فإنه تعالى: ﴿ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
 
ومن الناس من يتَّقي الكفرَ وكبائر الذنوب، إلاَّ أنَّه لا يتورَّع عن الصغائر ولا يكثر من النوافل، فلا شكَّ أنه أقرب للنَّجاة، إلاَّ أنه لم يأخُذ الجُنَّة الكاملةَ من النار، فلا بدَّ أن يكون هناك من التقصير في الفرائض والوقوع في الصغائر التي يُخشى من المداومة عليها التجرؤ على الكبائر، وليس له مِن نوَافل الطاعات واجتناب الشُّبُهات والمكروهات ما يكمل به تقوى العبد.
 
فالتقوى الحقيقية هي: أن يجتهدَ العبدُ في تَرْك الذنوب كلِّها صغارها وكبارها، ويجتهد في الطاعات كلِّها الواجبات والنوافل ما استطاع، فمثل هذا يستحق اسم المتقي.
 
كيف تتقي الله عز وجل؟
1- محبَّة الله عز وجل:
قال ابنُ القيم رحمه الله: "المحبةُ شجرةٌ في القلب؛ عروقُها: الذلُّ للمحبوب، وساقُها: معرفته، وأغصانها: خشيتُه، وورقها: الحياء منه، وثمرتها: طاعته، ومادتها التي تسقيها: ذكرُه، فمتى خلا الحبُّ عن شيء من ذلك، كان ناقصًا".
 
من الأسباب الجالبة لمحبة الله:
1- قراءة القرآنِ بتدبُّر، والتفهُّم لمعانيه وما أريد به.
 
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
 
3- دوام ذكره على كل حال؛ باللسان والقلب.
 
4- مطالعةُ القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها، والتقلُّب في رياض معانيها، فمن عرف اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعالِه أحبَّه لا محالة.
 
5- مشاهدة برِّه وإحسانه، وآلائه ونعمه الظاهرة والباطنة.
 
6- مجالسة المحبِّين والصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر.
 
7- مباعدة كل سببٍ يَحُول بين القلب وبين اللهِ عزَّ وجل؛ من الشهوات والشبهات.
 
فهذه الأسباب تشغل القلب بطاعة الله عزَّ وجل وتبعده عن المعصية؛ فإن المحبَّ لا يعصي محبوبه.

تعصي الإلهَ وأنت تزعُم حبَّه
هذا لعمري في القياس شنيعُ

لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه
إن المحبَّ لمن يحب مطيعُ

 
فإذا دخل العبدُ هذا القصر المنيف - محبة الله عز وجل - فإنه تُحبَّب إليه الطاعاتُ ويجد فيها سعادتَه.
 
فمحبةُ الله عزَّ وجلَّ من أعظم الأسباب الموصلة للتقوى؛ فالمحبُّ يُسَرُّ بخدمة محبوبه وطاعتِه، ولا تطاوعه نفسُه على معصيته، كما قال بعض السلف: "إني لا أُحسن أعصي ربِّي"؛ أي: إن جوارحَه لا تأتي معه في المعصية.
 
2-مراقبة الله عزَّ وجلَّ:
أن يدرِّب العبدُ نفسَه على المراقبة، وأن يستشعرَ اطِّلاع الله عز وجل عليه، فيستحي عند ذلك من المعصية، ويجتهد في الطاعة، قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4].
 
قال سفيان بن عيينة: الحياء أخفُّ التَّقوى، ولا يخاف العبدُ حتى يستحي، وهل دخل أهلُ التَّقوى في التقوى إلاَّ بالحياء؟!"، وقال بعض العارفين: "خَف من الله على قَدْر قدرتِه عليك، واستَحِ من الله على قدر قربه منك"، وقال الحارث المحاسبي: "المراقبة علمُ القلب بقرب الربِّ".

إذا ما خلَوْت الدهرَ يومًا فلا تقل
خلوتُ، ولكن قل عليَّ رَقيبُ

ولا تحسبَنَّ اللهَ يَغفُل ساعة
ولا أنَّ ما يخفى عليه يغيبُ

 
3-معرفة ما في سبيل الحرام من المفاسد والآلام:
فليس في الدنيا والآخرة شرٌّ وداءٌ إلاَّ وسببه الذنوبُ والمعاصي.
 
قال ابن القيم رحمه الله: "فما الذي أخرج الأبوين من الجنَّة دارِ النعيم والسرور إلى دار الآلام والأحزان، وما الذي أخرج إبليسَ من ملكوتِ السموات وطردَه ولعنه، وما الذي أغرق أهلَ الأرض حتى علا الماءُ فوق رؤوس الجبال، وما الذي أهلك عادًا وثمودَ وغيرَهم؟".
 
فلا شكَّ أن سبيل المعاصي فيه من التعرُّضِ للعذاب العاجل والآجل، وضيقِ الصَّدر والرزق، وبُغْضِ الخَلْق ومحق البركة، فهي كطعامٍ لذيذ مسمومٍ، يتمتَّع به لحظات، وتبقى آلامُه في الحياة وبَعْد الممات.
 
4- أن تتعلَّم أنْ تغالب هواك وتطيع مولاك:
قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]؛ قيل: هو العبدُ يهوى المعصية، فيذكر مَقَامَ ربِّه عليه في الدنيا، ومقامَه بين يديه في الآخرة؛ فيتركها لله.
 
قال ابن القيم رحمه الله: "وملاكُ الأمر كلِّه الرغبة في الله، وإرادة وجهه، والتقرُّبُ إليه بأنواع الوسائل، والشوقُ إلى الوصول إليه وإلى لقائه، فإن لم يكن للعبد همَّة إلى ذلك؛ فالرغبةُ إلى الجنة ونعيمها وما أعد الله فيها لأوليائه، فإن لم تكن له همَّة عالية تطالبه بذلك؛ فخشيةُ النار وما أَعدَّ اللهُ فيها لمن عصاه، فإن لم تطاوعه نفسه بشيءٍ من ذلك؛ فليعلم أنه خُلِق للجحيم لا للنعيم، ولا يقدر على ذلك بعد قدَر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه".
 
5-معرفة مكايد الشيطان ومصايده:
قال العلاَّمة ابن مفلح المقدسي رحمه الله: "اعلم أن الشيطان يقف للمؤمن في سبع عقبات: عقبة الكفر، فإن سلِم منها ففي عَقَبة البدعة، فإن سلِم منها ففي عقبة فعل الكبائر، ثم في عقبة فعل الصغائر، فإن سَلِم ففي عقبة فعل المباحات؛ فيشغله بها عن الطاعات، فإن غلبَه شغَلَه بالأعمال المفضولة عن الأعمال الفاضلة، فإن سَلِم من ذلك وقف له في العقبة السابعة، ولا يسلم منها المؤمن؛ إذ لو سَلِم منها أحدٌ لسلم منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي: تسليط الأعداء الفَجَرة بأنواع الأذى".
 
فمعرفة هذه العقبات التي يَقف عندها الشيطان، ومعرفة مداخله إلى قلب بني آدم - يُعين على الحذر منه.
 
قال ابن الجوزي: "إنما الشيطان يدخلُ على الناس بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكُّنه منهم ويقلُّ على مقدار يقظتهم وغفلتهم، وجهلهم وعلمهم".
 
مما يستعان به من طاعة الرحمن حتى يحفظ العبدُ نفسَه من وساوس الشيطان:
1- الاستعاذة بالله، قال الله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36].
 
2- قراءة المعوذات، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لم يتعوذ الناسُ بمثلِهن)).
 
3- قراءة آية الكرسي عند النوم.
 
4- قراءة سورة البقرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن البيت الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرة لا يدخله الشيطان)).
 
5- خاتمة سورة البقرة: ((من قرأ الآيتين من آخِر سورة البقرة في ليلةٍ، كفَتَاه)).
 
6- ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))، من قالها في يومٍ مائةَ مرَّة، كانت له حِرزًا من الشيطان حتى يمسي.
 
7- كثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ فما أحرز العبدُ نفسَه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
 
8- الوضوء والصلاة، قال ابنُ القيم رحمه الله: "وهذا أمرٌ تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه".
 
9- إمساك فضول النَّظرِ والكلامِ والطعام ومخالطةِ الناس؛ فإن الشيطان إنما يتسلَّط على ابن آدم، وينال منه غرضَه من هذه الأربعة.
 
صفات المتقين:
فلنتعرف على أصحاب هذه الرُّتَب العليَّة، والدرجات السَّنية؛ حتى لا تدَّعيها النفوسُ وهي عارية منها، وقد يكون العِلم بها مما يشحذ الهمم في طلبها، وبذل النفس في الوصول إليها:
1- فمن صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب إيمانًا جازمًا؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 2، 3].
 
2- ومن صفاتهم أنهم يعفون ويصفحون؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237].
 
وقال تعالى في وصف المتقين: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
 
3- ومن صفاتهم أنهم غيرُ معصومين من الخطايا، إلاَّ من عصمه اللهُ عزَّ وجلَّ من الأنبياء، غير أنهم لا يصرُّون على الذنوب؛ بل كلَّما وقعوا في ذنب رجعوا إلى اللهِ بالتوبة والاستغفار والعملِ الصالح، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتبع السيئةَ الحسنة تمحُها))، ودلَّ على هذه الصِّفة قولُه عزَّ وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
 
4- ومن صفاتهم أنهم يتحرون الصدقَ؛ فهم أصدقُ الناس إيمانًا وأصدقهم أقوالاً وأعمالاً، وهم الذين صدَّقوا المرسلين؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33].
 
5- ومن صفاتهم أنَّهم يعظِّمون شعائرَ الله؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
 
6- ومن صفاتهم أنهم يتحرون العدلَ ويحكمون به، ولا يحملهم بغضُ أحد على تركه؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
 
7- ومن صفاتهم أنهم يتَّبعون سبيلَ الصادقين من الأنبياء والمرسلين وصحابة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
 
ثمرات التقوى:
التَّقوى هي أعظمُ سببٍ للسعادة في الدنيا والآخرة؛ فالمتَّقون يسعدون بالطاعة وثمارها في الدنيا، وشَاهِدُ هذه السعادة في نفس العبد أنَّه إذا وقع في معصية الله عزَّ وجلَّ لضعفِ الوازع - التقوى - كم يجد من حرجٍ في صدره وضيقٍ ووحشةٍ بينه وبين اللهِ عزَّ وجلَّ، وبينه وبين عباد الله المؤمنين، فلو حصلت له الدنيا بحذافيرها لم يعوِّضه هذه الوحشة.
 
ثمرات التقوى العاجلة؛ أي: "في الدنيا":
1- المخرَج مِن كلِّ ضيق، والرزق من حيث لا يحتسب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، قال الربيع بن خثيم: "يجعل له مخرجًا من كل شيءٍ ضاق على الناس".
 
2- السهولة واليسر في الأمر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، وهي نعمةٌ كبرى: أن يجعل اللهُ الأمور ميسَّرة لعبدٍ من عباده، فلا مشقَّة ولا عُسر ولا ضيق.
 
3- تيسير العلم النافع؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]؛ قال ابن عثيمين رحمه الله: أي ما تفرِّقون به بين الحقِّ والباطل، والضارِّ والنافع؛ ومن ذلك: العلم...
يفتح الله على المتَّقي من العلوم ما لا يفتحها لغيره، ومن ذلك الفهم؛ لأن التَّقوى سببُ زيادة الفهم، وقوَّةُ الفهم يحصلُ بها زيادة العلم، ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة؛ فالله يعطي للمتَّقي فرَاسةً يميِّز بها بين الناس.
 
4- إطلاق نور البصيرة؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]، قال محمد رشيد رضا: "الفرقان في اللغة؛ هو: الصبح الذي يفرِّق بين الليل والنهار، ويسمى القرآنُ فرقانًا؛ لأنه كالصُّبح يفرِّق بين الحقِّ والباطل، وتقوى الله في الأمور كلها تعطي صاحبَها نورًا يفرِّق به بين دقائقِ الشبهات التي لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس".
 
5- محبة الله عزَّ وجلَّ ومحبة ملائكتِه والقبول في الأرض؛ قال الله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحبَّ الله العبدَ قال لجبريل: قد أحببتُ فلانًا فأحبَّه؛ فيحبُّه جبريل عليه السلام، ثمَّ ينادي في أهل السماء: إنَّ الله قد أحبَّ فلانًا فأحِبُّوه؛ فيحبُّه أهلُ السماء، ثمَّ يُوضع له القبول في الأرض))، قال أبو الدرداء: "إن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبَّه اللهُ، فإذا أحبَّه الله حبَّبه إلى عبادِه"، وعن هرم بن حيَّان: "ما أقبل عبدٌ بقلبِه إلى الله، إلاَّ أقبل اللهُ بقلوب المؤمنين عليه حتى يرزقَه مودَّتهم".
 
6- نصرة الله عز وجل وتأييدُه وتسديده؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، فهذه المعيَّة هي معيَّة التأييد والنصرة والتسديد، وهي معيَّة اللهِ عزَّ وجل لأنبيائه وأوليائه، ومعيَّته للمتقين والصابرين، قال ابن رجب: "وهذه المعيَّة الخاصة بالمتقين غير المعية العامَّة المذكورة في قوله: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]"، قال قتادة: ومن يتَّق اللهَ يكُنْ معه، ومن يكن اللهُ معَه فمعه الفئةُ التي لا تُغلب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضلُّ"، وكتب بعضُ السلف لأخيه: "أما بعد، إن كان الله معك فمَن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو؟".
 
7- البركات من السماء والأرض؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
 
8- الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]، وهذا تعليمٌ من الله وإرشاد إلى أن يُستعان على كيد الأعداء بالصبر والتَّقوى، وقد قال أحد الحكماء: "إذا أردتَ أن تكبِتَ من يحسدك، فازدَد فضلاً في نفسك".
 
9- حفظ الذريَّة الضعاف بعناية الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].
 
قال ابن المسيَّب لابنه: "يا بني، إني لأزيد في صلاتي مِن أجلك؛ رجاءَ أن أُحفظ فيك، وتلا هذه الآية: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]".
 
10- سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، وقال بعضُ السلف: "لو أعلم أن الله يقبل مني سجدةً بالليل وسجدةً بالنهار، لطِرتُ شوقًا إلى الموت".
 
11- سبب النجاة من عذاب الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [فصلت: 17، 18].
 
ثمرات التقوى الآجلة:
1- تكفيرُ السيئات؛ وهو سبب النجاة من النَّار، وعظمُ الأجر؛ وهو سبب الفوز بالجنة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [المائدة: 65].
 
وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72].
 
2- ميراث الجنة؛ فهم أحقُّ الناس بها وأهلها، بل ما أعدَّ الله الجنةَ إلاَّ لأصحاب هذه الرُّتبة العليَّة والجوهرة البهية؛ قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63]، وقال تعالى: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
 
3- وهم لا يذهبون إلى الجنة سيرًا على الأقدام؛ بل يُحشرون إليها رُكبانًا، مع أن الله يقرِّب الجنةَ إليهم تحيةً لهم ودفعًا لمشقتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [ق: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85].
 
4- وهم لا يدخلون أدنَى درجاتها؛ بل يفوزون فيها بأعلى الدَّرجات وأفضلِ النعيم، نسألُ الله من فضله العظيم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾ [النبأ: 31]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55]، ووصف اللهُ عزَّ وجلَّ دارهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30].
 
5- وهي تجمع بين المتحابِّين من أهلها حين تنقلب كلُّ صداقة ومحبَّة إلى عداوة؛ قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، فالمتَّقون هم الذين تدوم محبَّتُهم وخلَّتهم، كما قيل: "ما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغير الله انقطعَ وانفصل".
 
6- وهم يسعدون بالصُّحبة والمحبة وهم يساقون إلى الجنة زمرًا زمرًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].
♦ ♦ ♦ ♦
 

وختامًا:
وقد سعدنا بصحبة التَّقوى وأهلِها وثمارها، فهل لك في أن تحقِّق لنفسك السعادةَ في لحظة واحدة؟ وهي لحظة صِدقٍ يجلس فيها العبدُ إلى نفسه، فلا يخدعها ولا تخدعه، يفكِّر فيما مضى من عُمره، ويتذكر قول القائل: ما مضى من أعمارنا وإن طالَت أوقاتُه، فقد ذهبَت لذَّاته، وبقيَت تبعاتُه، وكأنه لم يكن إذا جاء الموتُ وميقاته، قال الله عز وجل: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ [الشعراء: 205- 207].
 
تلا بعضُ السلف هذه الآيةَ وبكى، وقال: إذا جاء الموتُ لم يُغن عن المرءِ ما كان فيه من اللَّذَّة والنعيم.
 
فالدنيا معبَر لا مقر، وراحلة لا مُكث، والسعيدُ من اتَّعظ بغيره، وانتَهَز فرصةَ الحياة في التزوُّد للآخرة.
 
قال الحسن: نِعمَت الدَّار كانت للمؤمن؛ وذلك لأنه عمِل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنَّة، وبئسَت الدَّار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زادَه إلى النار.
 
وكل نفَسٍ من أنفاس العمر جوهرةٌ ثمنية؛ تستطيع أن تشتري بها كنزًا لا يفنى أبد الآباد:

يا مَن بِدُنياه انشغَل
وغرَّه طولُ الأمَل

الموتُ يأتي بغتة
والقبرُ صندوقُ العَمَل

 
فهل لك يا عبد الله في الفلاحِ والنجاح، والفوز والنجاة في لحظة واحدة، لحظة صِدق تتذكَّر ما مضَى من جنايات ومخالفات؛ فتُصلح الماضي بتوبة، وتُصلح الحاضرَ بعملٍ صالح، وتُصلح المستقبلَ بعزيمة صادقة ونيَّة مخلصة على الاستمرار في طاعة الله عزَّ وجلَّ والتزوُّد بالتقوى.
 
قال ابن القيم رحمه الله:
هلمَّ إلى الدُّخول على الله ومجاورته في دار السَّلام بلا نَصَبٍ ولا تعبٍ ولا عناء؛ بل من أقرب الطُّرُق وأسهلها؛ وذلك أنك في وقتٍ بين وقتينِ، وهو في الحقيقة عُمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تُصلحه بالتوبة والنَّدم والاستغفار؛ وذلك شيءٌ لا تعبَ عليك فيه ولا نَصَب ولا معاناة عمل شاقٍّ، وإنما هو عملُ القلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب؛ وامتناعك تركٌ وراحة ليس هو عملاً بالجوارح يشقُّ عليك معاناته؛ وإنَّما هو عزمٌ ونيَّة جازمة تريح بدنَك وقلبَك وسرَّك.
 
فما مضى تصلحُه بالتوبة، وما يستقبل تصلحُه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصَبٌ ولا تَعَب، ولكن الشأن في عُمرك؛ وهو وقتُك الذي بين الوقتين، فإن أضعتَه أضعتَ سعادتك ونجاتك، وإن حفظتَه مع إصلاحِ الوقتين اللذَين قَبلَه وبعده بما ذُكر، نجوتَ وفُزْت بالرَّاحة واللَّذَّة والنعيم.
 
نسألُ الله أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يرزقنا الحسنى وزيادة، وأن يجعلَنا من عباده المتَّقين الذين يسعدون في الدنيا بالطاعات ومحبة رب العالمين، وفى الآخرة بالجنَّاتِ والنظر إلى وجه الله الكريم.
 
المراجع:
كتاب: "التقوى: الدُرَّة المَفقُودة، والغاية المَنشُودة"؛ الشيخ أحمد فريد.
كتاب: "التقوى"؛ الشيخ عمر سليمان الأشقر.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢