خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60516"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الغلو في الدين [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيذكر المؤلف تمهيداً في أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية، وينبه إلى أن العلم بحقائق الأشياء والوعي بمفاهيمها لابد من أن يكون أساساً لتضييق دائرة الخلاف أو لإزالته؛ لأنك لا تكاد تجد خلافاً في أي مسألة من المسائل إلا ومن ورائه اختلاف أو سوء فهم بحقيقة الأمر المختلف فيه، قد يكون الطرفان متفقين، ولكن قد يوجد سوء فهم لبعض المصطلحات التي قد تغطي على الحقيقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد رجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ أو نفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله.
فحكم الإنسان على أي شيء أو على أي مبدأ راجع إلى التصور الموجود في ذهنه، لذلك فعلماء المنطق عبروا عن هذا بعبارة صحيحة، وهو قولهم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فإذا تصورت الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة سيختلف حكمك عليه.
مثلاً: كلمة التصوف، يمكن أن نجد من الناس من يتكلم في التصوف فيقول: هؤلاء ملاحدة وزنادقة ومشركون وخارجون من الملة إلى آخر ذلك، وكذلك عن حكم دراسة التصوف.
بينما آخر تجده يمدح التصوف ويذكر محاسنه، وأن أهله أهل دين، وأنهم أولياء الله، وغير ذلك من ألفاظ المديح، لكن إذا دققت ما الذي يقصده هذا الذي عمم في الجانبين ستجد أن من مدح التصوف إنما نظر لما في تصوره وفي ذهنه من أن التصوف هو ذكر الله والاجتهاد في طاعة الله، والتورع عن المحرمات، والاهتمام برياضة النفس وتهذيب القلوب وتزكيتها ... إلى آخره، وقد لا يخطر بباله على الإطلاق تلك المعاني الإلحادية التي انحرف بها بعض غلاة التصوف.
أما الشخص الذي يصف أهل التصوف ويعمم بأنهم ملاحدة وزنادقة وحلوليون، إنما نظر إلى المتطرفين جداً من الصوفية، خاصة في العقيدة، كـابن عربي أو غيره ممن ألحدوا في ذات الله تبارك وتعالى وقالوا بالحلول وبوحدة الوجود أو غير ذلك من العقائد الشركية التي تخرج فاعلها أو ناطقها من الملة.
فإذاً: على الإنسان قبل أن يتكلم في قضية أو في مصطلح معين أن يبين ما الذي يقصده من هذا الذي يذمه أو يمدحه.
اهتم علماء المسلمون بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية اهتماماً بالغاً، وذلك لأمور:
أولاً: أن عدم تحديد الألفاظ ومعانيها وحدودها يجعلها نسبية غير محررة، فيستخدمها كل فريق كما يحلو له بمعنى أنهم يستخدمونها على ما تدفعه الأهواء وما تمليه عليهم العقائد، كما وقع -مثلاً- في تاريخنا الإسلامي من كون بعض الظالمين يصفون أهل السنة والجماعة بأوصاف متناقضة لا يمكن أبداً اجتماعها، حيث نجد المعطلة الذين يعطلون صفات الله تبارك وتعالى يطلقون على أهل السنة بأنهم مشبهة، والمشبهة يسمون أهل السنة بالمعطلة، أما أهل السنة فهم على صراط مستقيم لم تتقاذفهم أهواء هؤلاء ولا أولئك.
ثانياً: أهمية تحديد هذه المصطلحات قبل الخوض فيها؛ لأنه أحياناً قد تحدث معان محدثة طارئة لبعض الألفاظ، وليست معاني أصلية وردت في الكتاب والسنة، فتطرأ بعض المعاني والمفاهيم والاصطلاحات الحادثة لقوم أو فئة من الناس؛ لأن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ موجودة في النصوص الشرعية أو في كلام أهل العلم، فيظن أن المراد بها نظير مراد قومه، ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، وهذا الأمر اتضح وضوحاً تاماً في العصر الحديث، لما للإعلام من أثر في تغيير المصطلحات لكثرة استعمالها، مع أن المراد بها معان غير المعاني التي كانت لها أصلاً.
ثالثاً: تبرز أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية في أنها أصبحت الآن أداة من أدوات الصراع الفكري، إذ يهتم أعداء أي فكرة أو مبدأ في صراعهم مع الأفكار الأخرى بالألفاظ والمصطلحات العلمية، وذلك بتحريفها وتغييب القول الحق فيها، إذ يأتون إلى المعاني الصحيحة فيبرزونها في قوالب منفرة، وكذلك العكس، حيث يأتون إلى المعاني الفاسدة ويبرزونها في قوالب محبوبة للناس، فمثلاً: الفن الذي هو صناعة التماثيل، والذي هو رسم الصور القبيحة التي لا حياء فيها، وغير ذلك، حيث يسمون أعماله الفنون الجميلة، ويقولون: كلية الفنون الجميلة. ومثل هذه الأشياء فيها قلة الحياء، ومبارزة الله سبحانه وتعالى بتصوير ما فيه روح أو صناعة التماثيل، ولا شك أن هذا من أكبر الكبائر.
فإذاً: من أقوى أسلحة أعداء الإسلام في هذا الزمان الترويج للمفاهيم الفاسدة، ومحاربة المفاهيم الصحيحة من خلال اللعب بالمصطلحات، وهذا فن قديم يتقنه أعداء الدعوة في كل زمان ومكان، ولقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان تلك الحقيقة شعراً، حيث يقول:
تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
فعسل النحل الشهي الطيب هو في الحقيقة طيب وشفاء للناس، فيمكن أن تعبر عنه بجنى النحل من باب المدح له، ويمكن أن تعبر عنه بلفظ منفر، فتقول: هذا قيء الزنابير. والقيء هو الذي تخرجه الزنابير من بطنها.
فهكذا ما يحصل اليوم في الصراع الفكري، حيث يقوم المخرفون باستعمال هذه المصطلحات للتلاعب بهذه الحقائق وتنفير الناس منها.
ومعلوم أن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم استعملوا سوء التعبير فيه وفي الوحي الذي جاء به للتنفير عنه وعما جاء به.
ولو نظرنا في قصص جميع الأنبياء لوجدناهم وسموا ووصفوا بالجنون وبالسفاهة وبالضلال، وبغير ذلك من الأوصاف المنفرة، وهم أكمل الناس وأزكى الناس بلا شك، فهذا فرعون لعنه الله يقول في حق موسى عليه السلام: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] إلى غير ذلك من الألفاظ التي رمي بها الأنبياء أجمعون، والمقصود من ذلك تشويه هؤلاء الرسل لكي ينفر عنهم الناس، وهو نفس الشيء الذي حصل داخل الفرق الإسلامية، فنجد أعداء أهل السنة والجماعة قد حرصوا في شتى أحقاب التاريخ الإسلامي على التنفير من مذهب أهل السنة، وإطلاق الألفاظ المنفرة عليهم، كالحشوية والمعطلة أو المشبهة أو غير ذلك من الصفات.
أو تجد هؤلاء المخرفين يستعملون ألفاظاً طيبة لتغليف حقائق فاسدة، كالمعتزلة حينما يقولون: إن مذهبنا يقوم على خمسة أصول: منها التوحيد. فما ذهبوا إليه من انحراف في فهم قضايا العقيدة أسموه توحيداً لترويجهم هذا المذهب الفاسد للناس، ومنها العدل، وهو ضلالهم في القضاء والقدر وغير ذلك.
وهنا مثال من أخطر الأمثلة في الحقيقة، وله أثر سيء جداً في واقعنا المعاصر، ألا وهو كلمة (العلمانية) أو (العالمانية) على الأصح، وهذا المصطلح الخطير حقيقته -كما نعلم- فصل الدين عن الحياة، فاستعمل النصارى هذا المصطلح، ومنهم فيكولر حيث ترجم مصطلح العالمانية إلى علمانية، لكي يلبس على الناس هذا الأمر، فأصبح عامة الناس إذا ذكرت العلمانية يفهمون أن العلمانية المقصود بها احترام العلم واتباع المنهج العلمي، في حين أن الكلمة لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، بل هي أقرب ما تكون إلى الجهل، ولذلك نتحرى أن لا ننطقها بهذا الوصف (العلمانية) حتى لا تلتبس على الناس، بل ننطقها (العالمانية) وهي لا تنسب إلى العلم على الإطلاق، لكن تنسب إلى العالم.
ومعناها: لا علاقة لنا بالدين، وإنما الإيمان بهذا العالم المادي الموجود أمامنا. أي: فصل الدين تماماً عن القيم والأخلاق ونظم الحياة. فهذا معنى الكلمة.
إذاً: أدق وأصح تعبير أن نقول: (العالمانية) نسبة إلى العالم، نسبة إلى هذه الدنيا بغض النظر عن الآخرة، واعتبار قضية الإيمان واليقين والآخرة والغيبيات والدين كلها قضايا شخصية لا ينبغي أن تتدخل في حياة الناس أو تنظم شئونهم. فهذا نموذج من المصطلحات الخطيرة التي روجت، واستغل فيها جهل الناس لتمرير هذه المفاهيم الخبيثة، فقضية (العالمانية) وليست (العلمانية) هي -في الحقيقة- تقوم على الجهل؛ لأن الأشياء التي ينبغي أن تعلم في هذا الوجود ليست هي المعلومات المحسوسة فحسب، وإنما هناك معلومات أعظم وأخطر ينبغي أن نعلمها ونوقن بها، ومنها حقائق الغيب.
ففي الحقيقة حتى لو قلنا: إن العلمانية المقصود بها العلم التجريبي فهذا إنما مجاله -فقط- هو ما يخضع للحواس، فالمنهج العلمي -كما يقولون- هو التجربة والملاحظة والاستنتاج، فلابد في العلم التجريبي من أن يكون خاضعاً للحواس، يرى أو يشم أو يحس .. إلى غير ذلك.
إذاً: العلمانية في الحقيقة تحجب البشر من الاطلاع على القسم الأكبر والأخطر والأهم من المعلومات التي ينبغي أن يؤمنوا بها، وهو الإيمان بالغيب عن طريق الوحي الذي يعلمنا ويعرفنا بغيبيات موجودة لا ننكرها، فالعلمانية في الحقيقة دعوة جهل وليست دعوة علم.
إن العلمانية نشأت -كما نعلم- بسبب صراع الكنيسة مع العلم التجريبي؛ لأنهم كانوا كلما اكتشفوا شيئاً جديداً من الاكتشافات العلمية ثارت الكنيسة وطاردت العلماء وأحرقتهم بالنار وهم أحياء، وحصل صدام شديد جداً، لقد كانت الكنيسة دائماً تتسلط بعقيدتها الشركية التي قدمتها لهم: التثليث، والغفران، والعمد. وهذا مصادم للفطرة، فأدى هذا التنفير والصدام إلى التمرد على هذا الدين، ولذلك فمن التلبيس -أيضاً- أن ينسبوا التقدم المادي في الغرب إلى دين النصارى، كلا، فهم ما تقدموا علماً إلا حين تحرروا من قيود دين كنيستهم المحرف، أما عندنا فمن الظلم أن تطبق هذه العالمانية على دين لم يعرف أبداً على الإطلاق صراعاً بين العلم وبين الدين؛ لأن هذا الدين أنزله الله، وهو الذي خلق الحقائق العلمية عز وجل، فلذلك يأتي نوراً على نور، ويتفق هذان النوران، ولا يمكن أبداً أن يحصل تناقض بين حقيقة علمية ثابتة قطعاً -ولا نقول: نظرية؛ لأن النظرية تتغير- وبين آية أو حديث، لا يمكن أن يحصل تناقض أبداً.
يقول شيخ الإسلام : إن الرسل تخبر بمحارات العقول ولا تخبر بمحالات العقول. أي: تخبر بأشياء يحار فيها العقل بحيث يقصر عن فهمها وإدراكها على وجه التفصيل، ولا تخبر بمحالات العقول، أي: لا تخبر بشيء مستحيل. والمستحيل هو اجتماع النقيضين، وهو لا يمكن أن يحصل، لكن يخبرون بغيبيات لا تطيقها العقول، فينبغي تفويض علمها وتفاصيل علمها إلى الله سبحانه وتعالى.
فالمهم أن كلمة (العلمانية) أنموذج من الاصطلاحات الخبيثة التي راجت على المسلمين، حتى إن بعض الشيوخ لم يحسن دراسة هذا المصطلح ونشأته وخلفياته، فلذلك صرح ببعض التصريحات وقال: إن العلمانية لا تتناقض مع الإسلام.
فهو يقصد أن العلمانية بمعنى احترام العلم، مع أن كلمة (العلمانية) لا علاقة لها -كما ذكرنا- بالعلم على الإطلاق من حيث الاشتقاق، ولا من حيث المعنى والمضمون.
إذا أردنا أن نعرف معاني الألفاظ الشرعية فلابد من أن نرجع إلى اللغة العربية وإلى مقصود الشرع من هذه الألفاظ.
وهنا نقف عند بعض المصطلحات التي تتعلق بهذا البحث ونلخص معانيها من حيث اللغة.
أولاً: الغلو.
تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد يدل على مجاوزة الحد والقدر.
أي: كل ما جاوز حده وقدره فهذا هو الغلو، ويقال: غلا السعر يغلو -وذلك ارتفاعه- غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلواً أي: جاوز حده وغلت القدر تغلي غلياناً، وغلت السهم غلواً: إذا رميت به أبعد مما تقدر عليه. فالغلو هو مجاوزة الحد، يقال: غلا في الدين غلواً أي: تشدد وتصلب حتى جاوز الحد. فهذا بالنسبة لكلمة الغلو.
ثانياً: التطرف.
هذه الكلمة تدور في اللغة على أحد أمرين: الأول حد الشيء.
الثاني: الحركة في بعض الأعضاء، يقال:
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
ويقال: طرفت عينه. أي: تحركت.
فمادة (طرف) تستعمل في حركة بعض الأعضاء، كما أن الطرف هو حد الشيء، وهذا هو المعنى الذي يهمنا في هذا البحث، وهو أن الطرف مأخوذ من حد الشيء وحافته، فالمراد من كلمة الطرف منتهى الشيء وغايته.
وكذا يقال: تطرفت الشمس. أي: دنت للغروب، يقول الشاعر:
دنا وقرن الشمس قد تطرفا
وقال شمر : اعرف طرفه. يعني: إذا طرده؛ لأنه إذا طرده يصل إلى غاية الشيء ومنتهاه ويخرج منه. وكذلك يقال للناقة إذا رعت أطراف المرعى: طرفت الناقة. أي: ذهبت إلى طرف البستان وأخذت تأكل من الحشائش فيه. فالطرف هو منتهى كل شيء.
فإذاً: التطرف تفاعل من الطرف، يقال: تطرف يتطرف فهو متطرف.
وخلاصة الكلام أن الشخص إذا تطرف فقد تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط.
ثالثاً: التنطع.
التنطع هو البسط والملامسة، والتعمق في الكلام مأخوذ من النطع، والنطع هو التجويف الأعلى في الفم الذي يظهر عندما يتعمق الإنسان ويتشدق في الكلام، وعندما يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة، فيظل يتكلم حتى يظهر التجويف الذي في أعلى سقف الفم، ثم استعمل في كل تعمق، سواء أكان في القول أم في الفعل، فهذا معنى كلمة التنطع.
رابعاً: التشدد.
ومعناه القوة والصلابة، وشاده مشادة: غالبه وصارعه، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه يعني: غلبه الدين.
خامساً: العنف.
وهو خلاف الرفق، والذي لا يقود الخيل برفق يسمى عنيفاً.
ينقسم الناس إزاء دعوة الرسل إلى أقسام ثلاثة: فمنهم من يكون متمسكاً بالحق ومعتدلاً على الصراط المستقيم.
ومنهم: المفرط الزائغ عن حدود الله عز وجل.
ومنهم الغالي الذي يتجاوز حدود الله.
أما النصوص الشرعية فقد جاءت بالتحذير من الغلو والإفراط والتفريط، وجاءت الشريعة تفرض علينا أن ندعو الله سبحانه وتعالى -على الأقل- سبع عشرة مرة في اليوم والليلة بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] فهذا معنى سؤال الله سبحانه وتعالى أن يقي المسلمين شر الانحراف إلى هذا الطرف أو ذاك.
الأسلوب الأول: الدعاء بطلب الاستقامة، وبيان أن الاستقامة لا تكون إلا بالبراءة من منهج هؤلاء الذين غضب الله عليهم والذين هم ضالون عن الطريق المستقيم؛ لأن كليهما متطرف، أما الصراط المستقيم فهو صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم، كما في سورة الفاتحة.
الأسلوب الثاني: التحذير من تعدي الحدود، يقول عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
إذاً: هذا هو الميزان، وهذا هو الاعتدال، وهذا هو الصراط المستقيم، فكل انحراف عن هذا الاعتدال فهو في الحقيقة تطرف.
فمثلاً: المرأة المتبرجة تعدت حدود الله سبحانه وتعالى، حيث أمرها بالحجاب وهي تهتك ستر الله عز وجل، وتبارز الله بالمعصية وتجهر بها وتكشف ما أمر الله بستره، فهذه متطرفة منحرفة وظالمة، يقول الله عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] أي: لا تتجاوزوها. ثم قال: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229] إذاً: فغير المحجبة هي المتطرفة، وليست المحجبة هي المتطرفة.
وكذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، فالرجل الذي يحلق لحيته متطرف ومتعد لحدود الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، وهذا خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متطرف وظالم، يقول عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
إذاً: فينبغي أن نستحضر أن الميزان والوسط هو ما جاء به القرآن والسنة، هذا هو الاعتدال، وكل انحراف عن هذا هو في الحقيقة تطرف.
وقد افتتن بعض الإخوة بما وصم ووصف به أهل الدين وأهل الطاعة من التطرف والتنطع وغير ذلك، فينبغي أن ننظر إلى هؤلاء الذين وصفوا أهل الدين بالتطرف على أنهم هم المتطرفون في الحقيقة، ولا يفت في عضدنا هذه الحملات الشيطانية ليل نهار على أهل الطاعة وأهل الدين.
إذاً: فكل شخص يخالف أمر الله وأمر رسول الله نقول له: قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229] فالحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة المأمور بها وغير المأمور بها، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها، وهذا التعدي هو الهدف الأعظم الذي يسعى إليه الشيطان؛ إذ إن مجمل ما يريد الشيطان تحقيقه أحد الانحرافين: إما الغلو وإما التقصير، فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له أيضاً، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد. وذلك هو الأسلوب الثاني في معالجة الإسلام لقضية التطرف والانحراف.
الأسلوب الثالث: الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر وعدم الغلو والزيادة، يقول تبارك وتعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] فقوله: (لا تطغوا) أي: لا تنحرفوا ولا تتعدوا حدود الله تبارك وتعالى التي أمر الله عز وجل بها.
الأسلوب الرابع في علاج قضية التطرف والغلو: النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص، حيث يقول عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ [النساء:171].
لأن اليهود اخترعوا له من قبل قضية الخطيئة الأصلية، وأن البشرية كلها ملوثة، فربنا -عندهم- لا يتوب على المولود؛ لأنه ولد ملوثاً بخطيئة آدم، فحتى يتاب عليه لابد من أن يعمد، وذلك بالتغسيل، فإذا غسل صار نصرانياً مستحقاً للنجاة إلى غير ذلك، وهذه من مظاهر غلوهم.
ومن مظاهر غلوهم اختراع الرهبانية التي ابتدعوها وما أذن الله تبارك وتعالى بها، يقول عز وجل: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] والاستثناء هنا منقطع بمعنى (لكن).
أما إعراب (رهبانية) فهي مفعول به لفعل مقدر، أي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها.
وقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما أمرناهم بها ولا كلفناهم بها، كتحريم الطيبات والتعبد بترك الزواج وغير ذلك.
فقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: ما كتبناها عليهم، لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله عن طريق اتباع شرع الله، وليس بالابتداع. هذا هو معنى قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) عز وجل.
واليهود -أيضاً- عندهم قدر كبير جداً من الغلو، وإن كان النصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف.
فكل هذه النصوص، كقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، وقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77] توجيه النهي فيها عن الغلو لأهل الكتاب إنما المقصود به تنبيه هذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعوا فيه من الغلو، وحتى تجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله سبحانه وتعالى على الأمم السابقة.
الأسلوب الخامس الذي عالج به الإسلام قضية الغلو والتطرف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أمته عن الغلو حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم التي بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع -أي: صباح المزدلفة- هلم القط لي الحصى -حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى- فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحذيرنا مما يحصل الآن من جهلة الناس عند رمي الجمرات، فبعضهم يرمي إبليس عند الجمرات، وبلغني أن بعض الناس أطلق الرصاص على الشاخص، وبعضهم يرمون الجمرات بالنعال، ومن يذهب إلى الحج يراها، فهذا من الغلو.
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) عليه الصلاة والسلام.
والمقصود بقوله: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي.
وتطرف البوصيري في فهم هذا الحديث فقال: إن النهي عن المدح بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقط عن أن نصفه بأنه ابن الله كما قالت النصارى، أما ما عدا ذلك فنحن في حل من أن نمدحه بما شئنا، فمن ثم خرج منه كثير جداً من مظاهر الغلو الشنيع، كمثيل قوله:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يعني أن أهم شيء هو أن لا تقول: إن محمداً ابن الله أو ثالث ثلاثة.
فكان مما نطق به البوصيري من الكلام الشنيع قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن من علومك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فهذا غلو لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الأسلوب السادس من أساليب القرآن في التنفير من الغلو: بيان مصير الغالي وعاقبته.
فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) يدعو عليهم بالهلاك، أو يخبر بهلاكهم؛ لأنهم انحرفوا عن الجادة وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، فقوله إياها ثلاث مرات فيه توكيد للهلاك بالنسبة للمتنطعين، وهم المتعمقون المغالون المباينون الحدود في أقوالهم وفي أفعالهم.
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) فهذه -أيضاً- صورة من مظاهر الغلو.
لقد بينت السنة أن عاقبة الشخص الذي يخالف الفطرة ويكلف نفسه بأشياء فوق طاقته ينتهي به الأمر إلى أنه لا يصل إلى الغاية، وهناك بعض الآثار ما أظنها صحيحة، لكن تبين لنا هذا المعنى، منها: قوله: فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى فقد مثل برجل خرج في الصحراء راكباً على دابته وحملها أثقالاً كثيرة جداً، ثم مشى في الصحراء وتوغل فيها وأتعب دابته، وانتهى الأمر به إلى أن الدابةلم تستطع حمل ما عليها؛ لأنه حملها فوق طاقتها، فهو بهذا لا أرضاً قطع؛ حيث إنه لم يصل إلى الموضع الذي يقصده، ولا ظهراً أبقى؛ حيث إنه أهلك هذه الدابة بالأحمال الثقيلة.
فكذلك الإنسان مثل هذه الدابة، حتى كان بعض العلماء يحسن اختيار طعامه، فقيل له في ذلك فقال: إن الدابة إذا أحسنت علفها فإنها تستطيع أن تنجز مهامها، فكذلك هذا الجسد هو الآلة التي تحمل روحك وتبلغ بها إلى مقاصدك وتنفذ بها حاجياتك.
فالإنسان إذا أنهك جسمه بأشياء فوق طاقته فإنه يعجز عن مواصلة السير، فلا يصل إلى هدفه، إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وهذا في الحقيقة نلاحظه بصورة واضحة جداً فيمن يبتلى بالانتماء للجماعات المتطرفة بحق، كجماعة التكفير، حيث نجد الواحد منهم يكلف نفسه بأشياء فيها تجاوز لحدود الله عز وجل، فهذا الأمر يحتمله لكن لفترة محددة، ولا يستطيع الاستمرار عليه؛ لأنه ضد الفطرة، والشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى جاء فيها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فهذا خالفها وكلف نفسه فوق وسعها وتشدد في أخذ أمور الدين وأمور العقيدة وغير ذلك، فمثل هذا إن أراد الله به خيراً أعاده إلى الجادة وإلى طريق أهل السنة والجماعة والاعتدال والوسط، أو -والعياذ بالله- يحصل عنده انقلاب كلي وانحراف وتفلت كامل، فبعدما كان يكفر الناس من أجل بعض الأشياء التي لا تقتضي تكفيرهم إذا به يقع فيما هو أكبر مما كان يكفر الناس بسببه من الترخصات وتعدي حدود الله تبارك وتعالى؛ لأنه حمل نفسه فوق فطرتها، والفطرة تأبى الاستمرار على هذا طويلاً.
ولهذا تجد عامة هؤلاء متلونين لا يثبتون على قرار، فإذا ابتلي أحدهم بشيء من هذه الأفكار تجده دائماً كما يقول الشاعر:
كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل
فكلما جاءه رجل أجدل من رجل ترك ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء.
فظاهرة تعدي حدود الله بتكليف النفس فوق ما تطيق يؤدي إلى عدم الثبات، فإما أن ينحرف تماماً وإما أن يأخذ الله بيده وينجيه من هذه الانحرافات.
والسنة بينت أن عاقبة المشدد على نفسه الانقطاع، وأنه ما من مشاد لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع، فالسنة بهذا تبين لنا أن الشخص الذي يتجاوز حدود الله عز وجل هو عبارة عن مصادم لدين عز وجل والدين سيغلبه.
وهذا الدين الذي أنزله الله فيه اليسر والسماحة، فما من أحد يريد أن يغالب هذا الدين ويصارعه إلا غلبه هذا الدين وهزمه، يقول عليه الصلاة والسلام: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا فقوله: (فسددوا) أي: ليكن هدفك الأول أن تصل إلى المقصود مائة في المائة، فالسداد أن تصيب النقطة التي هي في الوسط.
أما إذا عجز الإنسان عن السداد ولم يستطع أن يصيب الهدف وإنما اقترب من الهدف بقدر المستطاع فهذا يدل على أنه اقترب من الدائرة الأصلية، وبهذا يكون قد تفوق نسبياً على غيره ممن بعد عنه أكثر.
إذاً: فمعنى (سددوا وقاربوا) أي: افعلوا الأمور تماماً كما كلفتم بها، فإن عجزتم فاتقوا الله ما استطعتم، وذلك بأن تقتربوا من السداد بقدر المستطاع. فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة وفي لفظ قال عليه الصلاة والسلام: والقصد القصد تبلغوا فقوله: (والقصد القصد) يعني الاعتدال.
وقوله: (تبلغوا) أي: تصلوا إلى غايتكم ومرامكم.
يقول الحافظ ابن حجر : والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، وحتى لا يقع ذلك جاء بختام الحديث آمراً بالتسديد والمقاربة.
إن الغلو ليس نوعاً واحداً، ولكنه يتنوع باختلاف متعلقه من أفعال العباد، فهناك غلو اعتقادي وغلو عملي، فالغلو الاعتقادي يسمى غلواً كلياً.
والبدعة أقسام: بدعة كلية وجزئية، والبدعة الكلية: أن تكون قاعدة مبتدعة يتحاكم إليها وتصير أصلاً، بحيثَ تَفصَّل القضايا على أساسها، مثل قاعدة تحكيم العقل في النقل، فهذه بدعة كلية.
والبدعة الكلية تنتظم تحتها فروعاً كثيرة جداً، فالمراد بالغلو العملي ما كان متعلقاً بكليات الشريعة أو أمهات المسائل في الشريعة الإسلامية، والمراد بالغلو الاعتقادي ما كان متعلقاً بباب العقائد، فهو محصور في الجانب الاعتقادي.
وأمثلة الغلو الاعتقادي الكلي كثيرة، منها: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، كما يحصل من الشيعة، فإن الشيعة من أقبح الفرق المتطرفة في الإسلام، فهم يغلون كثيراً في أئمتهم الاثني عشر المزعومين، فلقد غلوا فيهم حتى وصلوا بهم إلى مراتب وصفات الألوهية.
ومنها الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، كأن يعيش إنسان في مجتمع مظاهر بالفسق والعصيان فيغلو في التبرؤ من المجتمع، ويغلو في تطبيق قضية الولاء والبراء إلى حد تكفير أفراد هذا المجتمع واعتزالهم، وهذه سنناقشها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة من الأحكام، بحيث يكثر من الإنسان مخالفات في قضايا جزئية، حتى تصير بمجموعها كلية؛ لأن المعارضة للشريعة في الحالتين منطبقة عليهما كليهما، فمعارضة الشريعة بالقاعدة الكلية يترتب عليها مخالفات جزئية كثيرة حينما تطبق هذه القاعدة، كذلك إذا كان الإنسان منحرفاً في قضايا جزئية كثيرة ومتعددة جداً فمخالفة الشريعة تقوم بها -أيضاً- بصورة كلية تماماً كما في الحالة الأولى.
فإذاً: يدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة؛ إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي، والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطراً وأعظم ضرراً من الغلو العملي؛ لأن الغلو العملي مثل أن يقوم إنسان الليل ولا ينام، ويصوم النهار ولا يفطر أبداً، إلى غير ذلك من أنواع الغلو العملي، ومثل تحريم الطيبات على نفسه، وتحريم الظلال، وتحريم أكل اللحوم وهكذا، فهذا غلو عملي، لكن الغلو في العقيدة أخطر وأشد من الغلو العملي، وفي كل شر؛ إذ الغلو الاعتقادي هو المؤدي إلى الانشقاقات، وسبب تفرق الأمة هو الغلو الاعتقادي، فالأمة ما افترقت إلا بسببه، ولذلك فسر علماء الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فسروه بأن الفرقة في أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
و الدليل على ذلك ما ورد في صدر الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقين) واليهود الذين افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة كانوا أهل دين واحد، وكذلك قوله: (وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فهذه الفرق حاصلة في أمة الإجابة، وهي الأمة المسلمة، وهذا -أيضاً- يؤيده الواقع، فإننا رأينا أصول هذه الفرق -سواء المرجئة أو الخوارج أو المعتزلة أو القدرية وما تفرع عنها من البدع المعروفة- من المسلمين.
إذاً: فالانشقاق الذي حصل داخل الجماعة المسلمة إنما حصل بسبب الغلو الكلي الاعتقادي، فهذا هو المظهر السائد للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم؛ لأنها ما تسمى فرقة إلا لأنها انحرفت عن الفرقة الناجية.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
فهذا دليل على أن مخالفة أهل السنة والجماعة هي التي تؤدي إلى حصول التصدعات والانشقاقات، فأساس الانشقاق في الأمة نابع من خلاف في العقيدة بسبب الغلو الكلي الاعتقادي.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: ذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا جزئي من الجزئيات.
يعني: لا يصح أن تصف جماعة بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضايا جزئية، لكن يمكن أن تصفها بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضية كلية اعتقادية، مثل الشيعة، فهي فرقة من الفرق الضالة؛ لأنها تخالفنا في كليات، فعندها غلو كلي في قضايا الاعتقاد.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي أو الفرع الشاذ ما ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، أرأيت كيف غلت الطوائف كالخوارج والشيعة في كليات من الدين، فأدى غلوهم إلى ظهور فرق ونشوء جماعات، بينما غلا أشخاص في السلوك والعبادات فلم يؤد غلوهم إلى ظهور فرق جديدة.
يعني أن فرقة الخوارج نفسها تفرقت إلى جماعات كثيرة حتى كفر بعضهم بعضاً، وهذا شأنهم في كل زمان، ففي مصر لما ظهروا في الفترات الأخيرة منذ السبعينات تفرقوا حتى صارت فرقة تكفر الفرق الأخرى، كذلك الشيعة تفرقت إلى فرق كثيرة جداً حتى كفر بعضها بعضاًً.
وهذا دليل على أنَّ الغلو الكلي الاعتقادي أعظم خطراً بالنسبة للغلو العملي السلوكي؛ لأن الغلو السلوكي العملي الاعتقادي لم ينشأ عنه فرق انشطارية، وأوضح مثال على ذلك الصوفية، فعندما كانوا موجودين في صدر الإسلام لم يكونوا يشكلون فرقة خطيرة على المجتمع المسلم، فقد كانوا في بداية أمرهم على الزهد والاستقامة على السنة وإصلاح الظاهر والباطن، لكنهم لما طرأ عليهم بعد ذلك انحرافات في قضايا كلية اعتقادية كبدعة ادعاء العصمة لمشايخهم ونحو ذلك من أمور الغلو الكلي الاعتقادي، فحينئذ صاروا فرقاً شتى، منهم الملحد، ومنهم المبتدع، ومنهم من هو دون ذلك.
أولاً: منطوق النصوص، فقد وردت في الغلو الكلي الاعتقادي أحاديث تدل على أنَّه بسبب هذا الغلو ستظهر جماعات وفرق وأحزاب، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، فهذا الرجل قال كلمة خطيرة والعياذ بالله، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فقال عليه الصلاة والسلام: ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله -يقولون: إنه خالد بن الوليد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
هذا الحديث يخبر عن فرقة الخوارج؛ لأن من صلب الرجل خرجت فرقة الخوارج، فأخبر أنه لا يرفع ثوابهم إلى السماء، ولا يقبل الله منهم هذا العمل، وهذا الوصف -في الحقيقة- للخوارج يتضح ويتبين منه أن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد من الإخلاص والمتابعة معاً، فالخوارج لو اطلعت على اجتهادهم وإخلاصهم في العبادة لرأيت عجباً، كان يقول عنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( رأيت قوماً أيديهم كأنها نقر الإبل، جباههم قرحة من كثرة السجود ) وكذلك صارت الركب مثل جلود الإبل في الخشونه من شدة العبادة والركوع والسجود، ولما دخل ابن عباس معسكرهم كي يناظرهم سمع دوياً كدوي النحل وهم يتلون القرآن، لكن -وللأسف- مع اهتمامهم بتلاوة القرآن فإنهم لا يفقهون القرآن، وهذا هو أحد أوصافهم الأساسية، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وكان عندهم ورع غريب جداً، لكن هذا الورع وجوده عدمه سواء، فهم لم يتورعوا عن قتل بعض الصحابة، وبقر بطون النساء الحوامل، وتكفيرهم للمسلمين، والخروج على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهذه المأساة التي حصلت منهم، ومع ذلك كانوا في سيرهم زهاداً، فهذا واحد منهم أخذ تمرة من النخل فأكلها فقال له صاحبه من الخوارج: أخذتها بغير حقها! فما زال به حتى لفظها تورعاً.
وهذا آخر معه سيف أراد أن يجربه، فمر به خنزير لأهل الكتاب فقتله، فقالوا: قتلته بغير حق. وذهبوا إلى صاحب الخنزير ودفعوا له قيمة هذا الخنزير، في حين تواطئوا على قتل المسلمين وإراقة دمائهم بغير حق، كما هو معلوم من سيرهم.
وجاء في بعض الآثار عن بعض السلف أنه قال: إن الشيطان إذا أراد أن يهلك إنساناً خلى بينه وبين العبادة وأمره بالخشوع والبكاء كي يصطاده ويصطاد به، حتى يجتهد في جانب العبادة على غير بصيرة، فيكون مبتدعاً وفتنة لكل مفتون.
فالشاهد من الكلام أن الشريعة نفسها فرقت بين الغلو الاعتقادي الكلي والغلو الجزئي العملي، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام في جانب الغلو الاعتقادي حينما تكلم عن الخوارج قال في حقهم: يخرج من ضئضئ هذا قوم وذكر كلمة قوم، أي: فرقة صفاتهم كذا وكذا وكذا.
أما الغلو الجزئي العملي فمثاله ذلك الذي كان يغلو غلوا شديداً في قيام الليل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد فقوله: (ليصل أحدكم) عبر فيه بالواحد .
وقوله: (نشاطه) أي: مادام نشيطاً فليصل قائماً، فإذا فتر فليقعد، ولا يضع حبلاً بين الساريتين ويتعلق به؛ لأن هذا شدد على نفسه وكلفها فوق طاقتها.
وكذلك الغلو الاعتقادي الكلي بلاؤه عام على الأمة كلها؛ لأن الإنسان حين يغلو في اعتقاد ما، كأن يعتقد كفر المسلمين فهل سيقتصر على هذا الحد أم أن وراء هذه العقيدة مفاسد وأضراراً لا تحصى، علاوة على شناعة النطق بغير علم في مثل هذه القضية الحساسة، فيترتب عليها استحلال للدماء واستحلال للأعراض، وكم سمعنا من المآسي في هذا الباب، تجدهم يتزوجون المرأة وهي على عصمة زوجها؛ لأن هذا كافر حسب زعمهم، فيطلقها من زوجها ويتزوجها، وكذلك محاولة إراقة دماء كثير من المسلمين، ومعروفة حادثة قتل الشيخ الذهبي رحمه الله.
فإذاً: لا تقف القضية عند مجرد وجهة نظر فحسب، لكنها تنعكس في سلوك عملي شديد الضرر على المجتمع أو على المسلمين.
فإذاً: الغلو الكلي الاعتقادي عام الضرر على الأمة كلها، بينما ضرر الغلو الجزئي العملي مقتصر على الغالي والمتطرف نفسه.
وأيضاً: الغلو الاعتقادي الكلي مطرد الضرر في كل الأحوال وباستمرار، بينما الغلو الجزئي نسبي، بحيث يكون مؤثراً على الشخص نفسه وغير مؤثر على شخص آخر.
إن الناظر في الغلاة وفي الفرق الغالية يجد على مر العصور أن بينهم خصائص وأوصافاً معينة تجمعهم وتربطهم ببعضهم تكاد تطرد فيهم، وقد ذكر العلماء لهم أوصافاً إجمالية وتفصيلية.
والمطرد هنا في كثير من فرق الغلاة وصفان يجمعانها، فكأن هذين الوصفين قاسم مشترك بين كل الفرق الغالية، وهذان الوصفان بينهما النبي عليه الصلاة والسلام في قصة الرجل الذي اعترض على قسمته صلى الله عليه وسلم وإعطائه صناديد نجد أكثر من غيرهم، وفي هذا الحديث (ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله -ويرون أنه
الوصف الأول: عدم فهم القرآن ورد السنة
إذا: فالقرآن لا نستطيع أن نفصله عن البيان العملي، والسنة بمثابة المذكرة التفصيلية التي تشرح القرآن، فلا نستطيع أن نستقل بفهم القرآن دون الرجوع إلى السنة وإلى أهل اللغة وأهل العلم في ذلك، فإن أدلة القرآن كثيراً ما تكون أدلة عامة، فترى صاحب الهوى يستدل بها لإثبات باطله، ومن ثم قال بعض العلماء:
وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل
وليس معنى ذلك أن القرآن يؤيد الفرق الضالة، كلا، وإنما العيب فيهم؛ لأنهم أساءوا فهم القرآن ولم يحسنوا تفسيره على الفهم المستقيم.
وهذان الوصفان الموجودان في هذا الحديث يجمعهما قول الله عز وجل في الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] الظلم والجهل، فهذا هو الوصف المشترك بين جميع الفرق الضالة.
فالسبب عدم فهمهم للقرآن، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده.
يقول النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم. أي: القرآن لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بأن يقع ذلك في القلب، ومن ثم فعدم فهمهم لآيات القرآن يجعلهم يحملون آيات أنزلت في المشركين ويطبقونها على المسلمين، حتى قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في الخوارج: ( إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ).
ومن مظاهر عدم فهمهم للقرآن أنهم يتبعون متشابه القرآن ويعرضون عن المحكم، كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقول الله تبارك وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] فالخوارج لما قبل علي رضي الله تعالى عنه مبدأ التحكيم قالوا: كفرت بالله، والله عز وجل يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] وأنت تحكم الرجال، فقال أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: (نعم إن الحكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل) ولذلك لما تولى ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما مناظرتهم قال لهم ابن عباس في الرد على هذا الاستدلال:
ألم يقل الله عز وجل: ……. فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]؟ فها هو القرآن نفسه يشرع لنا عند وصول النزاع بين الرجل وامرأته إلى هذا الحد مبدأ التحكيم، فهل إصلاح حال امرأة مع زوجها أهم أم إصلاح حال الأمة؟.
هذه أمة انقسمت وتقاتلت، ففي أيهما التحكيم يكون أولى، في إصلاح حال الأمة وهذا الذي رضي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما نادوا إلى تحكيم القرآن، أم في إصلاح حال الزوجين؟!
وكذلك لو أن امرءً اصطاد صيداً وهو محرم كأرنب أو غير ذلك، فقد شرع القرآن الكريم في ذلك مبدأ التحكيم، وذلك في قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] كما هو معلوم، فهذا في دم أرنب، أفلا يكون التحكيم أولى في حقن دماء المسلمين؟!
فهذا استدلال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد رجع بسببه الآلاف لما سمعوا مناظرته القيمة معهم.
قال الحافظ : وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: (لا حكم إلا لله)، انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها، فأدى بهم هذا القصور في فهم القرآن إلى الخروج عن السنة، وجعل ما ليس بسيئة سيئة وما ليس بحسنة حسنة، فهم إنما يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.
ولذلك هذا الرجل الذي هو أساسهم وأصلهم ماذا حصل منه؟ لقد كان بداية ضلاله وشؤم ضلاله اعتراضه على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك تجد شؤم هذه المخالفة موجوداً في كل الخوارج تقريباً، تجدهم يستدلون بالقرآن ويستقلون بفهمه ويفصلونه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة له، بزعم أن السنة تخالف ظاهر القرآن.
فهذا فيما يتعلق بكلمة (جهولاً) أي: عدم فهمهم للقرآن الكريم وأثر الانحراف في هذا.
الوصف الثاني: الظلم واستحلال دماء المسلمين
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الفرق الثاني بين الخوارج وأهل البدع أنهم يكفرون بالذنب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار كفر ودارهم هي دار الإيمان.
وكذلك يقول في جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبة لأهل الحديث والفقه ومتكلميهم.
فإذاً: استحلالهم دماء المسلمين ثمرة ونتيجة لغلوهم وابتداعهم؛ لأنهم يرون من ليس على طريقتهم خارجاً عن الدين حلال الدم، وهذا شأن كل صاحب بدعة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: محدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمثل من رأى مثل رأيه، فسل سيفه وسفك دماء المسلمين، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب وعليها يقاتل.
ويقول أبو قلابة رحمه الله: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.
وكان أيوب السختياني رحمه الله يسمي أصحاب البدع خوارج، ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف. أي: اجتمعوا في الخروج على المسلمين.
إذاً: فهؤلاء يجمعون بين الجهل بدين الله وبين ظلم عباد الله، فجهلهم بدين الله تعالى حيث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، والظلم لعباد الله حيث يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وهاتان طامتان عظيمتان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيتبعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، وينبني على هذا التكفير استحلال دماء المسلمين وقتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان.
وهذا الأمر في الغالب، وليس مطرداً في كل الأحوال، ويمكن أن تضاف إلى هاتين الصفتين صفات أخرى -أيضاً- تتميز بها بعض فرق أهل البدع.