القواعد الحسنة في استقبال رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:8-9]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، خلقنا من عدم، وأطعمنا من جوع، وكسانا من عري، وهدانا من ضلال، وعلمنا من جهل، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيفما شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! يطل علينا بعد أيام شهر مبارك، فرض الله صيامه، وسن النبي صلى الله عليه وسلم قيامه، شهر جعله الله موسماً للطاعات وقبول الصدقات، ومضاعفة الأجور والأعمال، والمحروم من حرم رحمة الله في هذا الشهر، والناس يتباينون وتختلف مشاربهم فيه، فمنهم من يستعد لاستقباله بإعداد المسلسلات والسهرات الرمضانية الكروية، واستضافة الفنانين والفنانات، وما أعدوه من برامج لهذا الشهر الكريم، فهذا يقول: أنا لا أنام الليل؛ لأجل أن أنتج عملاً يرضى عنه الجماهير في رمضان، فرمضان موسم لنا لابد أن نعرض فيه إنتاجنا.

وتجد صنفاً يكدس المأكولات والمشروبات وما لذ وطاب، وصنف يزين الطرقات ويبتهج بقدومه في شكل مظهري.

أما عباد الرحمن فيعلمون لرمضان قدره، فيستعدون لرمضان بتطهير الظاهر والباطن، وبتوبة نصوح؛ لأن بلوغ رمضان نعمة من الله على عبده، فإذا أدركك رمضان فاسجد لله شكراً، فقد كان السلف إذا صاموا رمضان يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم صيامه، وستة أشهر أخرى أن يبلغهم رمضان القادم؛ لأن بلوغ رمضان نعمة من الله على العبد، ولم لا وهو شهر الإنفاق، وشهر القرآن، وشهر الصيام، وشهر العتق من النار، وشهر تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد مردة الشياطين، فتصفد الجن وتنطلق شياطين الإنس؛ ليضلوا الناس في شهر واحد، فنقول: اتركوا الناس لربهم، أما كفاكم إضلالاً للعباد في سائر السنة، فهو شهر نريد للعباد أن يعودوا فيه لربهم، فقد كان السلف إذا جاء رمضان يصنعون العجب.

إخوتي الكرام! لقد خص الله رمضان بفضائل عن سائر شهور السنة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، خلق السماوات واختار منها السماء السابعة لتكون مستقراً للملائكة المقربين، وهي أدنى السماوات من عرش الرحمن، وخلق الجنة واختار منها الفردوس الأعلى، وخلق البشر واصطفى منهم أنبياء، واصطفى من الأنبياء رسلاً، واصطفى من الرسل سيد البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وخلق الأزمان واختار منها، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام السنة يوم عرفة، ومن شهورها شهر رمضان، ومن لياليه ليلة القدر.

لذلك المؤمن التقي يفرح عندما يحل عليه رمضان، ويستعد بالدعاء أن يوفقه الله لصيامه، وأن ييسر له قيامه، ثم يطهر نفسه بتوبة نصوحاً، فيستعد لأعمال أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ويستعد للأعمال التي ينبغي أن تكون لها الأولوية في رمضان.

وهنا برنامج أعددته لأعلنه لمن أراد على حسب حاله أن يكون يومه في رمضان في طاعة الله سبحانه، ويكون في يوم رمضاني إيماني؛ لأننا نحتاج بعد عام كامل انتهى أن نطهر أنفسنا من الذنوب، فمعاصينا كثيرة، والويل لنا إن لم يغفر لنا ربنا.

أعمال ينبغي أن نؤكد عليها في رمضان:

قراءة القرآن

أولاً: قراءة القرآن، فقد كان الزهري يقول: إنما رمضان للقرآن وإطعام الطعام.

ويؤثر أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، وقد يقول قائل: كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن أن يختم القرآن في أقل من ثلاث؟

والجواب لـابن رجب الحنبلي وللإمام النووي، فقد قالا: في الأزمان الفاضلة وفي الأماكن الفاضلة ينبغي أن تضاعف الطاعات، ومن ثم في المعتاد لا ينبغي أن تختم في أقل من ثلاث، أما إذا جاء رمضان فقد كان الشافعي يختم في رمضان ستين ختمة، وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحال السلف جميعاً، كـمالك والأسود النخعي ومجاهد وغيرهم.

وإذا قرأت في سيرتهم ستعلم أنهم كانوا إذا جاء رمضان قالوا: جاء شهر القرآن، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، والمدارسة: مفاعلة من قارئ ومستمع، أي: أن جبريل كان يقرأ والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع، أو أن النبي يقرأ وجبريل يستمع، فهذه هي المدارسة، وفي العام الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين، ولذلك حب القرآن دليل إيمان، وبغض القرآن دليل نفاق، قال صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : (اقرأ علي القرآن، قال: قلت: يا رسول الله! أأقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فأخذت أقرأ من سورة النساء حتى وصلت إلى قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : حسبك -يعني: كفاك قراءة- قال: فنظرت إلى وجهه فإذا عيناه تذرفان بالدموع)، فبكى صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن.

ويعرف العلماء القرآن بأنه: كلام الله، تكلم به على الحقيقة، وسمعه جبريل، ونزل به على قلب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء:193-194].

وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك لسانه خشية أن يتفلت القرآن من صدره، فقال الله له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19]، وقال سبحانه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

أحبتي الكرام! عند قدوم رمضان علينا أن نقبل على القرآن تلاوة، وحفظاً، وتطبيقاً لأحكامه، ونقبل عليه سماعاً ومدارسة في حلقات، ونسمعه في قيام رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الماهر بالقرآن مع الكرام السفرة البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). أي: أجر القراءة وأجر التعتعة.

ويقسم العلامة ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد هجر القرآن إلى ستة أقسام، قال الله عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فأين نحن من القرآن؟! وأين منه المسلمون؟ وأين حياتنا من القرآن؟

القسم الأول من هجر القرآن: هجر التلاوة، فمن الناس من يهجر القرآن تلاوة، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، وقال: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121].

القسم الثاني من هجر القرآن: هجر الحفظ، فأين حفظة القرآن، ولذلك نقول: ينبغي أن نحفز الأئمة على أن يقرءوا من حفظهم بدلاً من أن يقرءوا من المصحف، نعم القراءة من المصحف تجوز؛ لفعل عائشة مع ذكوان ، فقد كان ذكوان يصلي بـعائشة من المصحف في صلاة القيام، لكن هذا يترتب عليه أن يتفلت القرآن من صدور الحفظة، لاسيما أننا في عصر قل فيه الحفظة، فالأولى أن يقرأ القرآن من الحفظ.

القسم الثالث من أقسام هجر القرآن: هجر التدبر، قال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وهجر التدبر: ألا تتدبر المعاني، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي بالليل بآية ترددها وتبكي، كذلك حال عمر رضي الله عنه، فقد جاء في مناقب عمر أنه كان يحب أن يقرأ سورة يوسف في الليل، فإذا بلغ إلى قول الله: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] أخذ يرددها ويبكي حتى يسمع لبكائه نحيباً من خلف جدران بيته من كثرة البكاء، وهكذا كان السلف.

وزرارة بن أوفى من التابعين كان يقف خلف الإمام في الصلاة، فقرأ الإمام: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر:8-9] فاستمع زرارة إلى الآية وعاش معها وكأنه في الآخرة، فسقط مغشياً عليه في الصلاة، فحركوه بعد الصلاة فوجدوه قد فارق الحياة.

هؤلاء هم السلف عند استماع القرآن، أما نحن فتجد العجب! فتجد من لا يتدبر معاني القرآن، حتى إن البعض يقرأ في المآتم البدعية التي تنصب: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21]، فيقول المستمع: اللهم أوعدنا يا رب العالمين! فلا يميز بين نار ولا جنة.

فعند ذكر النار ينبغي أن ترتجف، وأن تخشع، وأن تخاف، لكن قلوبنا أصابها الصدأ وعلاها الران بسبب المعاصي.

القسم الرابع من هجر القرآن: هجر الاستماع، فإلى ما تستمع الأمة اليوم؟ هل تستمع إلى القرآن؟ حدث ولا حرج، واركب أي مواصلات عامة واسمع، لن تسمع إلا لغة الشيطان، وفي بيوتنا ماذا نسمع وإلى ما نستمع؟

القسم الخامس من هجر القرآن: هجر التحكيم، وهذا قسم هام، هل نحن نتحاكم إلى القرآن أم جعلنا القرآن وراء ظهورنا؟ نتحاكم إلى الأهواء وإلى قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وربنا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وربنا يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50] إلى ما نتحاكم إخواني؟ لقد هجر تحكيم القرآن.

القسم السادس والأخير من هجر القرآن: هجر الاستشفاء، والقرآن كله شفاء، قال عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].

وفي حديث البخاري : أن رجلاً سيد قومه لدغه ثعبان، ولدغة الثعبان مرض عضوي، فداروا به على الأطباء فلم يجدوا له علاجاً، وكان عندهم في ذاك الوقت نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صحابي وتفل على مكان الجرح ثم قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7]، فلما انتهى من قراءتها قام الرجل كأنه نشط من عقال، وذهب عنه المرض، وقد يقول قائل: يا شيخ! قرأت الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والمرض كما هو؛ فأقول: اعلم أن الرمح على قدر الرامي، وفرق بين رام ورام، فأخلص العمل لله عز وجل وثق في ربك تأتي الإجابة، لذلك جاء في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل: أن رجلاً جاء إليه وهو في بيته فقال: يا إمام! أرسلتني امرأة أصابها شلل في قدمها لتدعو الله لها، فنهره أحمد وقال: اخرج، وقل لها: نحن أحوج إلى الدعاء منها، قل لها: تدعو لنا، وهذا تواضع وهضم لحق النفس وعدم رياء وسمعة، فانطلق الرجل وأغلق الباب، فإذا بـأحمد يدخل إلى حجرته ويرفع يده إلى السماء قائلاً: اللهم رد عليها قدمها واشفها يا رب العالمين! فإذا بطارق يقول: يا أحمد ! أبشر؛ فإن المرأة قامت تمشي بإذن الله، هؤلاء هم الرجال، الواحد منهم لو أقسم على الله لأبره، وجاء في حلية الأولياء أكثر من قصة لبعض سلفنا في هذا.

يروي ابن تيمية في كتاب الفرقان: أن رجلاً من السلف، خرج بحماره ليجاهد في سبيل الله فمات الحمار في الطريق، فرفع يده قائلاً: يا رب! إنك تعلم أني خرجت من داري أريد الجهاد في سبيلك، ولن أصل إلا بدابتي اللهم أحيها، فرد الله روح الحمار فركب عليه ومضى.

وهذا يدل على صلة وثيقة بين العبد وربه، فأين نحن من هذا؟

وقد يقول قائل: نحن ندعو آناء الليل وأطراف النهار: اللهم عليك باليهود، ويزدادون ظلماً وبغياً وطغياناً، فلِمَ؟ والجواب: لأننا لسنا أهلاً للإجابة، فحدث ولا حرج عن المعاصي التي في حياتنا بالجملة والتجزئة، من انتهاك للحدود، وأكل للربا، وقذف للمحصنات، وتبرج يسود، فكيف يأتي النصر ونحن على هذه الحال؟ وهكذا الشرع منحى عن الحياة، وطعن في الدين بالجملة، وهجر للقرآن على معانيه الستة.

فأول أمر ينبغي أن نستعد إليه قبل حلول رمضان هو القرآن، وأخشى أن تنقطع العلاقة مع القرآن إلا في رمضان، وقد كان لسلفنا ورد يومي من القرآن، فـأسيد بن حضير كان على راحلته في حالة سفر، وكان خلفه ولده الصغير على الراحلة، قال: فاشتقت لقراءة القرآن، فربط الدابة وترك ولده ونزل يقرأ، فأخذ يقرأ في سورة البقرة، وفي رواية أخرى: في سورة الكهف، وكان كلما قرأ إذا بالدابة تتحرك وتنفر يميناً ويساراً وإلى الأمام والخلف، وكلما توقف عن القراءة سكنت الدابة، فخاف على ولده، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: (اقرأ أسيد ! فإنها الملائكة تنزل لسماع القرآن)، ولذلك ربنا يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وقرآن الفجر ليس القرآن الذي يسبق التواشيح أو بعد التواشيح، أبداً، فما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تواشيح، والقرآن في الآية هو: قرآن الصلاة، فتتنـزل الملائكة لتسمع قراءة الإمام، وللأسف أن الكثير ينام عنها لاسيما في رمضان، فتعود على صلاة الفجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء)، ففتش في صحيفتك فإن الله مطلع عليك، ما موقفك مع الفجر؟ وأعجب من ذلك من يستيقظ بعد شروق الشمس ويصلي قضاءً، وتجده ينهر الناس على السنن، ويقول لهم: أين السواك؟ لم لم تقم السنة؟ فنقول له: يا عبد الله! توار فأنت ضيعت الفجر، وقد كان سلفنا إذا غاب الرجل عن الفجر أساءوا فيه الظن؛ لأنه لا يتخلف عن تلك الصلاة إلا من في قلبه شيء.

قيام رمضان

ثانياً: قيام رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وانتبه فهناك فريق يدعو إلى النار، وفريق يدعو إلى الجنة، ففي وقت القيام الجوائز بالجملة من المسلسلات والفوازير، فهذا يبحث عن المليون، وذاك يبحث عن كم ألف، لكن العبد الصالح يعرف ما هو الباقي له، فانتبه فإنها مؤامرة على صلاة القيام، لذا يعرض ما يشتاق إليه المشاهد في وقت القيام.

أخرج البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين صلاة التراويح في أول ليلة في رمضان، وصلى بهم الليلة الثانية، وفي الليلة الثالثة اكتظ المسجد عن آخره -الكل يريد أن يصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام- فلم يخرج إليهم، وفي صلاة الفجر قال لهم: لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن أخرج إليكم فتكتب عليكم)، أي: أنه تركها عليه الصلاة والسلام رحمة من أن تفرض عليهم، ولما جاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب وتميم الداري وقال: نعمت البدعة هي، ولذا تجد أصحاب البدع يقولون: هذه بدعة حسنة، ويستدلون بقول عمر ، وعمر ما أراد هذا أبداً، وإنما أراد البدعة بمعناها اللغوي لا الشرعي، فإن عمر لم يأت بفعل جديد، وإنما فعل أمراً فعله النبي صلى الله عليه وسلم، والعلة زالت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وهي: خشية أن تفرض صلاة القيام، فخرج عمر وأمر من يصلي بالناس.

ومما نؤكد عليه أيضاً في صلاة القيام: أنه لا ينبغي أن تترك الوتر مع الإمام؛ لما ثبت في السنن: (من صلى مع إمامه حتى ينصرف من صلاته كتب له قيام ليلة)، فلا ينبغي أن تقول: أوتر في بيتي وأترك الإمام، بل صل مع الإمام حتى ينتهي، وإن أردت بعد ذلك أن تصلي في بيتك فلا بأس بشرط ألا توتر مرة ثانية؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة).

إطعام الطعام

ونؤكد على إطعام الطعام، فإذا أردت أن تصوم أكثر من رمضان ففطر صائماً على تمرة، أو على شربة ماء، ففي هذا الفضل العظيم، وقد كان من السلف -كـابن عباس - من لا يأكل الطعام في رمضان إلا مع اليتامى والمساكين؛ لفضل هذه النفقة في رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائماً كان له من الأجر كأجره)، فتمرة واحدة تعطيك هذا الأجر، فكم نحن في غفلة والذي نفسي بيده! فتمرة واحدة تعطيك أجر صيام يوم كامل، فما الذي يمنعك من أن تشتري كيلو تمر وتقف على الطريق العام وتعطي الصائمين؟ واعلم أن ذلك لن يضيع عند ربك، قال عز وجل: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

ثم أقول للأغنياء: اتقوا الله في أنفسكم، كم من أصحاب أموال يبخلون بمالهم على عباد الله؟! جاء شهر الإنفاق، قال ابن عباس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان)، وفي صحيح البخاري : (أنه صلى يوماً بأصحابه، وبعد الصلاة التفت بوجهه وقام مسرعاً إلى حجرته، ثم خرج وجلس في مصلاه، فقالوا: يا رسول الله! رأيناك فزعت وانطلقت بعد الصلاة؟ قال: تذكرت أن في حجرتي تبراً -أي: ذهباً غير مصفى- من مال الصدقة فخشيت أن يقبضني الله قبل أن أتصدق به). فإلى أصحاب الملايين والمليارات الذين يبخلون على عباد الله: هذا تبر من ذهب فزع منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خشي أن يقبض قبل أن ينفقه في سبيل الله.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة، فرمضان فيه القيام، وقراءة القرآن، والإنفاق، واعتكاف العشر الأواخر، والعمرة، قال صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي)، وقال: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تشرق الشمس ثم صلى ركعتين كتب له حجة وعمرة تامة تامة تامة) حسنه الألباني في صحيح الجامع، ففرغ نفسك يوماً في الأسبوع لتنال أجر الحج والعمرة.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يجلس في مصلاه بعد الفجر يقرأ القرآن ويذكر الله حتى ترتفع الشمس فيصلي ويقول: هذه غدوتي، إن لم أفعلها انهارت قوتي.

ففي طاعة الله القوة، وفي طاعة الله العطاء، فهيا بنا نعود إلى فعل الخيرات، ويا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر، يا أيتها المتبرجة! أقصري، يا آكل الربا أقصر، يا أهل الفن أقصروا، كفاكم هزلاً ولعباً وإفساداً للعباد، يا أهل القرآن أقبلوا، يا أهل القيام أقبلوا، يا أهل النفقة أقبلوا، يا أهل الدعاء اقبلوا، فقد جاء رمضان.

اللهم إنا نسألك أن تبلغنا إياه، وأن تيسر لنا قيامه، وأن توفقنا لصيامه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

أولاً: قراءة القرآن، فقد كان الزهري يقول: إنما رمضان للقرآن وإطعام الطعام.

ويؤثر أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، وقد يقول قائل: كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن أن يختم القرآن في أقل من ثلاث؟

والجواب لـابن رجب الحنبلي وللإمام النووي، فقد قالا: في الأزمان الفاضلة وفي الأماكن الفاضلة ينبغي أن تضاعف الطاعات، ومن ثم في المعتاد لا ينبغي أن تختم في أقل من ثلاث، أما إذا جاء رمضان فقد كان الشافعي يختم في رمضان ستين ختمة، وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحال السلف جميعاً، كـمالك والأسود النخعي ومجاهد وغيرهم.

وإذا قرأت في سيرتهم ستعلم أنهم كانوا إذا جاء رمضان قالوا: جاء شهر القرآن، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، والمدارسة: مفاعلة من قارئ ومستمع، أي: أن جبريل كان يقرأ والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع، أو أن النبي يقرأ وجبريل يستمع، فهذه هي المدارسة، وفي العام الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين، ولذلك حب القرآن دليل إيمان، وبغض القرآن دليل نفاق، قال صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : (اقرأ علي القرآن، قال: قلت: يا رسول الله! أأقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فأخذت أقرأ من سورة النساء حتى وصلت إلى قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : حسبك -يعني: كفاك قراءة- قال: فنظرت إلى وجهه فإذا عيناه تذرفان بالدموع)، فبكى صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن.

ويعرف العلماء القرآن بأنه: كلام الله، تكلم به على الحقيقة، وسمعه جبريل، ونزل به على قلب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء:193-194].

وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك لسانه خشية أن يتفلت القرآن من صدره، فقال الله له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19]، وقال سبحانه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

أحبتي الكرام! عند قدوم رمضان علينا أن نقبل على القرآن تلاوة، وحفظاً، وتطبيقاً لأحكامه، ونقبل عليه سماعاً ومدارسة في حلقات، ونسمعه في قيام رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الماهر بالقرآن مع الكرام السفرة البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). أي: أجر القراءة وأجر التعتعة.

ويقسم العلامة ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد هجر القرآن إلى ستة أقسام، قال الله عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فأين نحن من القرآن؟! وأين منه المسلمون؟ وأين حياتنا من القرآن؟

القسم الأول من هجر القرآن: هجر التلاوة، فمن الناس من يهجر القرآن تلاوة، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، وقال: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121].

القسم الثاني من هجر القرآن: هجر الحفظ، فأين حفظة القرآن، ولذلك نقول: ينبغي أن نحفز الأئمة على أن يقرءوا من حفظهم بدلاً من أن يقرءوا من المصحف، نعم القراءة من المصحف تجوز؛ لفعل عائشة مع ذكوان ، فقد كان ذكوان يصلي بـعائشة من المصحف في صلاة القيام، لكن هذا يترتب عليه أن يتفلت القرآن من صدور الحفظة، لاسيما أننا في عصر قل فيه الحفظة، فالأولى أن يقرأ القرآن من الحفظ.

القسم الثالث من أقسام هجر القرآن: هجر التدبر، قال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وهجر التدبر: ألا تتدبر المعاني، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي بالليل بآية ترددها وتبكي، كذلك حال عمر رضي الله عنه، فقد جاء في مناقب عمر أنه كان يحب أن يقرأ سورة يوسف في الليل، فإذا بلغ إلى قول الله: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] أخذ يرددها ويبكي حتى يسمع لبكائه نحيباً من خلف جدران بيته من كثرة البكاء، وهكذا كان السلف.

وزرارة بن أوفى من التابعين كان يقف خلف الإمام في الصلاة، فقرأ الإمام: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر:8-9] فاستمع زرارة إلى الآية وعاش معها وكأنه في الآخرة، فسقط مغشياً عليه في الصلاة، فحركوه بعد الصلاة فوجدوه قد فارق الحياة.

هؤلاء هم السلف عند استماع القرآن، أما نحن فتجد العجب! فتجد من لا يتدبر معاني القرآن، حتى إن البعض يقرأ في المآتم البدعية التي تنصب: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21]، فيقول المستمع: اللهم أوعدنا يا رب العالمين! فلا يميز بين نار ولا جنة.

فعند ذكر النار ينبغي أن ترتجف، وأن تخشع، وأن تخاف، لكن قلوبنا أصابها الصدأ وعلاها الران بسبب المعاصي.

القسم الرابع من هجر القرآن: هجر الاستماع، فإلى ما تستمع الأمة اليوم؟ هل تستمع إلى القرآن؟ حدث ولا حرج، واركب أي مواصلات عامة واسمع، لن تسمع إلا لغة الشيطان، وفي بيوتنا ماذا نسمع وإلى ما نستمع؟

القسم الخامس من هجر القرآن: هجر التحكيم، وهذا قسم هام، هل نحن نتحاكم إلى القرآن أم جعلنا القرآن وراء ظهورنا؟ نتحاكم إلى الأهواء وإلى قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وربنا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وربنا يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50] إلى ما نتحاكم إخواني؟ لقد هجر تحكيم القرآن.

القسم السادس والأخير من هجر القرآن: هجر الاستشفاء، والقرآن كله شفاء، قال عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].

وفي حديث البخاري : أن رجلاً سيد قومه لدغه ثعبان، ولدغة الثعبان مرض عضوي، فداروا به على الأطباء فلم يجدوا له علاجاً، وكان عندهم في ذاك الوقت نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صحابي وتفل على مكان الجرح ثم قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7]، فلما انتهى من قراءتها قام الرجل كأنه نشط من عقال، وذهب عنه المرض، وقد يقول قائل: يا شيخ! قرأت الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والمرض كما هو؛ فأقول: اعلم أن الرمح على قدر الرامي، وفرق بين رام ورام، فأخلص العمل لله عز وجل وثق في ربك تأتي الإجابة، لذلك جاء في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل: أن رجلاً جاء إليه وهو في بيته فقال: يا إمام! أرسلتني امرأة أصابها شلل في قدمها لتدعو الله لها، فنهره أحمد وقال: اخرج، وقل لها: نحن أحوج إلى الدعاء منها، قل لها: تدعو لنا، وهذا تواضع وهضم لحق النفس وعدم رياء وسمعة، فانطلق الرجل وأغلق الباب، فإذا بـأحمد يدخل إلى حجرته ويرفع يده إلى السماء قائلاً: اللهم رد عليها قدمها واشفها يا رب العالمين! فإذا بطارق يقول: يا أحمد ! أبشر؛ فإن المرأة قامت تمشي بإذن الله، هؤلاء هم الرجال، الواحد منهم لو أقسم على الله لأبره، وجاء في حلية الأولياء أكثر من قصة لبعض سلفنا في هذا.

يروي ابن تيمية في كتاب الفرقان: أن رجلاً من السلف، خرج بحماره ليجاهد في سبيل الله فمات الحمار في الطريق، فرفع يده قائلاً: يا رب! إنك تعلم أني خرجت من داري أريد الجهاد في سبيلك، ولن أصل إلا بدابتي اللهم أحيها، فرد الله روح الحمار فركب عليه ومضى.

وهذا يدل على صلة وثيقة بين العبد وربه، فأين نحن من هذا؟

وقد يقول قائل: نحن ندعو آناء الليل وأطراف النهار: اللهم عليك باليهود، ويزدادون ظلماً وبغياً وطغياناً، فلِمَ؟ والجواب: لأننا لسنا أهلاً للإجابة، فحدث ولا حرج عن المعاصي التي في حياتنا بالجملة والتجزئة، من انتهاك للحدود، وأكل للربا، وقذف للمحصنات، وتبرج يسود، فكيف يأتي النصر ونحن على هذه الحال؟ وهكذا الشرع منحى عن الحياة، وطعن في الدين بالجملة، وهجر للقرآن على معانيه الستة.

فأول أمر ينبغي أن نستعد إليه قبل حلول رمضان هو القرآن، وأخشى أن تنقطع العلاقة مع القرآن إلا في رمضان، وقد كان لسلفنا ورد يومي من القرآن، فـأسيد بن حضير كان على راحلته في حالة سفر، وكان خلفه ولده الصغير على الراحلة، قال: فاشتقت لقراءة القرآن، فربط الدابة وترك ولده ونزل يقرأ، فأخذ يقرأ في سورة البقرة، وفي رواية أخرى: في سورة الكهف، وكان كلما قرأ إذا بالدابة تتحرك وتنفر يميناً ويساراً وإلى الأمام والخلف، وكلما توقف عن القراءة سكنت الدابة، فخاف على ولده، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: (اقرأ أسيد ! فإنها الملائكة تنزل لسماع القرآن)، ولذلك ربنا يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وقرآن الفجر ليس القرآن الذي يسبق التواشيح أو بعد التواشيح، أبداً، فما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تواشيح، والقرآن في الآية هو: قرآن الصلاة، فتتنـزل الملائكة لتسمع قراءة الإمام، وللأسف أن الكثير ينام عنها لاسيما في رمضان، فتعود على صلاة الفجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء)، ففتش في صحيفتك فإن الله مطلع عليك، ما موقفك مع الفجر؟ وأعجب من ذلك من يستيقظ بعد شروق الشمس ويصلي قضاءً، وتجده ينهر الناس على السنن، ويقول لهم: أين السواك؟ لم لم تقم السنة؟ فنقول له: يا عبد الله! توار فأنت ضيعت الفجر، وقد كان سلفنا إذا غاب الرجل عن الفجر أساءوا فيه الظن؛ لأنه لا يتخلف عن تلك الصلاة إلا من في قلبه شيء.

ثانياً: قيام رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وانتبه فهناك فريق يدعو إلى النار، وفريق يدعو إلى الجنة، ففي وقت القيام الجوائز بالجملة من المسلسلات والفوازير، فهذا يبحث عن المليون، وذاك يبحث عن كم ألف، لكن العبد الصالح يعرف ما هو الباقي له، فانتبه فإنها مؤامرة على صلاة القيام، لذا يعرض ما يشتاق إليه المشاهد في وقت القيام.

أخرج البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين صلاة التراويح في أول ليلة في رمضان، وصلى بهم الليلة الثانية، وفي الليلة الثالثة اكتظ المسجد عن آخره -الكل يريد أن يصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام- فلم يخرج إليهم، وفي صلاة الفجر قال لهم: لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن أخرج إليكم فتكتب عليكم)، أي: أنه تركها عليه الصلاة والسلام رحمة من أن تفرض عليهم، ولما جاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب وتميم الداري وقال: نعمت البدعة هي، ولذا تجد أصحاب البدع يقولون: هذه بدعة حسنة، ويستدلون بقول عمر ، وعمر ما أراد هذا أبداً، وإنما أراد البدعة بمعناها اللغوي لا الشرعي، فإن عمر لم يأت بفعل جديد، وإنما فعل أمراً فعله النبي صلى الله عليه وسلم، والعلة زالت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وهي: خشية أن تفرض صلاة القيام، فخرج عمر وأمر من يصلي بالناس.

ومما نؤكد عليه أيضاً في صلاة القيام: أنه لا ينبغي أن تترك الوتر مع الإمام؛ لما ثبت في السنن: (من صلى مع إمامه حتى ينصرف من صلاته كتب له قيام ليلة)، فلا ينبغي أن تقول: أوتر في بيتي وأترك الإمام، بل صل مع الإمام حتى ينتهي، وإن أردت بعد ذلك أن تصلي في بيتك فلا بأس بشرط ألا توتر مرة ثانية؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة).