خطب ومحاضرات
شرح الفتوى الحموية [22]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وتعالى، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته الحموية: [ ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة، وأن القصائد بدعة، ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه وإظهار نعت الصالحين، وصفة المتقين، فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر، واستماع الغناء والربعيات على الله كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق، وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب، وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة -الجائي بين أهل الأطباع- على أحكام الذكر إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]، وكل من جهل ذلك، وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز، إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة على استماع الغناء.
والربعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق ، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين، وبلغني أنه قيل لـبشر بن الحارث : إن أصحابك قد أحدثوا شيئاً يقال له: القصائد. قال: مثل أيش؟ قال: مثل قوله:
اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل
فقال: حسن! وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد، فقال: كذبوا والله الذي لا إله غيره لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك.
قال أبو عبد الله : ومما نقول -وهو قول أئمتنا-: أن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله...) الحديث.
ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح فهو مذموم في الحقيقة خارج.
ونقول: إن المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال عليه السلام: (الغناء ينبت النفاق في القلب) وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة ].
فقد تقدم التعليق على هذه الصفحة من كلام ابن الخفيف رحمه الله، وهو في إبطال ما عليه الصوفية من الإقبال والانكباب على القصائد الملحنة، وعلى الغناء، وجعل ذلك من القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن ما عليه أهل التصوف من التعبد لله سبحانه وتعالى بسماع الغناء والتلحين -وما إلى ذلك- أنه منكر في الدين، وليس مما جاء به المرسلون، بل هو مما أحدثه البطالون من أتباع الهوى الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وقد أنكر أهل العلم على هؤلاء قديماً وحديثاً، وبينوا أن الله جل وعلا لم يأمر عباده بأن يتقربوا إليه بالأغاني الملحنة؛ لا بسماعها، ولا بالإقبال عليها، ولا بغير ذلك مما اخترعه هؤلاء وابتدعوه، ويخشى على من اعتقد أن سماع الغناء قربة أن يكون داخلاً في قول الشيخ رحمه الله: (وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله) أي: قصد استماعه تقرباً لله جل وعلى (على غير تفصيله؛ فهو كافر لا محالة).
فالواجب على المرء أن يعلم أن الدين ما شرعه الله سبحانه، فإن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرع، وقد رد على هؤلاء الشيخ ابن القيم رحمه الله في كتابه (السماع) وابن رجب وغيرهما من أهل العلم، ردوا على الصوفية هذه البدعة المحدثة، كما أن شيخ الإسلام رحمه الله رد عليهم رداً مفصلاً في كتابه (الاستقامة).
[ والذي نختار: قول أئمتنا: إن ترك المراء في الدين والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي، وأن المرسل إليهم أفضل؛ فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة؛ فقد كفر ا.هـ ].
هذا قول بعض الصوفية، وهو ضلال وكفر بالله العظيم، حيث زعم هؤلاء المبتدعون أن منهم من يبلغ درجة من التقوى والإيمان يزيد فيه على خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر بالله جل وعلا، وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أقسم بالله فقال مخاطباً خير القرون: (والله إني لأعلمكم بالله، وأتقاكم له).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وهو صلى الله عليه وسلم أخشاهم له، ولا يبلغ أحد من الناس -لا من الأولين ولا من الآخرين- ما بلغه صلى الله عليه وسلم من خوف الله تعالى وخشيته ومراقبته، والتعبد له بأنواع القربات والعبادات.
أما قوله: (من قال بإسقاط الوسائط على الجملة؛ فقد كفر) فهذا صحيح؛ لأن الوسائط بين الله جل وعلا وبين خلقه نوعان:
وسائط يجب إثباتها والإيمان بها: وهم الرسل الذين اصطفاهم الله جل وعلا؛ ليبلغوا رسالاته سبحانه وتعالى، ويدلُّوا الناس عليه.
والقسم الثاني: هم الوسائط المزعومة الذين اتخذهم أهل الكفر وأهل الشرك، وهم أولئك الذين ذكرهم الله جل وعلا في كتابه: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فهؤلاء وسائط منكرة أنكرها الله سبحانه وتعالى، بل حرّم الجنة على من اتخذوا وسائط يتوصلون بهم إلى الله جل وعلا بزعمهم، فقال جل وعلا : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72]؛ فالواجب على العبد أن يثبت الوسائط الذين أرسلهم الله للدلالة عليه ولهداية الخلق، وأن يكفر بالوسائط الذين جعلهم هؤلاء المشركون أنداداً من دون الله؛ يتقربون لهم، ويذبحون لهم، ويصرفون لهم أنواع العبادة.
[ ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني ، قال في كتاب (الغنية): أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار؛ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال:
وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وذكر آيات وأحاديث. إلى أن قال:
وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف.. وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا ].
قوله رحمه الله: (محتو على الملك) أي: محيط علمه به، أو أنه سبحانه وتعالى منفرد به لا شريك له فيه، وليس معناه أنه قد حل فيه شيء من خلقه، أو أن خلقه فيه، فهذا لا يقوله أحد من أهل الإسلام، وليس مراداً من كلام الشيخ رحمه الله، إنما المراد هنا بقوله: (محتو على الملك)، إما أن يقال: إنه محيط به؛ كقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النساء:126]، أو إنه منفرد به سبحانه وتعالى.
[ ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جداً.
قال أبو عمر ابن عبد البر : روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، قال أبو عمر : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات، أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم؛ فهو علم يدان به، وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم؛ فهو بدعة وضلالة.
وقال في (شرح الموطأ) لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت النقل صحيح الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله في السماء عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة. قال: والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله -وذكر بعض الآيات- إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
قال أبو عمر بن عبد البر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله.
وقال أبو عمر أيضاً: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع: الجهمية، والمعتزلة كلها، والخوارج؛ فكلهم ينكرونها، ولا يحملون شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة، فهذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب ].
ومن هذا يعلم أن علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على عرشه أنزله الله في كل كتاب أنزله على نبي مرسل، وبه يتبين صدق ما ذكر من أن علو الله جل وعلا دل عليه إجماع الأمم، فإن الأمم أجمعت على علوه سبحانه وتعالى، وهذا أحد الأدلة التي دلت على علوه، وإلا فإن علو الله سبحانه وتعالى دل عليه الكتاب السنة، ودل عليه إجماع الأمة -كما دل عليه إجماع الأمم- ودلت عليه الفطرة والعقل.
وأما قول المعتزلة وأهل البدع من أن الله سبحانه وتعالى في مكان بذاته المقدسة، فهذا قول باطل فاسد، إنما يقوله من لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، وذلك أن الكتاب والسنة وإجماع السلف والفطرة والعقل؛ كل هذه الأدلة دلت على علوه جل وعلا، وأنه بائن من خلقه عال عليهم، وأما من قال بأن الله جل وعلا في كل مكان؛ فإنه لم ينزه الله جل وعلا التنزيه الواجب، إذ إن من لازم قوله بأن يكون الله جل وعلا في أحشائه، وأن يكون الله جل وعلا في الحشوش والأماكن المستقذرة، وهذا في غاية الفساد والبطلان، كما أنه يلزم عليه أن يزيد بزيادة المكان وأن ينقص بنقصانه، وهذه كلها لوازم باطلة تدل على فساد هذا القول، وأما إثبات العلو فلا يلزم عليه باطل بوجه من الوجوه، فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه من العلو وأثبته له رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة، ودلت عليه الفطرة والعقل الصحيح، نسأل الله أن يوفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الفتوى الحموية [23] | 2836 استماع |
شرح الفتوى الحموية [8] | 2291 استماع |
شرح الفتوى الحموية [17] | 2164 استماع |
شرح الفتوى الحموية [27] | 2162 استماع |
شرح الفتوى الحموية [15] | 1970 استماع |
شرح الفتوى الحموية [10] | 1871 استماع |
شرح الفتوى الحموية [2] | 1854 استماع |
شرح الفتوى الحموية [3] | 1844 استماع |
شرح الفتوى الحموية [6] | 1842 استماع |
شرح الفتوى الحموية [20] | 1795 استماع |