شرح الفتوى الحموية [14]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

أما بعد:

فقال ابن الماجشون رحمه الله تعالى: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض)، وقال لـثابت بن قيس : (لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة) وقال فيما بلغنا: (إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم، قال لا نعدم من رب يضحك خيراً)، إلى أشباه هذا مما لا نحصيه. وقال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وقال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وقال تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وقال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [طه:75]، وقال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فوالله! ما دلهم على عظم ما يوصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف].

هذا تكملة لما سبق من كلام ابن الماجشون رحمه الله، ومراد الشيخ من نقل هذا الكلام عنه رحمه الله أن السلف يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صفات ذاتية أو فعلية أو خبرية.

فقوله: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه) هذا فيه إثبات صفة خبرية له سبحانه وتعالى.

وقوله: (لقد ضحك الله مما فعلت) هذا فيه إثبات صفة فعلية من صفات الله سبحانه وتعالى.

وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذا فيه إثبات الصفات الذاتية له سبحانه وتعالى.

وقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا فيه إثبات الصفة الخـبرية، وكذا وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كل هذا فيه إثبات الصفات الخبرية له سبحانه وتعالى.

ثم قال ابن الماجشون رحمه الله: (فوالله ما دلهم على عظم ما يوصفه من نفسه) أي: في قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم) أي: مما جعله الله فيهم عندهم، فما دلهم على عظمة الله سبحانه وتعالى وأنه كبير عظيم جل وعلا إلا صغر ما عندهم، ولكن قوله: (إلا صغر نظيرها) لا يعني المماثلة التامة، إنما المقصود بالنظير هنا ما فيه مشاركة ومشابهة من وجه، أما المماثلة فلا، فيد الله سبحانه وتعالى ليست كيد المخلوقين، بل يده سبحانه وتعالى على ما تليق به، ويد المخلوقين على ما يليق بهم، فلا مماثلة في صفات الله سبحانه وتعالى، وإثبات هذه الصفات له لا يقتضي ما يزعمونه من التشبيه، ولا يقتضي ما يزعمونه من التمثيل والتبعيض له سبحانه وتعالى، فهو كما قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

ثم قال: (إن ذلك الذي ألقى في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه) فما وصف به نفسه من الصفات كالسمع والبصر والعين واليد والرجل والقبضة وما إلى ذلك، تسمى كما جاءت ولا تؤول ولا تصرف عن ظاهرها، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، يعني: لا نطلب أكثر مما جاءت به النصوص، (لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف)، وهذا فيه غاية العدل، وتمام الامتثال لما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، نقف حيث وقف، ونقول كما قال دون زيادة ولا نقصان.

وليكن على بالنا أن الغرض من سياق هذه النقول هو بيان مذهب السلف، وأنهم يثبتون لله عز وجل الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأما أفراد ما ذكروا من الصفات فسيأتي لبعضها ذكر فيما نستقبل، وبعضها يكتفي الشيخ رحمه الله بما نقله عن السلف فيها.

قال رحمه الله: [اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة؛ فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً؛ ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً، وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك؛ فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصفه الواصفون مما لم يصف منها.

فقد -والله- عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر؛ يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما بلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه.

والراسخون في العلم، الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمي منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقاً؛ لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] وهب الله لنا ولكم حكماً، وألحقنا بالصالحين].

هذا الكلام الجليل، العظيم الفائدة، فيه خير كبير، وفيه قواعد كثيرة، وفيه صد ورد لمذهب الضالين الذين يدعون أن طريقهم يوصل إلى معرفة الله ومعرفة رسوله.

قال رحمه الله: (اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك) يعني: تقف عند ما وقفت النصوص، لا تزيد على ما جاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأمر، لا في باب الغيبيات ولا في غيرها.

قال: (ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر) ثم قال: (فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة؛ فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً) وهذا مهم وله شأن، وهو أن تعرف أن ما جاء في الكتاب والسنة لا يمكن أن يلزم عليه لوازم باطلة، فمن ادعى فيما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله لوازم فإنما أتي من قبل فهمه ورأيه وعقله، وأما ما في الكتاب والسنة فلا تلزم عليه اللوازم الباطلة بحال؛ ولذلك قال: (فلا تخافن في ذكره وإثباته وذكرك من ربك ما وصف من نفسه عيباً) أي: نقصاً، وذلك كما يقولون: إنه يلزم من إثبات الصفة كذا، ويلزم من إثبات كذا كذا، وهذا كله خيالات، ولا تدل عليـه النصوص ولا يلزمها، قال: (ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً).

قال: (وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك، فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك) وأما منعه أن يتكلف ذلك بالعقل فقد تقدم بيان ذلك، وهو أن العقل لا مجال له في أمور الغيبيات، ودللنا على ذلك وذكرناه.

قال: (ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها)؛ لأن الباب واحد، وهو أن الزيادة كالنقص في دين الله، فلذلك جعل الزيادة وتكلف ما لم يَثبُت كالنقص مما ثبت، (فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها).

ثم قال :(فقد -والله- عز المسلمون) أي: ندر وقل، (الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته) يعني: إثباته وذكره لله عز وجل (قلب مسلم) المراد أنه لا يلحق المؤمن بإثباته النصوص شيء من المرض، ولا شيء من الجفوة، ولا شيء من القسوة، بل إثباتها يئول بالمرء إلى تمام المعرفة بالله عز وجل.

قال: [وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفى علم الكيفية].

مقصود الشيخ من سياق هذا الكلام أن تتدبره.

[موافقاً لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقول الجهمية: إنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً].

الجمهية هنا يريد بهم المعطلة بالجملة، ويشمل هذا كل من نفى وعطل صفة من صفات الله عز وجل، سواء كان تعطيله كلياً كالجهمية أو جزئياً كغيرهم.

قال رحمه الله: [ وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة ، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنف أحداً من الإيمان به، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توال أحداً دون أحد؛ وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل.

قال أبو حنيفة : الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.

قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله : قلت: أخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة، وذكر مسائل الإيمان، ثم ذكر مسائل القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه.

ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلال الحرام، قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: قد كفر؛ لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وعرشه فوق سبع سماوات.

قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل -وفي لفظ- سألت أبا حنيفة عمن يقول : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. قال: قد كفر. قال لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وعرشه فوق سبع سماوات.

قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟ قال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.

ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفّر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قال: وعرشه فوق سبع سماوات].

وهذا كله في إثبات أن الأئمة رحمهم الله كانوا على طريقة واحدة في إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وكتاب الفقه الأكبر جزم الشيخ رحمه الله بنسبته إلى أبي حنيفة رحمه الله، وفي نسبته نظر عند بعض أهل العلم، فقد تكلم في نسبته إلى أبي حنيفة الذهبي وغيره، وعلى كل حال هو منقول عن أبي حنيفة وإن كان لم يكتبه، إنما هو من أمالي أبي حنيفة لتلاميذه، وقد نقله عنه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، ونقله عنه أيضاً حماد بن أبي حنيفة ، فيكون قد جاء من طريقين: جاء من طريق حماد ، وجاء من طريق أبي مطيع ، وغالبه من كلام أبي حنيفة ، إلا أن فيه مسائل ليست من كلامه، بل هي من زيادات الرواة أو من زيادات غيرهم؛ لأنه تكلم في مسائل لم يكن الخلاف قد وقع فيها في عصره رحمه الله.

قال رحمه الله: [وبين بهذا أن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يبين أن الله فوق السماوات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش، ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل].

احتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، هذه الحجة الأولى، والثانية: أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، أما الأولى: فهي فطرية بلا إشكال؛ لأن القلوب تجد ميلاً إلى العلو عند سؤال الله عز وجل وطلبه، والثانية: عقلية؛ لأنه لو كان الله سبحانه وتعالى ليس في العلو لما توجه الداعي إلى جهة العلو، فهي فطرية عقلية.

قال رحمه الله: [ فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق.

وروى أيضاً ابن أبي حاتم : أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد الله على التوبة، فامتحنه فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه؛ ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.

وروى أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان.

وروي أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، فسئل عن قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [المجادلة:7] ].

هذا رد لدعوى هؤلاء بأن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وأنه ليس على العرش، فرد عليهم بالآية نفسها، حيث أن الآية صدرت بقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ثم ذكر مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ أي: بعلمه جل وعلا، وإلا فهو كما أخبر عن نفسه مستو على عرشه بائن من خلقه.

قال رحمه الله: [ وروي أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه؛ وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروي أيضاً عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فقال: تفسيره كما يقرأ هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ].

كل هذه النقول كما ذكرنا لتأكيد هذه القضية، وهي من أوضح ما يكون؛ ولذلك فأقوى الكتب في الرد على أهل البدع هذا الكتاب؛ لما فيه من النقول الكثيرة الوفيرة الدالة على أن أهل السنة والجماعة يثبتون الأسماء والصفات لله عز وجل كما جاء في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وفيه أيضاً شدة كلام السلف رحمهم الله في هؤلاء الذين ينكرون علو الله سبحانه وتعالى، وأن إنكار العلو كفر وقوله رحمه الله: (كفر) يبين عظم هذه البدعة، وأنها من البدع الكبيرة التي تتضمن تكذيب ما في الكتاب وما في السنة، غفر الله للسلف ورحمهم، وصلى الله على نبينا محمد.