شرح لمعة الاعتقاد [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فجعل عبادة الله تعالى وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فجعل القول والعمل من الإيمان.

وقال تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173] ، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً ].

تقدم الكلام على ما في هذا الفصل، وذكرنا أن الإيمان الذي ذكره المؤلف بقوله: والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، هو عقد أهل السنة والجماعة في بيان معنى الإيمان، وأن لهم على ذلك عبارات متعددة، منها هذه العبارة، ومنها أن الإيمان قول وعمل، ومنها أن الإيمان قول وعمل ونية، كل هذا مما جاء عن سلف الأمة ومعناه متفق وإن اختلف لفظه.

الإيمان قول واعتقاد وعمل

وقول المؤلف رحمه الله: (والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان) فيه رد على أهل البدع فيما يتعلق بالإيمان، فإن المخالفين في الإيمان على طرق، أشدهم مخالفة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة القلب، وهذا قول جهم ومن أخذ بقوله، ومعنى هذا: أنه لا يحتاج إلى قول، ولا يحتاج إلى عمل، ولا يحتاج إلى إقرار بالقلب، بل يكفي فيه عندهم مجرد المعرفة.

والقول الثاني: هو قول مرجئة الفقهاء الذين قالوا: الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان، فأخروا العمل عن مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون بمرجئة الفقهاء، وهم الذين عابهم سلف الأمة وذموا قولهم، فإن هذا القول متقدم على قول الجهمية، أي: سابق لقول الجهمية الذين قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، فما جاء من ذم السلف للإرجاء إنما هو ذم لما أحدثه مرجئة الفقهاء من تأخير العمل وإخراجه عن مسمى الإيمان.

أول من قال بالإرجاء من الفقهاء

وقد تزعم هذا القول وتكلم به جماعة من الفقهاء من أوائلهم حماد بن أبي سليمان ، وممن نسب إليه الأولية في هذا القول ذر بن عبد الله الهمداني ، وهو من العباد النساك، ونسب هذا القول إلى غير هذين، لكنه اشتهر في فقهاء الكوفة وهم من كان على طريقة أبي حنيفة رحمه الله؛ ولذلك ينسب هذا القول إلى الحنفية؛ لأنه كثر فيهم.

وقد اختلف العلماء هل هو قول أبي حنيفة أم لا؟ فمنهم من قال: إنه قول أبي حنيفة ، وهو المشهور عند نقلة الأقوال، ومنهم من قال: إن أبا حنيفة قال به ثم رجع عنه، وليس هناك في كلام منقول عنه ما يشهد لقوله به أو رجوعه عنه، والذي يظهر أنه جار على ما كان عليه السلف من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، أي: قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان.

وأما ما حدث من مرجئة الفقهاء فإنه قول انتشر في الحنفية فنسب إلى مذهب أبي حنيفة ، وهو قول مخالف لقول أهل السنة والجماعة.

وجه الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء

ووجه المخالفة بين قول مرجئة الفقهاء وبين قول أهل السنة والجماعة، هو في إخراج العمل، فالمرجئة لم يدخلوا العمل في الإيمان، وقد اضطرب قولهم، نظراً لكون هذا القول فيه نوع إشكال في العمل -عمل القلب- هل هو من الإيمان أم لا؟ فبعضهم قال: عمل القلب من الإيمان، وعلى هذا يلزمهم أن يدخلوا عمل الجوارح، وبعضهم أخرج عمل القلب عن مسمى الإيمان، يقول شيخ الإسلام يرحمه الله: ويلزمهم على هذا أن يوافقوا جهم في قوله: إن الإيمان هو مجرد المعرفة.

الإيمان يزيد وينقص

والخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي وليس خلافاً لفظياً كما ذكر ذلك ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية، فالخلاف حقيقي يترتب عليه خلاف معنوي، فإن جمهور العلماء وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الصلاة والزكاة -وهما رأس العمل- من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: إنهما ليسا من الإيمان.

ويرد عليهم بقول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فجعل الله ذلك من الدين، فدل ذلك على أنها داخلة في الإيمان وأنها من الإيمان، فعلم بهذا أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء هو خلاف حقيقي، وإنما قال من قال: بأنه خلاف لفظي بناءً على أن عمل القلب هل يدخل في الإيمان أو لا؟ وهل يؤثر في زيادة الإيمان أو لا؟

وقد ذكر الطحاوي رحمه الله في متنه ما يدل على أن هذا القول مضطرب، فقال رحمه الله: (الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)، فلم يذكر العمل، ثم قال: (وجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء)، ثم قال: (والتفاضل بينهم في الخشية)، فجعل الإيمان متفاضلاً حيث قال: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، هكذا قال رحمه الله في متن الطحاوية، وهذا يدلك على أن هذا القول فيه من الاضطراب ما فيه، إذ كيف يقول: الإيمان واحد، ثم يقول: وأهله في أصله سواء؛ لأنه لو كان الإيمان واحداً لم يكن أهله في أصله سواء؛ لأن إيحاءه بأن له أصلاً وفروعاً يدل على أن العمل داخل فيه.

ثم قوله: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقوى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يدل على أنه يثبت تفاضلاً، ومرجئة الفقهاء على أن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص بناءً على أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، والزيادة والنقصان إنما هي في الأعمال.

فهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة قد انتظم في الرد على هذه الطوائف كلها، سواء الجهمية أو المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو الكرامية، ولم نذكر قول الكرامية لأنه قول مندثر لا قائل به، فهم يقولون: الإيمان قول اللسان فقط.

والصحيح هو: مادلت عليه النصوص من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالجوارح، فترتب على هذا الاعتقاد اعتقاد أن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك قال: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية)، وهذا يخالف فيه كل الفرق التي خالفت في حقيقة الإيمان، فيخالف فيه الجهمية، ويخالف فيه مرجئة الفقهاء، ويخالف فيه الكرامية، ويخالف فيه الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة وإن كانوا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ولكنهم يخالفون في زيادة الإيمان ونقصانه، ويقولون: الإيمان شيء واحد، إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً، هذا هو قولهم فيما يتعلق بالإيمان.

قال: (قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] ) وهذا فيه دليل على ما تقدم من أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، وبين ذلك المؤلف رحمه الله فيما قال: (فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124]).

وبهذا فرغ المؤلف من الاستدلال لبيان حقيقة الإيمان وأنه قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ثم انتقل إلى دليل الزيادة والنقصان، فذكر قوله تعالى: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124].

ثم قال: (وقال تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4] وقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً)، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أما الزيادة فبالنص، وأما النقصان فبالمفهوم، كما قال سفيان بن عيينة لما سئل: أينقص الإيمان؟ قال: (إنه لا يزيد شيء إلا وينقص).

وقول المؤلف رحمه الله: (والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان) فيه رد على أهل البدع فيما يتعلق بالإيمان، فإن المخالفين في الإيمان على طرق، أشدهم مخالفة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة القلب، وهذا قول جهم ومن أخذ بقوله، ومعنى هذا: أنه لا يحتاج إلى قول، ولا يحتاج إلى عمل، ولا يحتاج إلى إقرار بالقلب، بل يكفي فيه عندهم مجرد المعرفة.

والقول الثاني: هو قول مرجئة الفقهاء الذين قالوا: الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان، فأخروا العمل عن مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون بمرجئة الفقهاء، وهم الذين عابهم سلف الأمة وذموا قولهم، فإن هذا القول متقدم على قول الجهمية، أي: سابق لقول الجهمية الذين قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، فما جاء من ذم السلف للإرجاء إنما هو ذم لما أحدثه مرجئة الفقهاء من تأخير العمل وإخراجه عن مسمى الإيمان.

وقد تزعم هذا القول وتكلم به جماعة من الفقهاء من أوائلهم حماد بن أبي سليمان ، وممن نسب إليه الأولية في هذا القول ذر بن عبد الله الهمداني ، وهو من العباد النساك، ونسب هذا القول إلى غير هذين، لكنه اشتهر في فقهاء الكوفة وهم من كان على طريقة أبي حنيفة رحمه الله؛ ولذلك ينسب هذا القول إلى الحنفية؛ لأنه كثر فيهم.

وقد اختلف العلماء هل هو قول أبي حنيفة أم لا؟ فمنهم من قال: إنه قول أبي حنيفة ، وهو المشهور عند نقلة الأقوال، ومنهم من قال: إن أبا حنيفة قال به ثم رجع عنه، وليس هناك في كلام منقول عنه ما يشهد لقوله به أو رجوعه عنه، والذي يظهر أنه جار على ما كان عليه السلف من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، أي: قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان.

وأما ما حدث من مرجئة الفقهاء فإنه قول انتشر في الحنفية فنسب إلى مذهب أبي حنيفة ، وهو قول مخالف لقول أهل السنة والجماعة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لمعة الاعتقاد [17] 2746 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [1] 2102 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [18] 2032 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [10] 1999 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [5] 1839 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [8] 1788 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [16] 1780 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [19] 1752 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [3] 1712 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [4] 1646 استماع