خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [16]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
[ ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به ].
يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان: (ثم يخرجهم منها برحمته) أي: يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون) يقول: (ثم يخرجهم منها) أي: من دخل النار من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا: أمة الإجابة، فمن دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، (وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) وهذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا ألا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان.
(ثم يخرجهم منها) أي: من النار برحمته وشفاعة الشافعين، وذكر المؤلف رحمه الله من أسباب خروج أهل الكبائر من النار رحمته التي وسعت كل شيء، وقدم الرحمة مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخر ذكرها؛ حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع: (شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين) قدمها في الذكر؛ لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه، بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بعباده.
فرحمته سابقة لاحقة، بل ما يصل الإنسان من الخير إنما هو برحمة الله عز وجل، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمن الرحيم، وكلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير، ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خيرٍ إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له، وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا للشافع والمشفوع له.
يخرجهم سبحانه وتعالى برحمته وشفاعة الشافعين، والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة عند أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها، فالشفاعة العظمى ثابتة لأهل الموقف، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة، ولا يمتري فيها إلا أهل الأهواء.
يقول: [وشفاعة الشافعين من أهل طاعته] هذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة والإنس وغيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع.
قال رحمه الله: [ثم يبعثهم إلى جنته] البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود يبعثهم إلى جنته أي: يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار ويلقون في نهر الحياة، فينبتون في هذا النهر، ثم يمنّ الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ومعلوم أن أحوال الآخرة مختلفة تماماً عن أحوال الدنيا؟!
يقول: [وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته]، [ذلك] المشار إليه ما منّ الله به على هذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار، والمؤلف رحمه الله استعمل هذا اللفظ، وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي للتوحيد المعرفة، وأن الإيمان هو معرفة الرب، لكن المؤلف لا يريد هذا، إنما يقصد بأهل معرفته، أي: أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)والتعرف على الله في الرخاء: هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة.
[تولى أهل معرفته] والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصرة، فإن الله جل وعلا تولى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم، وتقريبهم، ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها.
يقول: [ولم يجعلهم في الدارين] يعني: في دار الدنيا وفي دار الآخرة، [كأهل نكرته] يعني: كأهل الكفر به من أهل الجحود وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام.
ولا شك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسوِ بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، ومفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من اتفاق بين أهل الإسلام والإيمان وأهل الإجرام والكفر في الدنيا لكنهم في الحقيقة لا يستويان في الأحكام.
وفي الآخرة يكون الافتراق واضحاً بيّناً يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق، ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق، وتبين تبيناً لا لبس فيه ولا امتراء، فريق في الجنة وفريق في السعير، فلم يسو الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص.
يقول رحمه الله: [ولم يجعلهم] أي: يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر، وأهل التقصير والمعصية، لم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، أي: أهل جحوده الذين خابوا، أي: لم يحصلوا هدايته، وخسروا سلوك هذا الصراط القويم الذي تحصل به للعبد الفضائل والمنن.
قال: [ولم ينالوا من ولايته] لم ينالوا أي: لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة.
الولاية العامة: هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى من الله جل وعلا؛ ينسبون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم)فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة، وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هذا الموطن هي الولاية الخاصة التي يحصل بها نصر الله عز وجل لعبده، وتقريبه، وإنجاؤه من مواطن الهلكة، ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.)إلى آخر الحديث، وفي الرواية الثانية المفسرة لهذا الحديث: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش)هذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء الكفرة.
ثم قال رحمه الله سائلاً الله جل وعلا: [اللهم يا ولي الإسلام وأهله] فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، وهو ولي الإسلام، وصاحبه، وناصره، ومظهره، ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم، ومحبهم، ومقربهم سبحانه وتعالى، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاح.
[ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به] اللهم آمين، والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، وبلزوم ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنجاة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أكرم الخلق عند الله عز وجل فقال: [وأكرمهم عنده أطوعهم وأتبعهم للقرآن]، فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن كلما ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام.
أسأل الله عز وجل أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين.
قال المؤلف رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم.
ولا نُنزل أحداً منهم جنة ولا ناراً، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى].
يقول رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] نرى: أي نعتقد، والرؤية هنا رؤية العلم والاعتقاد، و(الصلاة) المقصود بها: الصلاة المفروضة، أو الصلاة التي يشرع لها الاجتماع من الصلوات المسنونة، يشمل هذا وهذا والمراد نرى ونعتقد وجوب الصلاة خلف كل (بر) وفاجر، بر أي: صاحب طاعة، (فاجر) أي مسرف بالمعصية.
ولكن المؤلف رحمه الله قيد الفجور بقوله: [من أهل القبلة] يعني: من أهل الإسلام، وأهل القبلة تقدم لنا أنهم أهل الإسلام الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه البخاري منفرداً: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذاك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا).
فالمؤلف رحمه الله يقول: [نصلي خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة] يدخل في هذا الكلام الصلاة خلف العصاة والفساق والفجار، فإننا نصلي خلفهم لقول عثمان رضي الله عنه: (إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب) كما في صحيح البخاري، ولا شك أن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا صلى الإنسان خلف الفاسق فإنه شاركه في خير وبر، ولم يشاركه في إثم ومعصية. وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو عقد أهل السنة والجماعة.
وأما ما ورد من الخلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة خلف الفاسق؛ فإنه خلاف موجود بين الفقهاء، لكن الصحيح ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن السلف كانوا يصلون خلف كل بر وفاجر.
والإمام لا يخلو من أحوال: إما أن يكون مستور الحال لا نعلم حاله، فهذا يجب الصلاة خلفه على كل حال، وترك الصلاة خلفه من البدع التي يخالف الإنسان بها طريق أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد من أهل العلم: يجب أن تسأل عن عقيدة الإمام الذي تصلي خلفه، أو أن تفتش عن باطنه، وأن تسأل عن حاله، فهذا مما لم يقله أحد من أهل العلم.
الحالة الثانية: أن يكون من أهل الطاعة. وهذا لا إشكال في أن الصلاة خلفه من عمل أهل السنة والجماعة.
الحالة الثالثة: أن يكون من أهل الفسق والمعصية. وهذا فيه الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أنه يصلى خلفه لا سيما إذا كان إماماً، وعلى هذا يخرج البحث الذي ذكره الفقهاء في مسألة صحة إمامة الفاسق؛ فإن بحث الفقهاء في صحة إمامة الفاسق في غير الأئمة، أي: غير الأمراء والمقدمون؛ فإن الصلاة خلفهم ديانة، ولو كانوا على فسق؛ لأن الصحابة أحرص منا على الخير، وأعلم منا بالشرع، ومع ذلك كانوا يصلون خلف الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، بل نقل عنهم أنهم صلوا خلف الحجاج ، والحجاج مشهور ظلمه، ومعروف حاله عند الصحابة، صلى خلفه عبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان شراباً للخمر، حتى إنه صلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات، فلما سلم، قال: هل أزيدكم؟ قال عبد الله بن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ولم ير هجره وترك الصلاة خلفه؛ لأنه كان الأمير في الجهة التي فيها ابن مسعود رضي الله عنه.
المهم أن مسألة الخلاف في صلاة الفاسق يخرج عنها ما إذا كان النظر في الصلاة خلف من ولاه الله أمر المسلمين، فإنه يصلى خلفه ولو كان فاجراً، وهذا من عقد أهل السنة والجماعة الذين تميزوا به عن أهل البدعة.
الحالة الرابعة من أحوال الإمام: أن يكون مبتدعاً لا عاصياً، وهذا يصلى خلفه أيضاً إذا كان لا يجد الإنسان غيره، وإذا كان هو المتولي للجمعة والجماعة، ولو كان داعية إلى بدعته، فإن الصحابة والتابعين صلوا خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد والبدعة، وكل هذا إنما هو لتحقيق معنى الجماعة، وعدم الفرقة، وبه نعلم خطأ الذين يفرقون بين الناس ويدعون إلى المنابذة، والمخالفة، والتحزب، والتشرذم، والتفرق؛ فإن هذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة.
يقول رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة] ويشهد لهذا أن عثمان رضي الله عنه، لما خرج عليه الخوارج وحصروه في بيته، جاءه أحد السائلين فقال له: يا عثمان أنت إمام جماعة، وهذا الذي يصلي بنا إمام بدعة، فهل نصلي خلفه؟ فقال: (يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنبهم) مع أنه رضي الله عنه محصور، والذي يصلي بالناس من أعدائه وخصومه الذين خرجوا عليه، ومع ذلك لم يقل: لا تصل خلفه، بل قال: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، يعني: صلي معهم، وإذا أساءوا فاجتنبهم، وهذا يدل على كمال ورعه رضي الله عنه، وعظيم منزلته، ولو كان شخصاً من عموم الناس أو غير عثمان فالمتوقع: أن يقول -في أقل الأحوال- لا تصل خلفه؛ لأنه نازعه حقه وإمامته، لكن مع ذلك قال: صل خلفه، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، وهذا يدل على كمال فقهه رضي الله عنه.
والمراد: أنه يصلى خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، لكن عند الاختيار إذا أردت أن تختار بين أن تصلي خلف إمام مبتدع، وبين إمام من أهل السنة؛ فعند الاختيار لا إشكال أنك تذهب إلى إمام أهل السنة، لكن في بعض البلاد التي يظهر فيها قول من أقوال المبتدعة، ولا يكون في المكان الذي أنت فيه أحد من أهل السنة، فنقول: صل مع الناس، ولا تترك الجمعة والجماعة؛ فإن ترك الجمعة والجماعة هو البدعة، وهو المخالف لطريق أهل السنة والجماعة.
يقول: [وعلى من مات منهم] أي: من أهل القبلة؛ فإن أهل السنة والجماعة يرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، سواء كان فاسقاً مبتدعاً أو مستور الحال لا فرق، لكن إن رأى أصحاب المكانة والمنزلة أن يعتزلوا الصلاة على أهل الفجور، وأهل البدعة؛ ردعاً لبدعتهم، فهذا الأمر سائغ ولا بأس به، لكن من حيث العموم يصلي أهل السنة والجماعة على كل من مات من أهل القبلة، يعني: ممن ينتسب إلى الإسلام، وهل يصلى عليه ولو كان منتسباً للجهمية أو القدرية أو الرافضة؟
الجواب: نعم؛ لأن انتسابه إلى هذه البدعة المغلظة لا يسوغ الحكم عليه بالكفر عيناً؛ وفرق بين أن نقول: الجهمية كفار، وبين أن نقول: هذا كافر، لأن المسألة فيها تفريق واضح بين عند أهل السنة والجماعة، فرق بين التكفير العام وبين الحكم بالكفر على المعين، فيصلى على من كان من أهل الإسلام ولو كان من أهل الملل.
يقول: [ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً] أي: لا نشهد ولا نحكم لأحد من أهل القبلة، وتقدم تقييد هذا الإطلاق بمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجنة أو نار، فمن دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، أو هو من أهل النار فهو من أهل النار، ومن عدا من دلت عليه النصوص فإننا نمسك عن الشهادة له؛ لأن الشهادة له بجنة أو نار لا تنفع.
وقوله: [لا ننزل أحداً منهم ] أي: من أهل القبلة، وغير أهل القبلة هل ننزلهم النار؟
الجواب: ظاهر عقد أهل السنة والجماعة -وصرح به بعضهم- أنه لا يشهد للكفار بالنار على وجه التعيين، أما على وجه العموم فكل كافر في النار، لكن على وجه التعيين لا نشهد لمعين بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: [ولا نشهد عليهم بكفر، ولا بشرك، ولا بنفاق] لأن هذه أحكام مبنية على نصوص، فلا نشهد عليهم بكفر، ولا بشرك، ولا بنفاق؛ ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، يعني: من الشرك والكفر والنفاق، ويجب فيما إذا ظهر منهم شيء من ذلك أن نقيم عليهم الحجة، وأن نبين لهم الخطأ، فإن أصروا عليه ولم يرتدعوا عن الكفر أو الشرك أو النفاق فعند ذلك حكمنا لهم بما تقتضيه أحوالهم وأفعالهم، لكن بعد إقامة الحجة، وبعد البيان والتوضيح.
يقول رحمه الله: [ونذر سرائرهم إلى الله تعالى] أي: نكل سرائرهم إلى الله تعالى؛ لأن السرائر لا سبيل إلى معرفتها، ولا إدراك ما فيها، فإنها خفايا مستورة لا يعلمها إلا الله جل وعلا؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]؛ فالسر من علمه سبحانه وتعالى ليس من علم غيره، ما أكنته القلوب وأخفته الأفئدة وأسرته الضمائر علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكشف ولا يتبين إلا يوم تبلى السرائر، فيجب ترك السرائر إلى الله؛ فالبحث في النيات والمقاصد أمره إلى الله جل وعلا ليس إليك، لكن من ظهر منه أمر عاملناه وحكمنا عليه بما ظهر منه، لا بما قصده، ما لم يعتذر بأمر يوجب رفع الحكم عنه.
ذكرنا أن كلام المؤلف رحمه الله يشمل كل المبتدعة الذين لم نعتقد كفرهم، أما من كان كافراً فإنه لا يصلى عليه، فقوله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] هذا يشمل كل من لم يكفر ببدعته، ولا فرق بين أن تكون البدعة مكفرة وبين ألا تكون مكفرة، بمعنى: أنه قد تكون البدعة مكفرة، ويكون القول كفراً، لكن لا نحكم على القائل بأنه كافر، فهنا يدخل في عموم قوله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم].
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في حكايته للصلاة خلف المبتدعة والتفصيل في ذلك، وقال: ويدخل في هذا الجهمي والرافضي، وذكر في موضع آخر: أنه لا يصلى خلف من لا يرى الجمعة والجماعة كأئمة الرافضة، فالمسألة على عمومها في كلام المؤلف رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم]، ولا يعني هذا أن يتقصد الإنسان الصلاة على هؤلاء، أو يطلب الصلاة عليهم، ولا يخالف هذا ما قرره أهل السنة والجماعة من هجر المبتدع، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد.
وهذا يدل على أن المسألة فيها خيار، وأنه للإنسان أن يختار ألا يصلي عليه من باب هجره، لكن فرق بين مسألة الصلاة خلف كل بر وفاجر، وبين الصلاة عليه؛ لأن الصلاة عليه ليست لازمة، وإنما هي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
وأما الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة؛ فإنه يصلى خلفهم إذا كان لا يمكن أن تقام الجماعة والجمعة إلا بالصلاة خلفهم، بل ترك الجمعة والجماعة خلف أهل البدع من البدع.
قال رحمه الله: [ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف].
[ لا نرى السيف ] أي: لا نرى القتل على أحد من أمة محمد، وهم أمة الإسلام الذين عصم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم بكلمة الإسلام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)، فكل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو معصوم الدم، لا يجوز التعرض له بقتل إلا إذا فعل ما يوجب القتل.
ولذلك استثنى المؤلف بقوله: [إلا من وجب عليه السيف] ولا يلزم من وجوب السيف أن يخرج عن الأمة وعن الإسلام، بل هو في الأمة وفي الإسلام وإن وجب عليه السيف، كالذي يقتل نفساً بغير حق، أو يزني وهو محصن، وما أشبه ذلك من موجبات القتل في شرعة الإسلام، (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
ثم قال رحمه الله: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة].
يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا] أي: لا نعتقد ولا نجيز الخروج على أئمتنا، والأئمة هنا هم ولاة الأمر؛ ولذلك قال في بيانه: [وولاة أمرنا] أي: من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عليهم، يقول: [وإن جاروا] أي: وإن ظلموا فإنه لا يجوز الخروج عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وأمر أصحابه بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، ولو ظهر منه ما يخالف الدين، وهذا يدل على أن من عقائد أهل السنة والجماعة التزام الجماعة، ولذلك سموا بالجماعة لأنهم يجتمعون على ولاة أمرهم، ولا تخلوا عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة فيما أدركت ونظرت من ذكر هذا الأمر؛ وذلك أن فتنة الخروج من أول ما حصل من البدع في هذه الأمة، وهي من شر البدع لما ترتب عليها من الشر الكثير.
وقد ذكرنا فيما تقدم: أن بدعة الخوارج من البدع التي جاء التحذير والتنفير منها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحض بدعة من التحذير والتنفير كبدعة الخوارج لشدة شرها؛ ولأنها تفسد ما جاءت به الشريعة، فالشريعة جاءت بالاجتماع، والائتلاف، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، والخروج يحصل به الفساد في هذا كله، وانتفاء هذه المصالح كلها.
[لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا] أي: وإن وقع منهم الجور، سواء بقصد أو بتأويل، لا فرق بين ذلك، ويجب الصبر والاحتساب عند الله عز وجل على ما جرى منهم من الجور.
قال: [ولا ندعو عليهم] أي: لا يجوز أن ندعو عليهم؛ لأن الدعاء عليهم منابذة لهم، وهو من أوائل الخروج؛ لأنه خروج بالقول عليهم.
وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الولاة: (خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم؛ وشر ولاتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتدعون عليهم ويدعون عليكم) فهذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم؛ لأن بعض الناس يحتج بمثل هذا في الدعاء عليهم، وهذا إنما هو بيان لعلامة وأمارة، وليس فيه أنه يجوز الدعاء عليهم، بل الواجب ما ذكر المؤلف رحمه الله في قوله: [وندعو لهم بالصلاح والمعافاة]؛ لأن في صلاحهم صلاح الأمة.
قال رحمه الله: [ولا ننزع يداً من طاعتهم] أي إذا وقع منهم الجور فلا ننزع يداً من طاعتهم، بل يجب الصبر عليهم والطاعة لهم مع ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فيما أوصى أمته بذلك: (عليكم بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي) ومعلوم أن العرب كان تولي مثل هذا عليهم من أعظم ما يكون في نفوسهم، ومن أعظم أسباب النفرة وعدم الطاعة، مع ذلك أمرهم بالطاعة ولو كان المتولي عليهم من كان بالأمس رقيقاً عندهم، يتصرفون به تصرفهم في سائر أموالهم، ومع ذلك أمرهم بالسمع والطاعة، وهذا فيه بيان عظم هذا الأمر، وأنه لا يجوز الخروج مهما كان الأمر، ما دام الحال لم يبلغ ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان).
يقول: [ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله تعالى فريضة ما لم يأمروا بمعصية].
أي: طاعة ولي الأمر فريضة واجبة يؤجر عليها الإنسان، ويأثم بالمخالفة، والطاعة هنا ليست فقط فيما إذا أمروا بالطاعة، بل فيما إذا أمروا بالطاعة، وفيما إذا أمروا بما يرون أنه مصلحة وليس فيه معصية مما يحصل به تنظيم أمور الناس، ومن هذا نفهم خطأ الذين يعارضون في بعض المسائل التي تتبع التنظيمات والترتيبات الإدارية، وهذا جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع ليس من الشرع، وهذا خطأ، بل الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع يؤجر عليه الإنسان، ويأثم بمخالفته، وهذا معنى قوله رحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله] هذا مما يدخل في كلامه يرحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يأمروا بمعصية] فإذا أمروا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والمعصية إما أن تكون معصية عند كل أحد، كأن يأمر مثلاً بالزنا، فهنا لا يجوز أن تطيعه؛ لأن هذه معصية عند كل أحد، وإذا كانت معصية عندك وليست معصية عند غيرك، يعني: من مسائل الاجتهاد فهل تطيع أو لا تطيع؟ الجواب تطيع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا كان حكم القاضي في المحكمة يرفع الخلاف في قضية من القضايا عليك بما ترى أنه خلاف الصواب، فكيف بحكم من هو أعلى من القاضي وهو ولي أمر المسلمين؟ فإذا حكم ولي أمر المسلمين بحكم ترى أنت أن فيه معصية، والمسألة من مسائل الخلاف فيجب عليك طاعته، ولا إثم عليك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذه من المسائل المهمة التي يقع السؤال عنها.
فقوله رحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية] إذا كانت المعصية عامة فلا إشكال أنه لا طاعة لأحد في معصية الخالق، أما إذا كانت المعصية مما فيه اجتهاد واختلاف فالواجب الطاعة، ويمكن أن يعتذر الإنسان، ويترخص ممن أمره بالأمر بأنه لا يرى هذا أو أنه يرى أنه معصية، فإن أذن له فالحمد لله، وإن لم يؤذن له فيجب عليه أن يطيع.
يقول رحمه الله: [وندعو لهم بالصلاح والمعافاة]؛ لأن الدعاء بالصلاح والمعافاة ليس خيره خاصاً بهؤلاء، بل خيره في هؤلاء الذين هم ولاة الأمر وللأمة أيضاً؛ لأن صلاحهم من صلاح الأمة؛ ولذلك ورد عن السلف كالإمام أحمد رحمه الله قوله: (لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لما يترتب على صلاحه من صلاح الأمة) وبعض الناس يبخل بالدعاء لولاة الأمر، ويظن أن هذا من الحكمة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهل؛ لأن صلاحهم صلاح للأمة؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء لهم، وليس هذا فقط في الأدعية العامة كالخطب وغيرها بل حتى في الدعاء الخاص؛ فإنهم من أسباب صلاح الأمة، ومن أسباب خروجها من البلايا، والله تعالى أعلم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [17] | 2735 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [8] | 2630 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [20] | 2362 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [2] | 2352 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [13] | 2235 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [5] | 2104 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [15] | 2064 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [6] | 2056 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [9] | 2045 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [4] | 2040 استماع |