الصفحات الأخيرة من حياة الصديق


الحلقة مفرغة

الحمد لله عالم السر والنجوى، كاشف الضر والبلوى، مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق، ، وكاتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله رحمةً للعالمين، وبعثه إلى الناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!كنت أقلب بعض صفحات التاريخ أبحث فيها عما يفيد اتعاظاً واعتباراً، فوافيت حدثاً يوافق يومنا وتاريخه، صفحة قبله طويت في تاريخ أمة الإسلام، وفتحت فيه صفحة أخرى في سجلات العظمة الإيمانية، وصفحات القيادة الإنسانية، ذلكم الحدث كان وفاة رجل عظيم من هذه الأمة، وبعده في صباح اليوم الذي يليه كان استقبال الأمة لقائد عظيم آخر.

ولا شك أن سير عظمائنا جليلة، غير أن عبر الوفاة كثيراً ما تكون أبلغ إذ مع آخر لحظات العمر، وفي آخر أنفاس الإنسان تتجلى خواطر نفسه، وتظهر حقيقته على وضوح وبينة من غير زخرفة أو بهرجة.

ولعلي أبدأ حَدَثنا الذي كان في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة بهذه الكلمات التي قالها أيضاً عظيم من عظماء أمتنا، يشهد فيها لفقيدنا العظيم بجلائل الخصال، وعظائم الفضائل فقال: (كنتَ أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءاً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً)، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، وجزاك الله عن رسول الله خيراً).

ثم قال في شأنه وصفته: (كنتَ أقرب الناس إلى رسول الله، وأحبهم إليه، وصدقته حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً، وعلى الكافرين عذاباً، لم تقلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تزعزعه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله.

ثم قال في شأنه: (وكنت في نفسك متواضعاً وعظيماً عند الله، جليلاً في الأرض وكبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، والضعيف قوي عندك حتى تأخذ الحق له، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، ولقد سبقت سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباًً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك).

أحسب أنكم قد عرفتم أن فقيدنا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه، غير أني أحسب أن كثيرين منكم لا يعلمون أن هذه الكلمات الصادقة الناصعة هي كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلكم العظيم الذي يوجد في وفاته دروس عظيمة وجليلة؛ لأنه كان أعظم رجال مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأجل خريجيها، وأكثر الواردين إليها، والناهلين منها، والمنتفعين بها، والممثلين لها، والذين حملوا رايتها، وثبتوا على مبدئها حتى آخر نفس من الأنفاس.

صفحات التاريخ تحكي لنا اللحظات الأخيرة التي انتهت فيها صفحة أبي بكر ، وأشرقت من بعدها صفحة الفاروق عمر رضي الله عنه.

استشارة أبي بكر في استخلاف عمر

لما ثقل على أبي بكر المرض واستبان له حال نفسه -أي: أنه موشك على الموت- جمع الناس إليه ثم قال لهم: (إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميت، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي، فقاموا عنه، ثم لم يلبثوا من بعد حتى رجعوا إليه فقالوا: إنا نرى رأيك) أي: فوضنا الأمر إليك، وجعلنا الاختيار والترجيح لك، لما نعلمه عنك من صفاء نيتك، وعظمة إخلاصك وصدقك.

فأي شيء فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ لقد بدأ بالمشاورة رغم أنه قد مال ميله، ورأى رأيه، فطلب إليهم أن يمهلوه وقال: (أمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده).

لم يكن ينظر لنفسه ولا لحظها، ولا لأهله أو ورثته، لم يكن ينظر إلا لدين الله، ومصلحة عباد الله، ثم بدأ بالمشاورات فاستدعى إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم قال له: ما تقول في عمر؟ فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا تسألني عن شيء من أمر عمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال: وإن كان كذلك! فأوجزها ذو النورين في كلمات؛ لتدلنا على عظمة أولئك الرجال، وصدقهم وإخلاصهم، وتجردهم من حظوظ أنفسهم، وترفعهم عن ميلهم إلى هواهم أو نظرهم إلى دنياهم، أوجزها كلمات خالدة فقال: (هو أفضل من رأيك فيه) وما أبلغ هذه الكلمات!

ثم استدعى أبو بكر رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وسأله ذلك السؤال، فقال: إنك أعلم به، فطلب منه الإفادة، فقال: (علمي أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا خيرٌ منه).

تلك الكلمات الصادقة أعقبها أبو بكر باستشارة سيدٍ من سادات الأنصار أسيد بن الحضير رضي الله عنه فقال: (الله أعلم بالخيرة بعدك، فإنه يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خيراً من الذي يعلن، ولن يلي هذه الأمة أحدٌ أقوى منه).

فكانت هذه الشهادات الصادقة المخلصة المترفعة قد عقدت عزم أبي بكر على المضي لما رآه من الاختيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم ثقل مرضه وشدته، لم يكن له هم إلا في حال الأمة وحسن الاختيار لها.

خطبة أبي بكر وعهده بالأمر إلى عمر

ثم احتمل على نفسه رضي الله عنه، وطلب في شيء من خفة المرض عليه أن يحمل على المنبر؛ ليخطب الناس ويكلمهم، ويعهد إليهم ويوصيهم، فقام متثاقلاً مريضاً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه في آخر خطبة له سمعت منه، فقال فيما قال رضي الله عنه وأرضاه:

أما بعد:

أيها الناس! احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها غدارة، وآثروا الآخرة على الدنيا وأحبوها، فحب كل واحدةٍ منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يصلح له إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها ضده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتاده من الحذر والعلم.

أوجز الصديق تلك الخصال التي لابد منها في الرجال ليتسلموا مقاليد الأمور، ويحملوا هم الأمة، ويقوموا بأعباء الدين، ويحرصوا على سياسة الدنيا، إنهم الرجال الذين وصفهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه بهذه الأوصاف، ثم أوجزها بأن قال: (إنها ممثلة في الفاروق عمر رضي الله عنه).

ثم كتب كتابه ووصيته لئلا يختلف المسلمون من بعد قوله، سجله كتابة بخط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يملي عليه وهو في مرض موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]).

دروس من قصة استخلاف أبي بكر لعمر

هذه صفحتنا الأولى في عهد الصديق للفاروق رضي الله عنهما، ووقفاتنا فيها كثيرة.

أولها: أن القادة العظام أول ما يشغل بالهم، وأعظم ما يقلق راحتهم هو مصلحة أمتهم، ورعاية شئون رعيتهم، لم يكن أبو بكر في مرض موته يفكر في أبنائه، ولا في أسرته، ولا في أمواله، ولا في ثروته، كان همه هذه الأمة.

الأمر الثاني: الصدق التام، والإخلاص الكامل، والتجرد المطلق الذي يكون القصد الأعظم فيه رضوان الله، والهدف الأسمى فيه رعاية مصلحة عباد الله، ذلك أن أبا بكر جمع فكره، وأمضى استشاراته، لا يريد بذلك إلا وجه الله وخير أمة الإسلام.

الأمر الثالث: الخبرة بالرجال، ومعرفة أقدارهم، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم، لا بأموالهم ولا بثرواتهم، لا بحظوظهم الدنيوية، ولا بسمعتهم بين الناس إلا بما فيه تقوى الله، والقوة في الأخذ بدين الله، والتحمل للمسئولية، والأداء للأمانة، عجم الصديق الصحابة، نظر فيهم وهم أخيار أبرار، وأقمار مضيئة، ونجوم مشعة، فانتقى وانتخب وتخير وتدبر، فجاء بهذا الاختيار العظيم الذي بينه في خطبته لرجل شديد في وقت الشدة، لين في وقت اللين، عادل منصف حريص على أن يضع الأمور في مواضعها، وذلك أمر مهم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن من علامات آخر الزمان تضييع الأمانة، وعندما سئل عن معناها قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

ولقد كان الفاروق من بعد أبي بكر الرجل المميز في معرفة الرجال، وانتقائهم على أساس إيمانهم وإخلاصهم، وتقواهم وخوفهم من ربهم، وعلى أساس قوتهم وأهليتهم، وكفاءتهم في القيام بمهامهم.

ومن بعد ذلك أيضاً درس رابع في المشورة مع وضوح القضية، فكيف إذا كان الأمر ملتبساً.

فهذا الصديق كان قد مال إلى اختيار عمر ، ومع ذلك يستشير هذا وهذا وذاك، ويستطيب نفوس الناس، ويستخرج ما في عقولهم، ثم يعلن، ثم يكتب حتى يحكم الأمر من جميع جوانبه؛ رعايةً لمصلحة الأمة، وسداً لباب الفتنة، ومنعاً لأسباب الاختلاف، وقد كان فعله رضي الله عنه وأرضاه هو الفعل الذي عصم الله به الأمة، وزاد من قوتها وانطلاقتها، بعد أن أخمد حرب الردة، وبعد أن أمضى الجيوش إلى بلاد فارس والروم، استطاع عمر في لحظات من بعد وفاة الصديق رضي الله عنه أن يمضي الأمور دون نزاع، ولا خلاف ولا توقف.

ومن بعد ذلك أمر خامس: وهو الصدق في أداء الأمانة والمشورة، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكما قالوها في هذه الكلمات المشرقة المنيرة، ولا يستشار إلا المؤتمن، ولا يؤخذ الرأي إلا من الصادق المخلص، وتلك ومضات كثيرة من صفحةٍ واحدة.

لما ثقل على أبي بكر المرض واستبان له حال نفسه -أي: أنه موشك على الموت- جمع الناس إليه ثم قال لهم: (إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميت، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي، فقاموا عنه، ثم لم يلبثوا من بعد حتى رجعوا إليه فقالوا: إنا نرى رأيك) أي: فوضنا الأمر إليك، وجعلنا الاختيار والترجيح لك، لما نعلمه عنك من صفاء نيتك، وعظمة إخلاصك وصدقك.

فأي شيء فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ لقد بدأ بالمشاورة رغم أنه قد مال ميله، ورأى رأيه، فطلب إليهم أن يمهلوه وقال: (أمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده).

لم يكن ينظر لنفسه ولا لحظها، ولا لأهله أو ورثته، لم يكن ينظر إلا لدين الله، ومصلحة عباد الله، ثم بدأ بالمشاورات فاستدعى إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم قال له: ما تقول في عمر؟ فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا تسألني عن شيء من أمر عمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال: وإن كان كذلك! فأوجزها ذو النورين في كلمات؛ لتدلنا على عظمة أولئك الرجال، وصدقهم وإخلاصهم، وتجردهم من حظوظ أنفسهم، وترفعهم عن ميلهم إلى هواهم أو نظرهم إلى دنياهم، أوجزها كلمات خالدة فقال: (هو أفضل من رأيك فيه) وما أبلغ هذه الكلمات!

ثم استدعى أبو بكر رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وسأله ذلك السؤال، فقال: إنك أعلم به، فطلب منه الإفادة، فقال: (علمي أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا خيرٌ منه).

تلك الكلمات الصادقة أعقبها أبو بكر باستشارة سيدٍ من سادات الأنصار أسيد بن الحضير رضي الله عنه فقال: (الله أعلم بالخيرة بعدك، فإنه يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خيراً من الذي يعلن، ولن يلي هذه الأمة أحدٌ أقوى منه).

فكانت هذه الشهادات الصادقة المخلصة المترفعة قد عقدت عزم أبي بكر على المضي لما رآه من الاختيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم ثقل مرضه وشدته، لم يكن له هم إلا في حال الأمة وحسن الاختيار لها.

ثم احتمل على نفسه رضي الله عنه، وطلب في شيء من خفة المرض عليه أن يحمل على المنبر؛ ليخطب الناس ويكلمهم، ويعهد إليهم ويوصيهم، فقام متثاقلاً مريضاً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه في آخر خطبة له سمعت منه، فقال فيما قال رضي الله عنه وأرضاه:

أما بعد:

أيها الناس! احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها غدارة، وآثروا الآخرة على الدنيا وأحبوها، فحب كل واحدةٍ منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يصلح له إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها ضده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتاده من الحذر والعلم.

أوجز الصديق تلك الخصال التي لابد منها في الرجال ليتسلموا مقاليد الأمور، ويحملوا هم الأمة، ويقوموا بأعباء الدين، ويحرصوا على سياسة الدنيا، إنهم الرجال الذين وصفهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه بهذه الأوصاف، ثم أوجزها بأن قال: (إنها ممثلة في الفاروق عمر رضي الله عنه).

ثم كتب كتابه ووصيته لئلا يختلف المسلمون من بعد قوله، سجله كتابة بخط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يملي عليه وهو في مرض موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]).

هذه صفحتنا الأولى في عهد الصديق للفاروق رضي الله عنهما، ووقفاتنا فيها كثيرة.

أولها: أن القادة العظام أول ما يشغل بالهم، وأعظم ما يقلق راحتهم هو مصلحة أمتهم، ورعاية شئون رعيتهم، لم يكن أبو بكر في مرض موته يفكر في أبنائه، ولا في أسرته، ولا في أمواله، ولا في ثروته، كان همه هذه الأمة.

الأمر الثاني: الصدق التام، والإخلاص الكامل، والتجرد المطلق الذي يكون القصد الأعظم فيه رضوان الله، والهدف الأسمى فيه رعاية مصلحة عباد الله، ذلك أن أبا بكر جمع فكره، وأمضى استشاراته، لا يريد بذلك إلا وجه الله وخير أمة الإسلام.

الأمر الثالث: الخبرة بالرجال، ومعرفة أقدارهم، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم، لا بأموالهم ولا بثرواتهم، لا بحظوظهم الدنيوية، ولا بسمعتهم بين الناس إلا بما فيه تقوى الله، والقوة في الأخذ بدين الله، والتحمل للمسئولية، والأداء للأمانة، عجم الصديق الصحابة، نظر فيهم وهم أخيار أبرار، وأقمار مضيئة، ونجوم مشعة، فانتقى وانتخب وتخير وتدبر، فجاء بهذا الاختيار العظيم الذي بينه في خطبته لرجل شديد في وقت الشدة، لين في وقت اللين، عادل منصف حريص على أن يضع الأمور في مواضعها، وذلك أمر مهم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن من علامات آخر الزمان تضييع الأمانة، وعندما سئل عن معناها قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

ولقد كان الفاروق من بعد أبي بكر الرجل المميز في معرفة الرجال، وانتقائهم على أساس إيمانهم وإخلاصهم، وتقواهم وخوفهم من ربهم، وعلى أساس قوتهم وأهليتهم، وكفاءتهم في القيام بمهامهم.

ومن بعد ذلك أيضاً درس رابع في المشورة مع وضوح القضية، فكيف إذا كان الأمر ملتبساً.

فهذا الصديق كان قد مال إلى اختيار عمر ، ومع ذلك يستشير هذا وهذا وذاك، ويستطيب نفوس الناس، ويستخرج ما في عقولهم، ثم يعلن، ثم يكتب حتى يحكم الأمر من جميع جوانبه؛ رعايةً لمصلحة الأمة، وسداً لباب الفتنة، ومنعاً لأسباب الاختلاف، وقد كان فعله رضي الله عنه وأرضاه هو الفعل الذي عصم الله به الأمة، وزاد من قوتها وانطلاقتها، بعد أن أخمد حرب الردة، وبعد أن أمضى الجيوش إلى بلاد فارس والروم، استطاع عمر في لحظات من بعد وفاة الصديق رضي الله عنه أن يمضي الأمور دون نزاع، ولا خلاف ولا توقف.

ومن بعد ذلك أمر خامس: وهو الصدق في أداء الأمانة والمشورة، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكما قالوها في هذه الكلمات المشرقة المنيرة، ولا يستشار إلا المؤتمن، ولا يؤخذ الرأي إلا من الصادق المخلص، وتلك ومضات كثيرة من صفحةٍ واحدة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2910 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2536 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2470 استماع
التوبة آثار وآفاق 2454 استماع