الإيمان مفهوماً وتأثيراً


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة، ونحمد الله جل وعلا أن هيأ لنا هذا اللقاء الطيب المبارك الذي نصل فيه ما سلف من هذه الدروس والمواعظ العامة، وأسأله جل وعلا أن يكتب لنا بها أجراً، وأن يرزقنا من ورائها نفعاً، وأن يجعل لنا فيها خيراً، وكما جمعنا في هذا البيت من بيوته أن يجمعنا في مستقر رحمته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله جل وعلا مزيد التوفيق والتسديد، والهداية والإلهام إلى الطاعة، هو جل وعلا الهادي والموفق سبحانه وتعالى.

وبعد:

أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا هو درسنا الخامس بعد المائة الأولى ليوم الجمعة، الثاني من شهر جمادى الأولى عام (1415هـ).

وعنوان هذا المجلس: الإيمان مفهوماً وتأثيراً.

ولعلنا نتفق جميعاً على أن أهم شيء في هذه الحياة كلها، وأهم شيء في هذا الوجود كله، والأمر الذي قامت لأجله السماوات والأرض، وخلقت لأجله الجنة والنار، والثواب والعقاب، هو أمر الإيمان، وحقيقة التوحيد، ومضمون شهادة أن لا إله إلا الله، إذ إن الله جل وعلا إنما خلق الخلق لعبادته وتوحيده سبحانه وتعالى، وإنما جعل هذه الحياة كلها ابتلاءً واختباراً، لتعقبها بعد ذلك حياة أخرى فيها حساب، وبعد ذلك إما ثواب وإما عقاب، وكل ذلك أساسه ومداره على الإيمان.

ولعلنا أيضاً نتساءل: ما الداعي إلى أن نتحدث في مثل هذا الموضوع؟ وربما قال كثير منا: إنه أمر متفق عليه ولا خلاف فيه، والعلم به حاصل، إلا أنني أقول:

إن أمر الإيمان لما كانت له هذه الأهمية العظمى وجب أن يكون هو الأمر الذي لا يفتر الذاكر عن ذكره، ولا يغفل المعلم عن تعليمه، ولا يتناسى الناس أمره، ولا يجعلون مجلساً من مجالسهم يمر دون تذكرة به أو دعاء إليه أو تعريف به؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم -وهم أعلم الأمة، وأزكاها نفوساً، وأطهرها قلوباً، وأعظمها إيماناً، وأكثرها عبادة- كان أحدهم ينادي صاحبه ويقول له: تعال بنا نؤمن ساعة.

وإن القلوب تغشاها الغفلة، ويضرب عليها الران، وتتكاثر عليها ظلمات المعاصي، فتحتاج دائماً وأبداً في كل ظرف وحال، وفي كل بلد ومكان، وفي كل عصر وأوان، وفي كل حالة من حالات الإنسان؛ إلى أن يتذكر حقيقة الإيمان التي تجلو صدأ قلبه، والتي تربطه في هذه الحياة الدنيا بالحياة الأخرى، والتي تشد حبل صلته بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى.

ولذلك جاء مثل هذا الحديث التذكيري الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله حياة لقلوبنا، وأن يجعله تقوية لإيماننا، وزاداً لنا في حياتنا، وقد جعلت الموضوع متعلقاً بمفهوم الإيمان وتأثيره؛ لأن الفهم أساس العمل، ولأن التأثير ثمرة العمل، وعمل بلا فهم كبناء بلا أساس، وعمل بلا أثر كشجر بلا ثمر، إذ عندما يعمل العامل من غير حسن فهم، وكمال تصور، ودقة في العلم، وشمول فيه يخبط خبط عشواء، ويقع في الضلال والانحراف، وتتلقفه الشبهات، ويأخذ في سبل الشياطين إلا من رحم الله، ولأنه إذا فهم ثم لم يعمل العمل الذي يترك بصماته وآثاره في حياته وسلوكه، وفي أقواله وأفعاله، فكأنه إنما أتى بظاهر من القول وظاهر من العمل لم تخلص حقيقته إلى قلبه وسلوكه.

لا يقتصر الإيمان على القول باللسان ولا العمل ولا التصديق

ونبدأ بأمر الفهم وهو المقدم في هذا المقام، ونتساءل سؤالاً بدهياً ربما يتبادر إلى أذهان كثير منا أنه من الوضوح بمكان، بحيث لا يسأل عن مثله، ولكن ما سأذكره من خلال الآيات القرآنية يجعل لهذا السؤال بعداً أعظم وأوسع مما قد يخطر ببال بعضنا: ما هو الإيمان؟

هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟

إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟

لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان.

ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وفي سورة التوبة: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟

والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك.

ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين.. فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة.

وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا.. حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله.

إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى.

وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.

أمثلة في بيان حقيقة الإيمان وأثره على الحياة

إذاً: فالإيمان ليس قولاً، وليس عملاً، وليس معرفة، فأي شيء هو هذا الإيمان؟ قد نقول: إنه جماع هذه كلها، ولكني أريد أن أعمق هذا المعنى تعميقاً يجعل له حقيقته الواجب معرفتها.

وأضرب لذلك مثلاً بعيداً، ثم آتي بمثل آخر أقرب حتى ندرك أن قضية الإيمان وأن مفهومه أعمق وأوسع وأكثر شمولاً مما قد نتصوره في بعض الأحيان:

لو أن إنساناً جاء إلى أرض صحراوية جرداء لا شجر فيها ولا ماء، وليس فيها من معالم الحياة شيء يذكر، ثم غاب عنها فترة من الزمن وجاء إليها فإذا هي جنان خضراء، وأشجار وثمار، وظلال وارفة، وأزهار زاهية، وثمار يانعة، فإنه لا شك سيعجب عجباً شديداً، بل قد يحكم أو يجزم أو يتصور أن هذه الأرض ليست هي التي رآها من قبل، بل هي أرض جديدة مختلفة، وسيكون عنده يقين جازم أنه قد حصلت أمور أوجبت مثل هذا التغيير، وهذه الأمور بالنسبة له في مثل هذا المثل أمور مادية محسوسة، لابد أن يكون قد جاء إلى هذه الأرض أقوام فحرسوها وزرعوها وحفروها وأخرجوا منها الماء، وفعلوا بها وفعلوا .. واجتهدوا فيها وجدوا حتى حصل مثل هذا الأمر.

ونحن حينئذٍ كأننا نمثل بين شيئين مختلفين، كأننا نذكر صورة من صور الموت والجفاف والجفاء، وصورة أخرى من صور الحياة والحيوية والرواء، وبينهما بعد شاسع وفرق كبير، حتى كأن الأمر لا يرتبط أوله بآخره، أو لا ترتبط هذه بتلك.

وأنتقل إلى المثل الحسي الواقعي بعد هذا المثل التجريبي النظري:

جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجزيرة وقد كانت صحراء جرداء من المبادئ، وكان فيها الكفر ضارباً أطنابه، والظلام مرخياً أستاره، والناس يتخبطون في الجهل والعمى، ويتخبطون في أنواع من الشرك والكفر، وبينهم شحناء وبغضاء، وبينهم حروب مشتعلة وعداوات وحزازات، وعندهم تفاهات في الأفكار.

ثم هؤلاء الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا فيهم تغيراً كاملاً شاملاً مستوعباً، فإذا أهل الظلمات هم أهل النور والضياء، وإذا الفرق المتناحرة أمة واحدة، وإذا أصحاب الأفكار التافهة هم أصحاب الغايات العظيمة، وإذا بأولئك القوم الذين كان فيهم كثير وكثير من أوصاف الرذيلة قد صاروا معلمي البشرية وقادتها في المبادئ والأخلاق والفضائل والأفكار والأعمال.

فكأن المثل ينطبق مرة أخرى! كأن هؤلاء ليسوا هم الذين كانوا من قبل! ليس هؤلاء القوم هم الذين رأيناهم في تلك الحالة! وسنبحث حينئذ كما بحث صاحبنا في المثل الأول عن السبب.

الإيمان هو الذي غير حياة الصحابة وليس الماديات

وينطلق كثير من الناس إلى نظرات مادية فيقول: لعل هؤلاء القوم تغيرت أحوالهم الاقتصادية فأصبح عندهم ارتفاع في مستوى المعيشة، وبالتالي تغيرت أنماط حياتهم أو سلوكياتهم أو طريقة كلامهم ومعاملاتهم ونحو ذلك، وقائل قد يقول: لعله قد تغيرت أنماط من حياتهم الاجتماعية بأن وفد إليهم أقوام آخرون، أو بأن سافروا واغتربوا ورحلوا إلى بلاد أخرى ونحو ذلك.

وإذا جئنا إلى هذه الحقيقة التي ضربنا بها المثل في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً هي كما هي ما تغير اقتصادها، ولا أمور حياتها الاجتماعية، هي كما هي في رحلة شتائها وصيفها.. في كبريائها وغطرستها.. في أحرارها وساداتها وفي عبيدها .. وهي كما هي في شرب خمرها .. وفي لهوها وعبثها .. ما تغير فيها شيء في أحوالها المادية.

فما الذي إذاً غير هؤلاء الناس؟ ما الذي غير العقول؟ ما الذي غير النفوس؟ ما الذي غير الكلمات؟ ما الذي غير الأعمال؟ ما الذي صاغ الأفكار؟ ما الذي غير كل هذا التغيير الجذري الشامل وبنى هذا البناء العظيم المتكامل؟

سنجيب بكلمة باردة ربما لا ندرك شأوها وعظمتها، سنقول: إنه الإيمان .. إنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .. ولكنا نريد أن نعمق ذلك من خلال الآيات القرآنية أيضاً، فقد وصف الله جل وعلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الرسالة التي جاء بها، وما حقيقتها، وما الذي جاءت به إلى البشرية: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].

الإنسان بلا إيمان كالجسد بلا روح

انظر إلى هذه الآية وتأمل قوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] هذا الإيمان هو الروح، ولا قيمة لجسد بلا روح، ما الفرق بين الإنسان الحي والذي يموت، ويكون تواً قد مات قبل لحظات؟

إنك لا تنكر من أمر هذا الميت شيئاً، جسمه طري، وكل شيء فيه كامل تام، ماذا يقول الناس؟

كلمة واحدة باردة: فلان مات! ما معنى مات؟ خرجت روحه.

لكن ما حقيقة هذا المعنى؟ إنه ألغي من الوجود كله، لم يعد له حركة ولا أثر، ولا فكر ولا كلام ولا عمل، وكذلك الإنسان في حقيقة أمره بلا إيمان لا قيمة له.. لا وجود له.. لا قيمة لعمله.. لا أثر لقوله، هو تماماً كجسد بلا روح، ولو أننا رأينا يوماً مريضاً قد أنهكه المرض وأعياه حتى اصفر لونه، وخارت قواه، وغارت عيناه، وأصبح الناس ينتظرون موته بين لحظة وأخرى، ثم أراد الله عز وجل له أن يحيا وأن يبقى، فإذا بهذه القوى الخائرة تعود مرة أخرى فينشط، وإذا بتلك الصفرة التي كانت من أثر المرض تعود قوة وحيوية، إذا بالناس يقولون: سبحان الله! سبحان المحيي! لأنه قد بلغ مبلغاً كأنه قد مات! ثم بعد ذلك قد عادت إليه الحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52].

الإيمان هو النور الذي يضيء طريق الحياة

فإذا جاء الروح في الجسد، وتحرك الجسد ومضى لينطلق في هذه الحياة، فأي شيء يحتاج إليه؟ إنه يحتاج إلى النور؛ لأن هذه الحركة قد تكون وبالاً عليه.. قد تجره إلى أن يمشي في الظلمات، فإذا به يقع في الهاوية إثر الهاوية، وإذا بالحفرة تسلمه إلى أختها، وإذا به كحال الإنسان الذي يمشي في ظلام دامس، يمشي فيخبط في رأسه مرة .. يمشي فينقلب من أثر قدمه مرة .. يمشي فإذا به يصاب هنا ويصاب هناك، ولا يصل إلى غايته، ولا يصل إلى مبتغاه، ولا يمكن أن يحقق هدفاً، ولا أن يجني ثمرة، وكذلك الإنسان بلا إيمان يفقد النور الذي يسير به في هذه الحياة.

والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثلة كثيرة بشأن الإيمان وتمثيله بالنور الذي هو أهم شيء للإنسان في سيره في هذه الحياة، فحقيقة الإيمان إذاً: هي الروح المغيرة المحركة، وهو النور الذي يبصر به الإنسان حقائق الدنيا.. حقائق الآخرة.. حقائق الناس.. حقائق الأفكار.. حقائق الأحوال.. حقائق الأعمال.. نور يهدي به الله سبحانه وتعالى من يشاء من عباده.

الإيمان تغيير جذري يتناول جميع جوانب الإنسان

قضية الإيمان -أيها الإخوة الأحبة- قضية تغيير جذري شامل، وبناء متكامل، ومعنى ذلك أن الإيمان يتناول كل شيء في حياتك، يتناول خاطرة عقلك، ولفظة لسانك، وعمل جوارحك، وآمالك وطموحاتك، وأهدافك وغاياتك، كل شيء ينبغي أن يكون منضبطاً بهذا الإيمان، حتى خفقة القلب والمحبة والميل يجب أن تكون مضبوطة بالإيمان بالله عز وجل؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).

ولا شك أن من الجرح في الإيمان: أن تحب أعداء الله، وأن تبغض أولياء الله عز وجل، الإيمان ينبغي أن يكون مستولياً على كل شيء، فالكلمة إن نطقت فبمقتضى الإيمان، والعمل إن عمل فعلى منهج الإيمان، والأمل إن وجد فإنه أمل منبثق من حقيقة الإيمان، والغاية إن سعى إليها فإنما هي غاية من غايات الإيمان، وهذا كله معناه أن تتغير الحياة كلها في صغير الأمور وكبيرها، وفي سائر الأحوال والأعصار، لتتغير تغيراً جذرياً شاملاً وفق حقيقة الإيمان، ووفق حقيقة لا إله إلا الله.

ولقد أدرك الكفار هذه الحقيقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العرب والعجم)، فما كان أسهل أن يقولوها! لكنهم كانوا يدركون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بها معنىً عظيماً يكون فيه الحكم لله سبحانه وتعالى، والعلاقة مبنية على مقتضى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والمحبة والبغض مرتبطة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن تغير الحياة كلها وفق هذا المعنى العظيم وهذه الحقيقة الشمولية الكبيرة التي لا تحدها حدود، وهي حقيقة الكون كله، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الآخرة.

ولذلك فالإيمان تغيير جذري يتناول ميل النفس، ومشاعر القلب، وخواطر العقل، وكلمات اللسان، وعمل الجوارح، ويتناول كل شيء، ويكون مع الإنسان كالدم الذي يجري في عروقه، وكالنفس الذي يتردد في صدره، وأسألكم: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن النفس؟

الجواب: لا؛ لأنه إن منع عنه النفس انقطعت عنه الحياة، والأمر كذلك بالنسبة للإيمان، فإن رفعت عنه حقيقة الإيمان .. أو لم تتغلغل حقيقة الإيمان؛ فكأنه قد قطعت عنه أسباب الحياة، وأصبح ميتاً وإن كان يدب بين الأحياء.

وأمثل أيضاً بهذا المثل في صورة أخرى: لو أن إنساناً جاء ليكتم نفسك، هل تبتسم في وجهه؟! وإذا صبرت على ذلك وقتاً من الزمن ثم بدأت تختنق ماذا تصنع؟

إنك تستنفر كل قواك وإن كان هذا الذي يكتم أنفاسك قوياً أو جباراً أو تخشاه، لكن المسألة هنا مسألة موت أو حياة، فيدك ستنطلق، ورجلك ستتحرك، وبدنك سيتغير كله؛ لأنك تدافع عن حياتك ووجودك كله.

فكذلك ينبغي إن حوربت في إيمانك، أو شككت في إيمانك، أو جاء من يمنعك من إيمانك ومقتضيات إيمانك؛ فإن الأمر كأنما يريد أن يسلبك حياتك، وأن يقتل فيك وجودك وحيويتك، فكما لا تستطيع أن تملك صبراً على ذلك الذي يكتم نفسك، فينبغي ألا تملك صبراً على كل ما يخالف مقتضى حقيقة إيمانك.

ونبدأ بأمر الفهم وهو المقدم في هذا المقام، ونتساءل سؤالاً بدهياً ربما يتبادر إلى أذهان كثير منا أنه من الوضوح بمكان، بحيث لا يسأل عن مثله، ولكن ما سأذكره من خلال الآيات القرآنية يجعل لهذا السؤال بعداً أعظم وأوسع مما قد يخطر ببال بعضنا: ما هو الإيمان؟

هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟

إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟

لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان.

ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وفي سورة التوبة: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟

والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك.

ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين.. فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة.

وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا.. حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله.

إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى.

وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.

إذاً: فالإيمان ليس قولاً، وليس عملاً، وليس معرفة، فأي شيء هو هذا الإيمان؟ قد نقول: إنه جماع هذه كلها، ولكني أريد أن أعمق هذا المعنى تعميقاً يجعل له حقيقته الواجب معرفتها.

وأضرب لذلك مثلاً بعيداً، ثم آتي بمثل آخر أقرب حتى ندرك أن قضية الإيمان وأن مفهومه أعمق وأوسع وأكثر شمولاً مما قد نتصوره في بعض الأحيان:

لو أن إنساناً جاء إلى أرض صحراوية جرداء لا شجر فيها ولا ماء، وليس فيها من معالم الحياة شيء يذكر، ثم غاب عنها فترة من الزمن وجاء إليها فإذا هي جنان خضراء، وأشجار وثمار، وظلال وارفة، وأزهار زاهية، وثمار يانعة، فإنه لا شك سيعجب عجباً شديداً، بل قد يحكم أو يجزم أو يتصور أن هذه الأرض ليست هي التي رآها من قبل، بل هي أرض جديدة مختلفة، وسيكون عنده يقين جازم أنه قد حصلت أمور أوجبت مثل هذا التغيير، وهذه الأمور بالنسبة له في مثل هذا المثل أمور مادية محسوسة، لابد أن يكون قد جاء إلى هذه الأرض أقوام فحرسوها وزرعوها وحفروها وأخرجوا منها الماء، وفعلوا بها وفعلوا .. واجتهدوا فيها وجدوا حتى حصل مثل هذا الأمر.

ونحن حينئذٍ كأننا نمثل بين شيئين مختلفين، كأننا نذكر صورة من صور الموت والجفاف والجفاء، وصورة أخرى من صور الحياة والحيوية والرواء، وبينهما بعد شاسع وفرق كبير، حتى كأن الأمر لا يرتبط أوله بآخره، أو لا ترتبط هذه بتلك.

وأنتقل إلى المثل الحسي الواقعي بعد هذا المثل التجريبي النظري:

جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجزيرة وقد كانت صحراء جرداء من المبادئ، وكان فيها الكفر ضارباً أطنابه، والظلام مرخياً أستاره، والناس يتخبطون في الجهل والعمى، ويتخبطون في أنواع من الشرك والكفر، وبينهم شحناء وبغضاء، وبينهم حروب مشتعلة وعداوات وحزازات، وعندهم تفاهات في الأفكار.

ثم هؤلاء الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا فيهم تغيراً كاملاً شاملاً مستوعباً، فإذا أهل الظلمات هم أهل النور والضياء، وإذا الفرق المتناحرة أمة واحدة، وإذا أصحاب الأفكار التافهة هم أصحاب الغايات العظيمة، وإذا بأولئك القوم الذين كان فيهم كثير وكثير من أوصاف الرذيلة قد صاروا معلمي البشرية وقادتها في المبادئ والأخلاق والفضائل والأفكار والأعمال.

فكأن المثل ينطبق مرة أخرى! كأن هؤلاء ليسوا هم الذين كانوا من قبل! ليس هؤلاء القوم هم الذين رأيناهم في تلك الحالة! وسنبحث حينئذ كما بحث صاحبنا في المثل الأول عن السبب.

وينطلق كثير من الناس إلى نظرات مادية فيقول: لعل هؤلاء القوم تغيرت أحوالهم الاقتصادية فأصبح عندهم ارتفاع في مستوى المعيشة، وبالتالي تغيرت أنماط حياتهم أو سلوكياتهم أو طريقة كلامهم ومعاملاتهم ونحو ذلك، وقائل قد يقول: لعله قد تغيرت أنماط من حياتهم الاجتماعية بأن وفد إليهم أقوام آخرون، أو بأن سافروا واغتربوا ورحلوا إلى بلاد أخرى ونحو ذلك.

وإذا جئنا إلى هذه الحقيقة التي ضربنا بها المثل في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً هي كما هي ما تغير اقتصادها، ولا أمور حياتها الاجتماعية، هي كما هي في رحلة شتائها وصيفها.. في كبريائها وغطرستها.. في أحرارها وساداتها وفي عبيدها .. وهي كما هي في شرب خمرها .. وفي لهوها وعبثها .. ما تغير فيها شيء في أحوالها المادية.

فما الذي إذاً غير هؤلاء الناس؟ ما الذي غير العقول؟ ما الذي غير النفوس؟ ما الذي غير الكلمات؟ ما الذي غير الأعمال؟ ما الذي صاغ الأفكار؟ ما الذي غير كل هذا التغيير الجذري الشامل وبنى هذا البناء العظيم المتكامل؟

سنجيب بكلمة باردة ربما لا ندرك شأوها وعظمتها، سنقول: إنه الإيمان .. إنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .. ولكنا نريد أن نعمق ذلك من خلال الآيات القرآنية أيضاً، فقد وصف الله جل وعلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الرسالة التي جاء بها، وما حقيقتها، وما الذي جاءت به إلى البشرية: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2905 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2726 استماع
فاطمة الزهراء 2693 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2625 استماع
المرأة والدعوة [1] 2537 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2532 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2523 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2483 استماع
خطبة عيد الفطر 2462 استماع
التوبة آثار وآفاق 2447 استماع