لا تجعلوا بيوتكم مقابر


الحلقة مفرغة

من الأحكام المتعلقة بالميت الصلاة عليه، ولها كيفية جاءت في السنة النبوية، وهي تشتمل على الفاتحة والصلاة الإبراهيمية والدعاء للميت بما ورد في السنة، وبعد الصلاة عليه يشيع ويحمل إلى المقبرة لدفنه، ولتشييع الجنازة فضل وأجر عظيم، وهناك أمور مكروهة لا يجوز فعلها عند التشييع؛ لعدم ورودها في السنة المطهرة، ثم بعد ذلك يتم دفن الميت على الصفة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الإخوة على دعوتهم وعلى حسن ظنهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال في هذا الشهر الكريم المبارك الذي تصرمت أيامه وانقضت لياليه، وها نحن قدمنا في هذه الليلة وقد مضى شطر هذا الشهر، فنحن في الليلة الخامسة عشرة منه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.

(لا تجعلوا بيوتكم مقابر) هو عنوان حديثنا لهذه الليلة.

الله سبحانه وتعالى خص هذه الأمة بخصائص، وفضّلها على سائر الأمم بفضائل، وتحدث صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الفضائل والخصائص، منها أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما امرئ من أمتي أدركته الصلاة فليصل) وذلك أن الأمم السابقة كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم وصلواتهم، أي: أماكن عبادتهم، أما هذه الأمة فالأرض لها مسجد وطهور، فهم يصلون أينما أدركتهم الصلاة.

هذا فيما يتعلق بالصلاة المكتوبة، أما سائر الصلوات فلها شأن آخر، لا شك أن هذه البيوت فيها النور والبركة، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].

فهذه البيوت أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وتطهيرها، وأثنى على أولئك الذين يعمرون هذه المساجد ويذكرون الله عز وجل فيها، وأخبر سبحانه وتعالى أن هذه المساجد إنما يعمرها أهل الطاعة: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] ثم قال بعد ذلك إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [التوبة:18] إلى آخر الآيات.

لا شك في فضل هذه المساجد وأنها بيوت الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكما ورد في الحديث المتواتر: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة) وأن المرء إذا غدا إلى المسجد أو راح أُعد له نزل في الجنة كلما غدا أو راح، وأنه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج المرء من بيته فإن الله يتبشبش له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم).

كل هذه الفضائل مرتبة على عمارة هذه المساجد لذكر الله وعبادته وطاعته سبحانه وتعالى، لكن هذا قد يصرف المسلم عن إحياء بيته ومنزله بالعبادة والذكر لله سبحانه وتعالى، قد يصرفه عن ذلك ويشغله، ولهذا يأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون لبيت الإنسان نصيب من عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، وألا يقفز بيته من توجهه لله سبحانه وتعالى، وتضرعه له وعبادته له عز وجل، ويظهر ذلك في أمور عدة:

صلاة النافلة في البيت

منها الصلاة، وهي أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذي سأل مرافقته في الجنة أن يعينه بكثرة السجود؟ أوليست الصلاة هي أول ركن عملي يجب على الإنسان، وهي ثاني أركان الإسلام، وهي العمل الذي يكفر تاركه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فلعلو الصلاة وعظم شأنها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى صارت أول الأركان العملية وثاني أركان الإسلام، وصارت حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر والشرك، وصارت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وكلما فضلت فريضته فضلت نافلته.

وإذا تأكد وجوب أمر فهذا دليل على محبة الله سبحانه وتعالى له، وعلى أنه يزيد العبد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وعلى أن هذا العمل له أعظم الأثر في إصلاح العبد، له أعظم الأثر في إصلاح قلبه وحاله مع الله سبحانه وتعالى.

ومن عظمة الصلاة وعلو منزلتها أن الله سبحانه وتعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس في السماء، وإذا عظمت فريضة الصلاة عظمت نافلتها أيضاً، وإذا كانت الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله فإنه كما في الحديث أيضاً: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، وإن نقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيُكمل بها ما انتقص من صلاته).

إذاً: فصارت نافلة هذه الصلاة وسيلة لأن يكمل بها ما نقص من فريضته، فإذا كان هذا شأن فريضة الصلاة فلا شك أن نافلة العمل قريبة من فريضته، فكلما ازدادت الفريضة فضلاً ازدادت النافلة فضلاً، ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء في بيته، يعني النافلة والراتبة، وثبت في أحاديث عدة منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لـمسلم : (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي رواية له أيضاً: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) ولـمسلم أيضاً: (إذا قضى أحدكم الصلاة فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً).

وفي قصة احتجاره صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد وصلاة الناس بصلاته، فصلوا الليلة الأولى، ثم الليلة الثانية، ثم الثالثة.. ثم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قاله لهم صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة).

وهذا نص عام يدل على أن أفضل صلاة المرء ما كان في بيته إلا الصلاة المكتوبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الرواتب في بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يصلوا الرواتب في بيوتهم مع أنه كان في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف فيه الحسنات، وتضاعف فيه الصلاة، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، ومع ذلك يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلوا في بيوتهم، وحقاً وصدقاً فإن صلاتهم في بيوتهم خير لهم من صلاتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم مع ما له من الفضل، فغيره من باب أولى، وهذا الأمر هدي راتب عند سلف الأمة، فحين نقرأ سير السلف نرى أنه قد حفظ عن الكثير منهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومن تلاهم أنهم كانوا يصلون الراتبة والنافلة في بيوتهم.

في مصنف ابن أبي شيبة أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته.

وفيه أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: لقد أدركت زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلاً واحداً يصليهما حتى يخرجوا فيصلونها في بيوتهم.

وروى أيضاً عن ميمون قال: كانوا يستحبون هاتين الركعتين بعد المغرب في البيت.

وروى عن عبد الله بن يزيد قال: (رأيت السائب بن يزيد يصلي في المسجد ثم يخرج قبل أن يصلي فيه شيئاً) يعني لا يتطوع.

وروى أيضاً عن إبراهيم قال: سئل حذيفة رضي الله عنه عن التطوع في المسجد يعني بعد الفريضة؟ قال: (إني لأكرهه).

بينما هم جميعاً في الصلاة كانوا يصلون الفريضة جماعة، ثم أصبح يصلي كل منهم التطوع لوحده، وهذه ليست دعوة منه رضي الله عنه إلى أن يصلوا التطوع والراتبة جماعة ولكنها دعوة إلى أن يصلوا في بيوتهم.

وروى عن الأعمش قال: (ما رأيت إبراهيم متطوعاً في مسجد).

وأيضاً روى عن الربيع بن خثيم أنه ما رئي متطوعاً في مسجد الحي قط، والربيع بن خثيم من التابعين وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك) كان رجلاً مشهوراً بالزهد والرقة والصلاح والتقوى، وكان من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.

وروى أيضاً مثله عن عبيدة أنه ما رئي متطوعاً في المسجد قط.

وروى عن أبي معمر قال: (إذا صليت المكتوبة فبيتك).

على كل حال ليس هذا هو موضوع الحديث أيضاً عن صلاة الراتبة في المنزل، لكنه جزء من حديثنا، وهذه بعض الآثار والنصوص وأنت حين تقلب طرفك في كتب السنة ودواوينها، أو كتب تراجم أئمة السلف رضوان الله عليهم فأنت راء من ذلك كل بعيد من أحوالهم وأقوالهم ونصوصهم والتي تدعو إلى أن يكون في بيوتهم نصيب من الصلاة الراتبة.

قراءة القرآن في البيوت

أيضاً البيت له نصيب من تلاوة القرآن لفعله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض)، وأين كان يتكئ صلى الله عليه وسلم في حجرها إن لم يكن ذلك في بيته صلى الله عليه وسلم.

ويأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن في البيت ويخبر أن ذلك مطردة للشيطان كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) والمسلم له نصيب من كتاب الله سبحانه وتعالى، وحاله مع كتاب الله عز وجل كحال سمكة ماء النهر والطائر مع الهواء، وحين يمضي عليه وقت لم يقرأ فيه شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر بضيق ووحشة في صدره وبعد عن الله سبحانه وتعالى وقسوة في قلبه، وخاصة حفاظ كتاب الله عز وجل أمثالكم بإذن الله، وأكثركم من حفاظ كتاب الله إما الآن أو مستقبلاً بإذنه سبحانه وتعالى، والمسلم أياً كان شأنه لا بد أن يكون له نصيب من تلاوة كتاب الله عز وجل، نصيب لا يخل به في أي وقت، وحافظ كتاب الله عز وجل هو أولى الناس بذلك حتى يشفع له كتاب الله عز وجل، فالقرآن حجة لك أو عليك، وهو يأتي يوم القيامة يحاج عن صاحبه ويخاصم عنه قائلاً: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فلا بد أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه.

ذكر الله تعالى في البيوت

والبيت أيضاً ينبغي أن يكون له نصيب من ذكر الله عز وجل، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت).

وفي حديث جابر في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (أغلق بابك واذكر اسم الله عز وجل فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وخمّر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله عز وجل).

فتكون حال المؤمن حال الذاكر لله عز وجل، فهو يذكر اسم الله حين يدخل بيته، وحينئذ يقول الشيطان: لا مبيت لكم، وحين يغلق بابه يذكر اسم الله عز وجل، والشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ويذكر الله حين يدخل فيسلّم على أهل بيته لأن السلام من ذكر الله عز وجل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم حين سلّم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم ثم قال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة)، فإذا دخلت فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك.

وهو يذكر الله حين يطفئ مصباحه يريد أن ينام، وحين يوكي سقاءه، ويذكر اسم الله حين يأوي إلى فراشه، وفي كل أحواله وأوقاته لا يفارقه ذكر الله سبحانه وتعالى، حينها يطرد الشيطان، وتحل البركة في هذا المنزل وهذا البيت.

والمسلم لا يفارقه ذكر الله فهو يستحضر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، وهو يتطلع إلى أن يتحقق فيه: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، ويتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله عز وجل كثيراً والذاكرات، فهو يتطلع إلى أن يبلغ منازل الذاكرين ولهذا لا يفتر لسانه من ذكر الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً، حال أولئك الذين أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] فهو يتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه حتى يستحق هذا الوسام، وحتى يستحق هذا التشريف والتكريم، أعني أن يكون ممن وصفهم الله في كتابه بأنهم من أولي الألباب، وأن يكون ممن قال فيهم عز وجل: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].

وحين يدرك المؤمن هذه المعاني العظيمة في ذكر الله عز وجل يعمر أوقاته وأحواله كلها في بيته وسوقه بذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتمجيده والثناء عليه عز وجل.

إذاً هذه نماذج، وهي دعوة إلى أن يعمر المرء بيته بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأن يكون لبيته نصيب من عبادة الله عز وجل وطاعته، وأن لا يكون كحال أولئك الذين لا يعبدون الله إلا في بيعهم وصلواتهم وكنائسهم ومعابدهم، هذه العبادة وهذه الدعوة هي في إطار التصادق الشرعي، فما شرع الله أن يكون في المسجد فهو في المسجد، وما شرع أن يكون في الثغور ففي الثغور، وما شرع أن يكون أمام الناس ومع الناس فهو مع الناس، وما شُرع في البيت فهو في البيت أولى.

منها الصلاة، وهي أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذي سأل مرافقته في الجنة أن يعينه بكثرة السجود؟ أوليست الصلاة هي أول ركن عملي يجب على الإنسان، وهي ثاني أركان الإسلام، وهي العمل الذي يكفر تاركه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فلعلو الصلاة وعظم شأنها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى صارت أول الأركان العملية وثاني أركان الإسلام، وصارت حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر والشرك، وصارت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وكلما فضلت فريضته فضلت نافلته.

وإذا تأكد وجوب أمر فهذا دليل على محبة الله سبحانه وتعالى له، وعلى أنه يزيد العبد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وعلى أن هذا العمل له أعظم الأثر في إصلاح العبد، له أعظم الأثر في إصلاح قلبه وحاله مع الله سبحانه وتعالى.

ومن عظمة الصلاة وعلو منزلتها أن الله سبحانه وتعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس في السماء، وإذا عظمت فريضة الصلاة عظمت نافلتها أيضاً، وإذا كانت الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله فإنه كما في الحديث أيضاً: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، وإن نقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيُكمل بها ما انتقص من صلاته).

إذاً: فصارت نافلة هذه الصلاة وسيلة لأن يكمل بها ما نقص من فريضته، فإذا كان هذا شأن فريضة الصلاة فلا شك أن نافلة العمل قريبة من فريضته، فكلما ازدادت الفريضة فضلاً ازدادت النافلة فضلاً، ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء في بيته، يعني النافلة والراتبة، وثبت في أحاديث عدة منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لـمسلم : (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي رواية له أيضاً: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) ولـمسلم أيضاً: (إذا قضى أحدكم الصلاة فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً).

وفي قصة احتجاره صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد وصلاة الناس بصلاته، فصلوا الليلة الأولى، ثم الليلة الثانية، ثم الثالثة.. ثم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قاله لهم صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة).

وهذا نص عام يدل على أن أفضل صلاة المرء ما كان في بيته إلا الصلاة المكتوبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الرواتب في بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يصلوا الرواتب في بيوتهم مع أنه كان في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف فيه الحسنات، وتضاعف فيه الصلاة، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، ومع ذلك يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلوا في بيوتهم، وحقاً وصدقاً فإن صلاتهم في بيوتهم خير لهم من صلاتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم مع ما له من الفضل، فغيره من باب أولى، وهذا الأمر هدي راتب عند سلف الأمة، فحين نقرأ سير السلف نرى أنه قد حفظ عن الكثير منهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومن تلاهم أنهم كانوا يصلون الراتبة والنافلة في بيوتهم.

في مصنف ابن أبي شيبة أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته.

وفيه أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: لقد أدركت زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلاً واحداً يصليهما حتى يخرجوا فيصلونها في بيوتهم.

وروى أيضاً عن ميمون قال: كانوا يستحبون هاتين الركعتين بعد المغرب في البيت.

وروى عن عبد الله بن يزيد قال: (رأيت السائب بن يزيد يصلي في المسجد ثم يخرج قبل أن يصلي فيه شيئاً) يعني لا يتطوع.

وروى أيضاً عن إبراهيم قال: سئل حذيفة رضي الله عنه عن التطوع في المسجد يعني بعد الفريضة؟ قال: (إني لأكرهه).

بينما هم جميعاً في الصلاة كانوا يصلون الفريضة جماعة، ثم أصبح يصلي كل منهم التطوع لوحده، وهذه ليست دعوة منه رضي الله عنه إلى أن يصلوا التطوع والراتبة جماعة ولكنها دعوة إلى أن يصلوا في بيوتهم.

وروى عن الأعمش قال: (ما رأيت إبراهيم متطوعاً في مسجد).

وأيضاً روى عن الربيع بن خثيم أنه ما رئي متطوعاً في مسجد الحي قط، والربيع بن خثيم من التابعين وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك) كان رجلاً مشهوراً بالزهد والرقة والصلاح والتقوى، وكان من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.

وروى أيضاً مثله عن عبيدة أنه ما رئي متطوعاً في المسجد قط.

وروى عن أبي معمر قال: (إذا صليت المكتوبة فبيتك).

على كل حال ليس هذا هو موضوع الحديث أيضاً عن صلاة الراتبة في المنزل، لكنه جزء من حديثنا، وهذه بعض الآثار والنصوص وأنت حين تقلب طرفك في كتب السنة ودواوينها، أو كتب تراجم أئمة السلف رضوان الله عليهم فأنت راء من ذلك كل بعيد من أحوالهم وأقوالهم ونصوصهم والتي تدعو إلى أن يكون في بيوتهم نصيب من الصلاة الراتبة.

أيضاً البيت له نصيب من تلاوة القرآن لفعله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض)، وأين كان يتكئ صلى الله عليه وسلم في حجرها إن لم يكن ذلك في بيته صلى الله عليه وسلم.

ويأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن في البيت ويخبر أن ذلك مطردة للشيطان كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) والمسلم له نصيب من كتاب الله سبحانه وتعالى، وحاله مع كتاب الله عز وجل كحال سمكة ماء النهر والطائر مع الهواء، وحين يمضي عليه وقت لم يقرأ فيه شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر بضيق ووحشة في صدره وبعد عن الله سبحانه وتعالى وقسوة في قلبه، وخاصة حفاظ كتاب الله عز وجل أمثالكم بإذن الله، وأكثركم من حفاظ كتاب الله إما الآن أو مستقبلاً بإذنه سبحانه وتعالى، والمسلم أياً كان شأنه لا بد أن يكون له نصيب من تلاوة كتاب الله عز وجل، نصيب لا يخل به في أي وقت، وحافظ كتاب الله عز وجل هو أولى الناس بذلك حتى يشفع له كتاب الله عز وجل، فالقرآن حجة لك أو عليك، وهو يأتي يوم القيامة يحاج عن صاحبه ويخاصم عنه قائلاً: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فلا بد أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2321 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2116 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع