وإنك لعلى خلق عظيم


الحلقة مفرغة

تجب الزكاة في الذهب والفضة والأنعام والثمار والحبوب، بشرط بلوغ النصاب وحولان الحول، وكون الثمار والحبوب مما يقتات ويدخر، ولا تجب الزكاة فيما سوى ذلك، كالعبيد والخيل والحمير، والفواكه والخضروات، والحلي المعد للزينة، والجواهر الأخرى، وعروض القنية التي ليست للتجارة، والمال الذي لم يبلغ نصاباً، كما تجب الزكاة في عروض التجارة، والدين، والركاز، والمعادن، بشرط الحول والنصاب في جميع ذلك.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اصطفاه تبارك وتعالى ليحمل الرسالة للناس إلى قيام الساعة، وليكون صلى الله عليه وسلم هو داعي التوحيد وداعي الله عز وجل، فمن لم يجبه وقد سمع به من هذه الأمة لم يدخل الجنة، فصلى الله عليه وعلى آله وإخوانه إلى يوم الدين، وحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.

أيها الإخوة يشعر المتحدث حين يريد الحديث عن سيرة هذا النبي العظيم، وعن خلقه وعن شمائله صلى الله عليه وسلم، يشعر بالرهبة، ويشعر أنه مهما تحدث فلن يوفي الحديث حقه، وأنى لبشر مقصر أن يوفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله عز وجل وهو تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار.

نشعر اليوم أيها الإخوة أن الأمة وأن العالم أجمع بحاجة إلى أن يُبرز أمامه هذا النموذج، وأن تُفتح له هذه الصفحات من سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، ونحن نعيش في وسط تسيطر فيه الأنانية والفردية، في وسط تتشعب فيه الأهواء بالناس، وحتى الصالحون يصيبهم ما يصيبهم من حظوظ النفس، ومن الأهواء، ويسيء المرء الخُلق وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وما أعظم المقولة التي قالها صلى الله عليه وسلم حين استأذنه رجل فقال صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه) عافانا الله وإياكم.

إنها صورة ونموذج قد يتمدّح به البعض وأنه يستطيع بلسانه أن يُخرس الناس، يستطيع أن يسفههم، يستطيع أن لا يدع أحداً يفوه بكلمة بعد ذلك، وحينئذ يخاف الناس فُحشه في مقالته وفي كتابته وفي حديثه، هؤلاء عافانا الله وإياكم هم من شر الناس، وأبعد الناس عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم.

أيها الإخوة.. أشعر ونشعر جميعاً أننا بحاجة إلى الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما أردت الحديث عن هذا الموضوع، لكني أشعر أني أُقدِّم رجلاً وأؤخر أُخرى؛ لأني أشعر أنني حين أتحدث عن أي جانب من جوانب خلق النبي صلى الله عليه وسلم فإني أنادي على نفسي بفقدان هذا الخلق وهذا النموذج، إن الناس يرون منا خلقاً ويرون منا سلوكاً، وحين نحدثهم عن هذه الأخلاق يرون صورة أخرى غير تلك التي يرونها عنا، لهذا كنت أرى وأعتقد أن حديثي عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلق الحسن إنما هو شهادة إدانة، فكنت أُحجم عن الحديث في هذا الموضوع، مع أن الحديث عن هذا الموضوع وهذا الجانب لا يعوز طالب علم مهما كان ومهما قل شأنه ومهما قل اطّلاعه.

إنك حين تقرأ في كتاب من كتب السنة، أو كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب الشمائل فستجدها مليئة بالشواهد الناطقة على خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تحتاج أن تتصفح أبواب الآداب والأخلاق والشمائل، بل وأنت حين تقرأ في أبواب الأحكام، حين تقرأ في أبواب العبادات، حين تقرأ في أي باب من الأبواب ما روي عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك سترى هذه المرويات كلها تنطق بخلقه صلى الله عليه وسلم، كلها تشهد لهذا المعنى العظيم الذي وصفه به ربه تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وما وصفته به عائشة رضي الله عنها بقولها: (كان خلقه القرآن).

ولكن الإخوة اختاروا هذا الموضوع فرأيت أن أتحدث عنه، ولو لم يختاروه ويلزموني به لما كنت أتحدث عنه، لا لأني أرى أنه ليس ذا بال وأهمية، بل لأني أشعر أننا نعاني كثيراً من التقصير في أخلاقنا، من التقصير في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وسلوكه، وأننا حين نتحدث عن هذه الجوانب فإننا ندين أنفسنا، ويرى الناس واقعاً غير ذاك الذي نقول لهم، فنسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون.

لكن عزاءنا أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اختاره الله عز وجل من بين الناس، واصطفاه تبارك وتعالى، حتى إن الجيل الأول والرعيل الأول ما كان يمكن أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم في الخُلق والقدوة، كيف لا وهو القدوة للبشرية جمعاء!

حين نتحدث عن هذا الموضوع فإننا لن نستطيع أن نوفيه حقه، بل ولن نستطيع أن نأتي بجميع جوانبه، ويشعر المتحدث بالحيرة حين يريد الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، عن ماذا يتحدث؟ إنك لو أخذت جانباً من الجوانب، مثل جانب الرحمة، أو جانب الحياء، أو التواضع، أو الكرم والجود والسخاء، أو الصبر أو كظم الغيظ، لو أخذت جانباً من جوانب الخلق وتصفحت كتب السنة، لوجدت أن المقام يضيق عن أن تتحدث عن هذا الجانب وحده، أو أردت أن تدون شيئاً من ذلك لوجدت أن المقام يضيق، ولهذا فإن الذين ألفوا في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يكتفي في الباب الواحد ببضعة أحاديث، وإلا لو أراد أن يستقصي لضاق عليه المقام، وذلك أن الشواهد لخُلقه صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على ما يروى في أبواب الأخلاق والآداب كما قلنا قبل قليل، بل هي في كل باب من أبواب السنة، في كل ما دوّن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على خُلقه صلى الله عليه وسلم.

وهاهو صاحبه حسان رضي الله عنه، والذي شهد له صلى الله عليه وسلم أن روح القدس يؤيده، ها هو ينطق بحسن خُلقه صلى الله عليه وسلم، وينعى على ذاك الذي بكى أقواماً قد مضوا في جاهليتهم فيرى أن أحق الناس بأن يُبكى عليه هو صاحب الخُلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم:

ماذا بكيت على الذين تتابعوا هلا ذكرت مكارم الأقوام

وذكرت منا ماجداً ذا همة سمح الخلائق ماجد الإقدام

أعني النبي أخا التكرم والندى وأبر من يولي على الإقسام

فلمثله ولمثل ما يدعو له كان الممدح ثم غير كهام

اختيار الله تبارك وتعالى له

إننا حين نتحدث عن سمو خلقه صلى الله عليه وسلم، فستطول معنا الشواهد، لكننا هنا نوجز شواهد مهمة على كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الشواهد وأتمها هو اختيار الله تبارك وتعالى له.

إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار تبارك وتعالى، وهو الذي خلق البشر تبارك وتعالى وهو أعلم بهم، فاختاره تبارك وتعالى ليحمل الرسالة، واختاره ليكون قدوة وأسوة حسنة، ولهذا فإن هذا الاختيار يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إن هذا الاختيار يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا كالرجال، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسائر الناس.

نعم، إنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلهم ينسى كما ينسى الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم شأنه شأن سائر الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم في القمة في كل صفة كمال يمكن أن توجد في بشر، كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى.

وها هو عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويشير إلى هذا المعنى فيقول: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ).

ثناء الله عليه في القرآن بحسن الخلق

الشاهد الآخر: ثناء الله تبارك وتعالى عليه في كتابه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن من الله حديثاً، فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ [القلم:4].

إنها شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ممن خلقه تبارك وتعالى وممن خلق الناس، وممن يعلم تبارك وتعالى ما تكنه الصدور والضمائر، شهادة من الله تبارك وتعالى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أنه على خلق، وليس على خلق فحسب، بل على خلق عظيم، ويخبر الله تبارك وتعالى أن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق، فقال تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

ويمتن تبارك وتعالى على المؤمنين أن بعث إليهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وماذا نريد أيها الإخوة بعد أن عدّله ربه تبارك وتعالى، وبعد أن أثنى عليه الله عز وجل، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن منه حديثاً تبارك وتعالى.

شهادة الصحابة له بحسن الخلق

وهاهم أصحابه رضوان الله عليهم الذين صحبوه في السراء والضراء، وعاشوا معه أحواله، في المنشط والمكره، هاهم يشهدون له رضوان الله عليهم بأنه أحسن الناس خلقاً..

يقول البراء رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير).

ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم .

ويروي مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لمن سألها: (ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن).

وهاهو حسان رضي الله عنه يقول:

وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء

ويقول حين دفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد غيّبوا علماً وحلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

ولسنا بحاجة أيها الإخوة إلى أن نستطرد في إيراد الشواهد من مقولات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليه بحسن الخلق.

إخباره عن نفسه أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق

الشاهد الرابع: إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، ففي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله، إن الخلق والسلوك قد يأتي أحياناً لدى الكثير من المسلمين، بل لدى بعض طلبة العلم في مرتبة متأخرة، ويشعر بعض هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاج إليه طالب العلم! وحين يأتي الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعّاظ، وأن هذا حديث ينبغي أن يوجه لعامة الناس، وأما طلبة العلم فينبغي ألا يحدثوا إلا بقال فلان ورأى فلان، وفي المسألة وجهان، أو ثلاثة أقوال..، وهكذا.

قد يتصور البعض من طلبة العلم أيها الإخوة أن الحديث في مثل هذه المسائل هو وحده الحديث الذي يعنيه، وهو الحديث الذي يهمهم، وهو مجال لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه أو يغض منه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والأدب والسلوك ليس من شأننا أو أنه قضية ثانوية، أو أنه قضية يزج بها الحديث فإن هذا خلاف المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، وقد كان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، وكان أحدهم يقول: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودلّه، ويقول ابن وهب رحمه الله: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يأتون طالب العلم بوصية مشهورة يقولون فيها:

أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

بل إن في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على عظم هذه القضية، أليسوا قد صنفوا في أدب العالم والمتعلم وأدب طالب العلم وما ينبغي له كتباً مستقلة، وأدرجوا ذلك ضمن كتب الحديث وكتب الآداب، وهي كثيرة تلك الكتب التي صنفها أولئك المتقدمون من سلف الأمة، وما كان أولئك يعانون من أوقات لا يدرون بم يشغلونها، ولا يعانون من الإسهال الفكري فيريدون أن يكتبوا ما عنّ لهم، إنما كانت عنايتهم بذلك دليلاً على أهمية هذا الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل، كيف ولا وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، فما دام صلى الله عليه وسلم قد بُعث ليتمم صالح الأخلاق فلا بد أن تكون سيرته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك، وهاهي سيرته وسنته تشهد بذلك لكل من قرأها وتصفحها.

دعاؤه ربه أن يرزقه حسن الخلق

وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعو ربه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه، يروي الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلقي).

وأيضاً: يروي الإمام أحمد هذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خلْقي فأحسن خُلقي).

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في دعائه المشهور في قيام الليل: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت) ورسول الله صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فقد دعا ربه تبارك وتعالى هذا الدعاء فسيجيب الله عز وجل دعاءه، ولا عجب فقد كان صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الخلق، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه تبارك وتعالى ويستعين به على أن يرزقه حسن الخلق، وعلى أن يحسّن خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذه المنزلة، فقد جُبل صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق وقد زكّاه ربه تبارك وتعالى وعلّمه الكتاب والحكمة، فعلّمه تبارك وتعالى حسن الخلق، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يستعين بربه ويسأله أن يرزقه حسن الخلق، وأن يهديه لأحسن الأخلاق، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء، ويسأل ربه تبارك وتعالى هذا السؤال فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن نرى حين نتأمل في واقعنا صباح مساء تلك الأخطاء التي نقع فيها، ونرى ذلك التقصير، ونرى إخلالنا بهذا الجانب، ونرى أن الكثير من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى أن نترقى في مكارم الأخلاق، وأن نتعلم الكثير الكثير من حسن الخلق.

أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق

أيضاً: كان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أول من يمتثل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم قد حذّرنا وحذّر أمته من أن يقول أحدهم ما لا يفعل، وأخبر أن الرجل يُلقي في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا وتنهانا؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه، عافانا الله وإياكم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الله له كمال الامتثال والتأسي فلا شك أن كل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم ويدعو به أمته؛ لا شك أن ذلك سيكون متمثلاً في حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته.

ها هو أبو ذر رضي الله عنه يحكي في قصته التي يرويها الإمام مسلم عن ابن عباس يقول: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فأعلمني علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر).

ونقف أيها الإخوة عند هذا المعنى ونتأمل، متى قدم أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مكة، ولما ينزل بعد الكثير من آيات القرآن، ولما تنزل الشرائع والأحكام، وأصبح هذا المعنى معلماً بارزاً في دعوته، فحين أراد صاحب أبي ذر رضي الله عنه أن يلخّص له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ من أن يصفها بهذه الكلمة: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر) إنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمكارم الأخلاق في مكة ودعا إليها لما كان ذلك كافياً، أما أن تكون مكارم الأخلاق هي العنوان لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القضية التي يشعر هذا الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفحّص حاله؛ فهذا يعني أنه معلم بارز واضح يدركه كل من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ولو كان في تلك المرحلة التي كان صلى الله عليه وسلم لا يزال فيها في أول رسالته وأول دعوته، ولما تنزل الكثير من الأحكام والشرائع بعد.

وفي الصحيح عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض التي في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويرحم، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).

إننا حين نتحدث عن سمو خلقه صلى الله عليه وسلم، فستطول معنا الشواهد، لكننا هنا نوجز شواهد مهمة على كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الشواهد وأتمها هو اختيار الله تبارك وتعالى له.

إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار تبارك وتعالى، وهو الذي خلق البشر تبارك وتعالى وهو أعلم بهم، فاختاره تبارك وتعالى ليحمل الرسالة، واختاره ليكون قدوة وأسوة حسنة، ولهذا فإن هذا الاختيار يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إن هذا الاختيار يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا كالرجال، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسائر الناس.

نعم، إنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلهم ينسى كما ينسى الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم شأنه شأن سائر الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم في القمة في كل صفة كمال يمكن أن توجد في بشر، كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى.

وها هو عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويشير إلى هذا المعنى فيقول: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ).

الشاهد الآخر: ثناء الله تبارك وتعالى عليه في كتابه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن من الله حديثاً، فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ [القلم:4].

إنها شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ممن خلقه تبارك وتعالى وممن خلق الناس، وممن يعلم تبارك وتعالى ما تكنه الصدور والضمائر، شهادة من الله تبارك وتعالى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أنه على خلق، وليس على خلق فحسب، بل على خلق عظيم، ويخبر الله تبارك وتعالى أن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق، فقال تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

ويمتن تبارك وتعالى على المؤمنين أن بعث إليهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وماذا نريد أيها الإخوة بعد أن عدّله ربه تبارك وتعالى، وبعد أن أثنى عليه الله عز وجل، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ومن أحسن منه حديثاً تبارك وتعالى.

وهاهم أصحابه رضوان الله عليهم الذين صحبوه في السراء والضراء، وعاشوا معه أحواله، في المنشط والمكره، هاهم يشهدون له رضوان الله عليهم بأنه أحسن الناس خلقاً..

يقول البراء رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير).

ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم .

ويروي مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لمن سألها: (ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن).

وهاهو حسان رضي الله عنه يقول:

وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء

ويقول حين دفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد غيّبوا علماً وحلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

ولسنا بحاجة أيها الإخوة إلى أن نستطرد في إيراد الشواهد من مقولات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليه بحسن الخلق.