أخطاء في المناهج


الحلقة مفرغة

للصوم أركان وسنن، فمن الأركان النية، فلا صوم يقبل إلا بنية تسبقه، ومنها الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويستحب للصائم أن يعجل الفطر ويكون إفطاره على تمرات، كما يستحب له السحور والدعاء عند الإفطار، أما مكروهات الصوم فمنها: الحجامة، والفصد، واستعمال الكحل وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المعهد -ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله معقل علم وخير وبركة- على تنظيم مثل هذا اللقاء، ونحن في الواقع نحتاج إلى أن تكون مؤسساتنا التربوية بأسرها تؤدي مثل هذه الأدوار للمجتمع، وألا يكون الدور فيها قاصراً على ما يتلقاه التلاميذ على مقاعد الدراسة، وليس هذا بغريب عن مثل هذه المعاهد، فهي معاقل علم وخير وبركة، أسأل الله أن يبارك جهود الإخوة القائمين عليها.

في المعهد العلمي في مكة في هذه الليلة ليلة الخميس الثاني من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، نلتقي لنتحدث عن أخطاء في المنهج.

وبادئ ذي بدء أعتذر لكم؛ إذ أني كنت قد دونت بعض النقاط المتعلقة بهذا الموضوع وبعض النقول، لكن لأسباب فنية كما يقال لم أتمكن من إحضارها، ولهذا دونت بعض النقاط وأنا في الطائرة مما كنت أستذكره في هذا الموضوع، فمعذرة إن كان في الموضوع قصور أو خلل.

معشر الإخوة الكرام! الحديث عن المنهج حديث نسمعه الآن كثيراً، ولا شك أنها خطوة إيجابية، وخطوة مثمرة أن يبدأ الحديث عن المنهج، وأن يبدأ الناس يتساءلون عن المنهج، ويبحثون عن المنهج الصحيح، وهي خطوة بإذن الله لأن تترسم معالم هذا المنهج واضحة جلية للناس، وقبل أن نتحدث عن هذه القضية وهذه الأخطاء نشير إشارة سريعة إلى المقصود بالمنهج.

المنهج عرفته كتب اللغة بمعان عدة: منها الوضوح، والمنهج: هو الطريق الواضح المستقيم.

وأيضاً يقال: نهج فلان كذا إذا سلك هذا الطريق، وله معان أخرى لا تدخل ضمن هذا الاستخدام، وهو مصطلح جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول تبارك وتعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون)، ثم قال في آخره صلى الله عليه وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، إذاً فهي ليست كلمة مبتدعة محدثة، وإنما هي كلمة عرفها العرب وتحدثوا عنها في أشعارهم وفيما يروى عنهم، وهي كلمة جاء بها القرآن وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وحين نتحدث عن المنهج فإننا نعني: المعالم العامة الواضحة لطريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والعبودية له عز وجل، والمنهج يطلق على الطريق الذي يسلكه المسلمون أجمعون، لكنه الآن في عرف الكثيرين ممن يتحدثون عن المنهج صار يطلق على مناهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وعلى الجهود التي تبذل في سبيل إحياء مجد الأمة وإزالة هذه الغربة عن الأمة.

إذاً: فالمنهج يعني: معالم واضحة، فهي معالم رئيسة وواضحة وليست قضايا جزئية، وليست مسائل فرعية، ولا من أبواب الاجتهاد، إنما هي معالم ظاهرة واضحة، وهذا يعني: أن من خالف فيها فعنده نوع من الانحراف والخلل في المنهج.

والأصل في المنهج المحجة التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، لكن في هذا العصر وقد استجدت مستجدات وحصل للناس من اللبس والخلط ما لا قبل لهم به، صاروا بحاجة إلى حديث جديد تنزل فيه هذه القضايا على هذا العصر الذي يعيشونه.

قبل أن نتحدث عن الأخطاء في المنهج، نطرح تساؤلاً: حينما يتحدث الآن عن المنهج ويكتب عنه ويطرح في المنتديات والمناسبات، هل ما يطرح الآن هو محاولة لاستكمال معالم المنهج وإيضاحها وبيانها للناس؟ وهل هي محاولة للوصول إلى معالم واضحة وإلى أسس لا يعذر أحد بمخالفتها، ويعتبر من تجاوزها وتعداها قد انحرف وتجاوز المنهج، أم أن ما يعرض لا يعدو أن يكون صراعاً وعراكاً داخل دائرة أهل المنهج الصحيح، وداخل دائرة المنتمين إلى أهل السنة والجماعة؟

وإنه لمما يأسى له قلب المسلم ويتفطر أن يعود الصراع إلى الداخل، وأن يعيش جيل الصحوة حلقة مفرغة من الجدل والنقاش حول قضية المنهج، مع أنهم يسيرون في الأصل على أسس واحدة، وعلى أصول متفقة، وإن حصل ما حصل من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف؛ فإن هذا لا ينبغي أن يحول إلى اختلاف في المنهج.

إننا نتساءل ونحن الآن نسمع الحديث كثيراً حول المنهج، وحول الحكم بأن هذا هو المنهج الصحيح، وبأن هذا هو منهج السلف، وبأن منهج فلان أو فلان أو الطائفة الفلانية يخالف منهج السلف، ونحن نسمع الكثير من هذا الحديث نتساءل: هل هذا الحديث وهذا الزخم من إثارة هذه القضية يتوازى ويتناسب مع الحديث عن استكمال معالم المنهج وإيضاحها للناس من خلال الدليل والبرهان والحجة البينة الظاهرة التي لا يخالفها إلا مبتدع صاحب هوى معاند؟

فأقول بادئ ذي بدء: إن قضية المنهج قضية لا يعذر أحد في الإخلال بها، وإن الاختلاف يمكن أن يكون في أي باب إلا في المنهج، وهذا يعني: أن المنهج يشمل أسساً ثابتة ومعالم ظاهرة واضحة، وهو من الأمور المسلّمة في دين الله تبارك وتعالى، وهو مما جاءت به النصوص المتضافرة من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عمل سلف الأمة، ولا يسوغ أن يحول المنهج إلى ما سوى ذلك، وداخل هذا الحديث وهذا اللغط نحن أحوج ما نكون إلى مراجعة، وأحوج ما نكون إلى دعوة إلى استكمال معالم المنهج، وإلى إيضاح الثوابت التي لا تعذر دعوة ولا يعذر داعية في أن يتجاوزها وأن يتخلى عنها، ولا يقبل الخلاف فيها، إن الجهود ينبغي أن تنصرف إلى تحرير هذه القضايا بعيداً عن الأهواء، وبعيداً عن المؤثرات، وبعيداً عن كل دافع وعن كل عامل إلا الانطلاق من منهج الطائفة المنصورة، ومن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة من القرون المفضلة.

إننا ونحن نسمع الحديث عن المنهج نرى أن هناك أخطاء كثيرة؛ أخطاء في الحديث عن المنهج، وأخطاء في تحرير معالم المنهج، ونريد أن نقف عند شيء منها، وليس حديثنا الآن حديثاً عن المنهج ومعالمه، إنما هي إشارة إلى بعض الأخطاء التي ربما تخفى، وهي منطلقات ينطلق منها البعض في تقرير المنهج أو في الحكم على أحد من الناس بأنه قد خالف المنهج، وهي منطلقات تخالف المنهج في أصله وهي منطلقات تحتاج إلى إعادة النظر فيها.

اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج

أول خطأ من هذه الأخطاء: اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج.

إن هذا الدين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والعبودية في الناس إنما هي لله تبارك وتعالى، والاتباع إنما هو لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أحد في الأمة صغر أم كبر يتوجب على الأمة كلها أن تصدر عن رأيه، وأن تدين الله باجتهاداته وآرائه، هذه قضية بدهية لا يجادل فيها مسلم، ولا يكابر فيها إلا مكابر، إن الأئمة الأعلام والرجال الكبار لهم شأنهم ولهم قيمتهم، ولهم اعتبارهم ووزنهم، ولا ينبغي أن تسفه آراؤهم ولا أن تهان منزلتهم ومكانتهم، ولا يجوز أن يدعى إلى إسقاط مثل أولئك الرموز الذين تفتقر إليهم الأمة، لكن هذا شيء وأن تحول أقوالهم إلى حجة تلزم الأمة كلها بقبولها شيء آخر.

ومن ادعى هذا الادعاء فنقول له: أعطنا نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كلاماً لإمام معتبر من أئمة أهل السنة يرى أن الأمة ملزمة برأي فلان من الناس، لا سبيل إلى ذلك، بل هذا هو عنوان الابتداع، وهذه أمارة من أمارات الإعراض عن المنهج، فمن نصب شخصاً أياً كان، فوالى على موالاته، وعادى على معاداته، وجعل كلامه برهاناً على الحق والباطل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة الأعلام، وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى كان أولئك رضوان الله عليهم يرون أن آراءهم وأن اجتهاداتهم ليست ملزمة للأمة.

فها هو ابن عباس رضي الله عنه يقول في شأن رجلين من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هما أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يوشكون أن يهلكوا؛ أقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: قال أبو بكر وعمر ، نعم إن رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل قول فرد من الناس ولو كان حتى من أولئك الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم واختارهم تبارك وتعالى ليكونوا فرط هذه الأمة وقدوة هذه الأمة، إن هذا الأمر سبب للهلاك، وسبب للانحراف؛ فالأمة لم تتعبد إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما آراء الرجال أيّاً كانوا وفي أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان فينبغي أن تعرض على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذاً فلا يسوغ بحال أن نجعل كلام فلان أو فلان من الناس مهما علا قدره وارتفع شأنه أن نجعله هو المنهج، فضلاً عن أن نتهم من خالفه في اجتهاد أو في موقف أو في رأي أنه قد خالف المنهج، وأنه قد انحرف عن المنهج وتنكب الطريق، والأمة إنما هي متعبدة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولهذا كان سلف الأمة والمصلحون يشتكون من هذا العائق الذي يطرحه الكثير من الناس في وجوههم، كما قال أحدهم:

عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك

وهكذا كان أولئك يعترضون تارة بقول أشهب ، وتارة بقول غيره، ثم يقول:

فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

فإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

نعم إن ذكرت لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن مالكاً إنما ترك هذا الحديث لأنه قد أتاه حجة وبرهان.

وإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك

فالمنطق هنا هو نفسه، والشكوى هي ذات الشكوى التي يطرحها كل مصلح في كل زمان حين يصدم بهذا الحاجز، وهو حاجز التقليد، وتعبيد الناس لآراء الرجال.

اعتبار واقع مجتمع بعينه مقياساً للمنهج

الخطأ الثاني: اعتبار واقع مجتمع من المجتمعات مقياساً للمنهج.

قد يمتاز مجتمع من المجتمعات بأنه مجتمع محافظ أو أكثر محافظة وأبعد عن الانحراف والبدعة والخلل من سائر مجتمعات المسلمين، فيصبح المجتمع الرائد في عصره وزمانه، وهذا قد يدفع البعض من الناس لأن يجعلوا واقع هذا المجتمع هو المقياس وهو المعيار لسلامة المنهج، فكل رأي طارئ أو وافد أو جديد على هذا المجتمع يعتبر انحرافاً عن المنهج، ويعتبر مما لم نسمع به، وكوننا لم نسمع به دليل على أنه منهج منحرف، ألسنا نسمع كثيراً الطعن في بعض الآراء بحجة أنها آراء وافدة، وبأنها آراء جديدة، وبأنها آراء لم نسمع بها؟

إنا نطرح السؤال نفسه مرة أخرى: هل هناك مجتمع ما تكون الأمة متعبدة بما اتفق عليه هذا المجتمع؟ إن هذا المصطلح لا يعرف عند أهل العلم إلا فيما يسمى: (عمل أهل المدينة) وهي مرحلة قد مضت، ومسألة طال فيها الجدل والخلاف بين علماء الأصول، أما غيرها من المجتمعات والأزمنة والعصور فإنه لا يوجد من ينطق باسم الإسلام، ولا من يعتبر واقعه هو الواقع الذي يمثل الإسلام، وكل ما عداه وكل ما خالفه منحرف وزائغ وضال.

نعم قد يكون مجتمع من المجتمعات أكثر انضباطاً، وقد يكون الانحراف وتكون البدعة فيه أقل من غيره، ويكون في الجملة أسلم من غيره، لكن هذا لا يعني أن يكون كل طارئ وكل جديد على هذا المجتمع مرفوضاً وانحرافاً، وأن يكون كل ما ألفه هذا المجتمع أو ذاك منهجاً صحيحاً وسليماً، إن المناط والحجة إنما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن الرأي الوافد والرأي الجديد والمنهج الذي لم يألفه المجتمع، ينبغي أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج سلف الأمة، فإن وافق فحيا هلاً وأهلاً وسهلاً به، وإن خالف فهو مرفوض لا لأنه وافد، ولا لأنه طارئ على هذا المجتمع؛ لكن لأنه قد خالف الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، فينبغي أن يكون المعيار والميزان في ذلك إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف الأمة، وإلا أصبحنا عافانا الله وإياكم من أولئك الذين يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].

خلط المصطلحات والنصوص الشرعية وتنزيلها تنزيلاً خاطئاً

الخطأ الثالث: الخلط في المصطلحات الشرعية وتنزيلها على غير مواقعها.

إننا نسمع الحديث كثيراً من خلال المصطلحات الشرعية التي جاء بها الشرع، سواء أكانت ثناءً أم كانت في مقام الذم والمنع، إننا نسمع الحديث عن الفتنة وأن الشرع قد جاء بذم الفتنة وإثارتها والدعوة إليها، وهي قضية لا يخالف فيها مخالف، ولا يجادل فيها مجادل، ونسمع الحديث عن المصلحة وأن المصلحة تقتضي كذا وكذا، وأن هذا الأمر مما دعت إليه المصلحة، وهي قضية مسلمة من أصول هذا الدين، ونسمع أيضاً عن الكثير من العبارات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم واستخدمها سلف الأمة، سواءً أكانت في مقام الثناء والمشروعية، أو كانت في مقام الذم والعيب، لكن الذي يحصل أن هذه النصوص وهذه المصطلحات تنزل أحياناً على غير مواقعها، وقد استقر في أذهان الناس أن كل ما يحقق المصلحة فهو مما دعا إليه الشرع، وأن كل ما يجلب المفسدة فهو أمر مرفوض، وينسى الناس أن يناقشوا أن هذا الأمر يحقق المصلحة، أو أن هذا الأمر ابتداع في الدين أصلاً، أو أن هذا الأمر إثارة فتنة، أو أن هذا الأمر كذا وكذا إلى آخر المصطلحات الشرعية.

ولنضرب مثالاً سريعاً على ذلك بقضية يكثر الحديث عنها الآن: وهي قضية إثارة الفتنة، وإثارة الفتنة أمر مرفوض ولا شك، ولا يمكن أن نرى مسلماً يتعبد لله عز وجل ثم يتعمد السعي إلى الفتنة والدعوة إليها، لكن ما هي الفتنة التي جاء الشرع بذمها؟ وما هي الفتنة التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليست هذه القضية بحاجة إلى أن تحرر وأن توضح ثم تنزل الأحوال عليها، فما كان فتنة فهو مرفوض، وما كان سوى ذلك فلا يمكن أن يوصف بأنه إثارة للفتنة، إن الله تبارك وتعالى يقول في شأن أولئك الذين قاتلوا في الشهر الحرام: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]، لقد قاتل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وعابهم المشركون بأنهم تجرءوا على الشهر الحرام، وتجاوزوا حرمته، فنزل القرآن يقرر خطأ هؤلاء، ويقرر أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لكن الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله أشد عند الله تبارك وتعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، ما المقصود بالفتنة هنا؟ إنها صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، إننا الآن نسمع الحديث كثيراً عن الفتنة لكن هل نسمع يوماً أن من الفتنة صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى؟ وأن من الفتنة السعي إلى إغراق الناس في الفساد والشرك والبدعة وصدهم عن سبيل الله؟ إنها فتنة وأيّ فتنة وهي أشد من القتل، يقول تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]، حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وهكذا حين نتحدث عن هذه القضية ينبغي أن نجمع النصوص الشرعية مما جاء في الكتاب والسنة وعن سلف الأمة ثم ننزل هذه القضايا على مواقعها.

وقل مثل ذلك في قضية المصلحة والحكمة، وغيرها من المصطلحات التي جاء الشرع بها، إن هذه المعاني مستقرة عند الناس ومقبولة إما إيجاباً أو رفضاً، فالحكمة أمر يسعى إليه الجميع ويقبله الجميع والمصلحة كذلك، والفتنة أمر يرفضه الجميع، والذي يحصل أننا تنزل أحياناً هذه المصطلحات الشرعية على غير مواقعها فيبادر الناس بالقبول والرفض، ويشعر الناس أنها قضية مسلمة بدهية؛ لأن الشرع جاء بتحقيق المصالح؛ ولأن الشرع جاء بدرء المفاسد؛ ولأن الشرع جاء بالحكمة، وجاء بالمنع من الفتنة، ويغيب عن الناس مراجعة تحقيق هذا الأصل، وتنزيل هذه الألقاب الشرعية على مواقعها، وعلى مظانها.

الخطأ في تحديد منهج السلف

الخطأ الرابع: الخطأ في تحديد منهج السلف.

إن منهج السلف لا يجادل أحد اليوم في أنه هو المنهج المقبول، بل هو المنهج الذي تتعبد به الأمة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تجد مسلماً داعياً إلى الله تبارك وتعالى في مشرق الأرض ومغربها أياً كان مقدار استقامته وانحرافه يرضى بأن يوصم بأنه يخالف منهج السلف، وحينما يتهم أي واحد من هؤلاء بأنه قد خالف منهج السلف فإنه يبادر إلى الدفاع عن نفسه، وإثبات أنه لا يزال على منهج السلف، وأنه لم يخالف منهج السلف، وهي قضية إيجابية ونقلة مهمة انتقلت إليها الأمة أن يتفق الجميع على منهج السلف في الجملة، لكن الذي يحصل فيه الخلل هو تقرير منهج السلف.

إننا بدأنا نسمع كثيراً عن أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا خلاف ما عليه السلف، ونتيجة لتعظيمنا لمنهج السلف وقبولنا له ورهبتنا من أن نصوم بأننا قد خالفنا منهج السلف فقد تحدث هذه القضية في أذهاننا ما تحدث، لكن القضية التي ينبغي أن تثبت أولاً هي أن هذا المنهج هو بحق منهج السلف، إن منهج السلف ليست دعوى يدعيها كل إنسان ويتاجر بها فيقول: إن هذا هو منهج السلف، أو هذا على خلاف منهج السلف، أو هذا ليس على منهج السلف، وسأشير هنا إشارة سريعة إلى بعض الأخطاء التي قد يقع فيها البعض في تقرير منهج السلف:

أولهاً: أن يجعل رأي آحاد السلف هو منهج السلف.

فقد يأتي البعض من الناس ليقرر قضية من القضايا فيورد لك قائمة النقول عن جمع من التابعين وسلف الأمة ليستنبط بعد ذلك ويخرج بنتيجة أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا هو مذهب السلف، لكنه قد يخفى عليه أن هناك طائفة من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين ساقهم هذا الرجل يخالفون في ذلك.

إذاً: ليس لنا كلما وجدنا قولاً لواحد من آحاد السلف أن نعتبره منهج السلف، وأن نعتبره المنهج الذي لا يسع الأمة أن تقول بخلافه، لا شك أن المسلم يقدر أقوال سلف الأمة، ويضعها في موضعها ويزنها بميزانها، لكن أيضاً أن تحول آراء آحاد السلف إلى منهج تتعبد الأمة به، ويوصم الناس بالانحراف لأنهم خالفوا رأي فلان أو فلان من السلف، فهي قضية بحاجة إلى أن يعاد النظر فيها، مثلاً: لو أتانا رجل وادعى أن منهج السلف هو وجوب الاستثناء في الإيمان، فإنه يستطيع أن يأتي بطائفة من أقوال السلف تنص على ذلك، ويقرر بعد ذلك أن هذا هو منهج السلف، وأن من لم يجز الاستثناء في الإيمان فقد خالف منهج السلف، لكن قد يقابله رجل آخر فيورد أيضاً قائمة أطول من تلك القائمة التي أوردها والتي ينقل فيها عن بعض السلف أنهم قالوا بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وأنا هنا مثلت بقضية واضحة ظاهرة معروف الخلاف فيها بين السلف، بغض النظر عن تحرير موطن الخلاف حول هذه القضية، لكنها قضية تؤكد لنا أنه ليس بمجرد أن يقال: قال فلان وهو من السلف أن هذا يكون هو منهج السلف، مع تأكيدنا على احترام آراء السلف وتعظيمها وتنزيلها منزلتها، لكنه لا يمكن أن تحوّل آراء فلان أو فلان إلى دين تلزم الأمة بقبوله، ويوصم من خالف هذا الاجتهاد وهذا الرأي بأنه منحرف، وإلا فبم نفسر ما ورد عن السلف من خلاف في مسائل كثيرة؟ خاصة وأن الكثير ممن يتحدث في هذه القضايا يغض الطرف عن عمد أو عن غير عمد عن أقوال أخرى لجماهير من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين حكى عنه تخالف هذا القول، إن الأمانة العلمية تقتضي أن تورد أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء ثم توفق بينها، واحترام عقل القارئ يقتضي منك أن تورد هذا كله، أما أن تضع يدك على عين وتنظر بعين واحدة وتتعامل مع جانب واحد فهذا عنوان دخول الهوى، وحين يدخل الهوى إلى ميدان البحث فإن هذه أول خطوة لمجانبة الصواب والانحراف عن المنهج.

الخطأ الثاني في قضية منهج السلف: إهمال عامل الزمان واختلاف الأمور.

لا شك أن هناك قضايا مسلمة في كل وقت وفي كل زمان لا تختلف فيها الأمور، لكن هناك قضايا نقلت فيها عن السلف أقوال قالوها في زمان معين أو عصر معين أو ظروف معينة، لا يمكن أن تكتسب هذه النصوص وهذه الأقوال صفة العموم والتعميم، ومهما كانت آراء السلف فهي لا ترقى إلى منزلة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان.

ولأضرب على ذلك مثالاً حتى تتضح الصورة:

لو تأملنا ما كتبه السلف لوجدنا أنهم ينهون كثيراً عن صحبة الأمرد وعن مجالسته ولو لمصلحة تعليمه وتهذيبه وتربيته، والنقول في ذلك عن السلف لا تخفى، ولهذا قد يأخذ بعض الغيورين هذه النصوص وينزلها على هذا العصر، ويقول: ينبغي ألا يصحب هؤلاء، وينبغي للصالحين والأخيار أن يبتعدوا عن صحبة هؤلاء، وأن يبتعد هؤلاء عن مثل هذه المجالس والمجامع؛ لأن السلف كانوا ينهون عن ذلك، وقد ينسى هؤلاء -وهم لا شك ينطلقون من منطلق الغيرة والحرص على اتباع منهج السلف- مراعاة فارق الزمان، وفارق ذاك الوقت الذي قيل فيه هذا القول والوقت والمرحلة التي نعيشها، إننا الآن حين ننهى الصالحين الأخيار عن مصاحبة هؤلاء والأخذ بأيديهم وتربيتهم وتهذيبهم فهذا يعني أن يترك هؤلاء هملاً يتيهون في الشوارع والأزقة، وأن يترك هؤلاء للمفسدين من أهل المخدرات والفواحش والفساد الذين يتربصون بهم الدوائر عافانا الله وإياكم، وهي قضية لا تخفى، هل يمكن أن يقول مسلم غيور يخشى على شباب المسلمين وأبناء المسلمين: إن الأخيار ينبغي أن يتورعوا عن صحبة هؤلاء ومجالستهم وتربيتهم وينبغي أن يتركوهم لعصابات المخدرات وعصابات الشذوذ والفساد الأخلاقي والفواحش -عافانا الله وإياكم-؟ لا أظن أن يقول مثل هذا من يدرك مقاصد الشرع المطهر، ويبقى بعد ذلك ما ينقل عن السلف على العين والرأس، ويبقى له قيمته واحترامه ومنزلته، ولهذا فإننا نقول لهؤلاء الذين يصاحبونهم ينبغي أن تتورعوا، وينبغي أن تجتنبوا كثيراً من المظاهر التي نهى عنها السلف من الخلوة والسفر معه وحده، إلى آخر ذلك من مثل هذه المواقف، لكننا لا يمكن أبداً أن ننهى عن صحبتهم وتربيتهم ورعايتهم، وقل مثل ذلك في قضايا كثيرة يتحدث فيها السلف عن أمور عاشوها وعاصروها وحكموا فيها بناءً على العصر الذي عاشوه وكانوا فيه، لا ينبغي أن تحول هذه النصوص إلى نصوص عامة تتعبد بها الأمة كلها أجمع في كل زمان ومكان ولو اختلفت الظروف وتنوعت الأحوال.

الأمر الثالث أيضاً في منهج السلف:

ما يدّعيه البعض من أن المقصود روح منهج السلف، وقضية السلف في الجملة، ويسعى في مثل هذه المقولة، وفي مثل هذا الاختزال لمنهج السلف إلى أن يتفلت من كثير من الضوابط، وأن يتفلت من كثير من القضايا التي اتفق عليها سلف الأمة، سواء في منهج التلقي أو الاعتقاد في ذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، يسعى هو إلى التفلت من ذلك، بحجة أن المطلوب هو اتباع روح منهج السلف، وأن يسير الإنسان على تلك الروح التي كان يسير عليها السلف، نعم إن المسلم ينبغي عليه أن يسير على ذلك، لكن أيضاً منهج السلف منهج له احترامه وقيمته، ولا يجوز أبداً أن نساوم عليه، ولا أن نناقش فيه، وما اتفق عليه سلف الأمة فهو حجة يجب قبوله، ويجب على الأمة أن تسير عليه، ومخالفته وتجاوزه عنوان الانحراف وتنكب منهج السلف.

عدم التفريق بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط

الخطأ الخامس من الأخطاء في المنهج: عدم التفريق بين الخلاف في الأصل وبين الخلاف في تحقيق المناط.

إن هناك مسائل مقررة من هذا الدين ولا تحتمل نقاشاً ولا جدلاً، لكنه قد يحصل هناك خلاف في تنزيل هذه المسائل على وقائع معينة، وعلى أحوال معينة، فيحول هذا الخلاف إلى خلافٍ في الأصل، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة:

قضية تاريخية قريبة حصلت ودار حولها لغط كثير وهي قضية الجهاد في أفغانستان، حين دار بين المجاهدين ما دار من الصراع، واختلف الكثير من أهل المنهج الحق -أهل السنة والجماعة- حول الموقف من هذه القضية، فهناك من صور أن القضية صراع بين السنة والبدعة، وأن القضية صراع بين التوحيد والشرك، ولهذا رأى أنه لا يسوغ لمسلم أن يقف موقف الحياد في هذه القضية، وأن الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم هو الموقف الواضح المحدد، وهناك من خالف في هذا الأمر ورأى أن القضية لها أسباب وعوامل أخرى غير عامل العقيدة.

أقول: بغض النظر عن هذه القضية والموقف منها، لكن هذا الخلاف إنما هو خلاف في تحقيق المناط، فالجميع يتفقون على أن قضية التوحيد قضية لا يساوم عليها، وأن المسلم لا يجوز له أن يقف على الحياد في قضية يكون فيها صراع بين أهل السنة وأهل البدعة، ولا ينبغي له أن يتردد في موقفه حين يكون الجدل بين دعاة التوحيد ودعاة الفتنة والتصوف والضلال، لكن الخلاف في تقرير هذه القضية، هل هي أصلاً صراع بين أهل التوحيد وأهل الضلال أم أن لها باباً آخر؟

وقل مثل ذلك حينما يختلف مسلمان في تكفير فلان من الناس، حينما يقرر فلان أن فلاناً ممن وقع في أمر يكفره أنه قد كفر وارتد بهذا العمل عن الإسلام، والآخر لا يكفره، هل يسوغ لذاك الذي حكم بعدم تكفيره أن يصم هذا بأنه من الخوارج ويرى رأي الخوارج، أم أن القضية تحتاج إلى البحث والمناقشة؟ فإن كفّر بأمر يكفر فيه سلف الأمة وأهل السنة فإن هذا الأمر لا يمكن أن يحوله إلى رجل من الخروج وأهل الوعيد. نعم، قد يكون الخلاف على التكفير بعمل لا يكفر فيه أهل السنة فهذا لا شك مسلك الخوارج، أما حين يكون هذا المرء قد ارتكب عملاً مكفراً بنصوص الكتاب والسنة، والخلاف إنما هو في تنزيل التكفير على هذا الرجل المعين فإن القضية ليست من هذا الباب في شيء، إنما هي خلاف في تحقيق المناط بغض النظر عن ملابسات هذه القضية من وجوب الورع والاحتياط والبعد عن تكفير المسلم، لكن فرق بين أن تحكم عليه بالخطأ في تنزيل هذا الحكم على هذه القضية وبين أن تلزمه بالأصل وتحكم عليه بمخالفة المنهج.

إذاً: فينبغي أن نفرق في قضايا الاختلاف بين ما كان خلافاً في الأصل وبين ما كان خلافاً في تحقيق المناط وتنزيل الوقائع على الأصول.

الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة

الخطأ السادس: الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة.

قد يعيش المسلمون أحداثاً عنيفة وقد يعيشون أزمة، والأزمات بطبيعتها تسبب نوعاً من عدم التوازن في التفكير ومن عدم التوازن في المواقف، ولهذا يضطرب الناس ويموجون عند الفتن، والفتنة إذا أقبلت لا يدركها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها وأدركها الجميع، فطبيعة الفتن والنوازل أنها تحدث نوعاً من الخلل وعدم الاستقرار في التفكير، فقد ينطلق البعض في تقرير المنهج من خلال موقف من قضية معينة أو حادث معين، وهذا خلل في المنهج، نعم، قد نعلق على هذه القضية أو على هذا الموقف أو قد نتخذ موقفاً من حدث معين، أو من قضية بعينها، لكن أن تكون هذه القضية منطلقاً لتقرير المنهج أصلاً، فهذا أمر يحتاج إلى إعادة النظر.

الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال

الخطأ السابع: الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال.

قد يحصل خطأ ينتشر عند البعض من الناس، وقد يرفض هذا الخطأ فيبالغ في رفضه، ثم يعمد تجاه هذا الخطأ أو تجاه هذا الموقف أو تجاه هذا الواقع إلى تقرير المنهج متأثرين بردة الفعل. إن قضية المنهج كما أنها يجب أن تحمل قدراً من الثبات والوضوح، فهي بحاجة إلى أن تحمل أيضاً قدراً من الاستقرار والتوازن مما يجعلنا نتلافى قدر الإمكان الاستجابة لردود الأفعال، والاستجابة للتأثر بالأحداث في تقرير المنهج، فحين نقرر المنهج ينبغي أن نتحرر قدر الإمكان من أحداث معينة تركت آثارها في أذهاننا، ونتحرر من ردود فعل تجاه أخطاء البعض من الناس أو تجاه تقصيرهم أو تجاه موقف أو آخر.

اعتبار مسائل الاجتهاد من أصول المنهج

الخطأ الثامن: اعتبار مسائل الاجتهاد من المنهج.

إن هناك مسائل قد جاءت بها النصوص فهي ظاهرة واضحة، لا يعذر أحد بخلافها، وهذه بلا شك لا يسوغ أن تجعل ميداناً للجدل واللغط، وينبغي أن يخضع لها الدعاة ويخضع لها المسلمون أجمع، لكن ثمة قضايا هي من مسائل الاجتهاد، وقضايا لم يرد فيها نصوص قاطعة، ولهذا فهي تحتمل أن تختلف فيها الآراء والاجتهادات، وما دام أنه ليس في المسألة نص ظاهر يجب على المسلمين قبوله فالأمر واسع في ذلك، ويجوز فيه اجتهاد الدعاة والمصلحين، ويجوز لهم أن يتلمسوا ما يرون أنه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع وأقرب إلى امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيجتهدون في تحقيقه قدر الإمكان، وما يهديهم إليه اجتهادهم يسلكونه ثم يعذرون الآخرين، ولا شك أن من أخطأ في مسائل الاجتهاد فهو معذور، وهذا منهج سلف الأمة، بل إن الذي يقرنون بين الخطأ والإثم والضلال هم أهل البدع كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن من كتبه، وأهل البدع هم الذين يحولون مسائل الاجتهاد إلى مسائل يفرقون فيها بين الأمة، وإلى مسائل يؤثمون بها المخالف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، وكم هي المسائل التي اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تحول هذه المسائل إلى منهج يخطأ من خالفه.

إننا نرى الآن في عصرنا خلافاً حول قضايا مستجدة ربما كانت محلاً ومجالاً وميداناً للخلاف، ثم نرى من يحول هذه القضايا إلى منهج، ويجعل هذه القضايا معياراً للولاء والبراء، ويجعل هذه القضايا علامة على سلامة المنهج، ويجعل الإخلال بها علامة على الانحراف عن المنهج، ومن أبرز ذلك الخلاف في بعض وسائل الدعوة، فوسائل الدعوة المعاصرة لا شك أنه يحصل فيها خلاف كثير باعتبار أنها نوازل وقضايا طارئة، ولم يتفق فيها العلماء المعاصرون على رأي موحد، فلماذا تحول هذه المسائل إلى قضايا من أسس المنهج، وتجعل هذه المسائل علامة على أن من قال بها فهو من أهل المنهج الصحيح، ومن خالفها فهو من أهل المنهج المنحرف المبتدع؟ ولماذا لا يسعنا الخلاف فيها؟ نعم قد يرى فلان من الناس أنه لا يسعه إلا هذا القول، وقد يرى أنه يدين الله تبارك وتعالى بهذا القول، لكنه حين يلزم نفسه بهذا الاجتهاد ويقرره ويدعو الناس إليه فهذا شيء، وأن تحول هذه المسائل إلى أصول وإلى منهج يضلل من خالف فيه فهذا شيء آخر؛ لأننا حين نقرر هذا فمعناه أن يكون لدينا من المناهج بقدر ما لدينا من الدعاة، ويكون لدينا من الطرق والوسائل بقدر ما لدينا من الأفراد، فلا يستقيم على كل منهج إلا فرد واحد، لأنك لن تجد رجلين مهما كان وجه التقارب بينهما إلا ويختلفان في قضية من القضايا.

اعتبار عدم النجاح في تحقيق هدف ما دليلاً على انحراف المنهج

الخطأ التاسع والأخير: اعتبار عدم النجاح في تحقيق الهدف دليلاً على انحراف المنهج.

لا شك أيها الإخوة أن الداعية إلى الله تبارك وتعالى حين يرى أن هذه التجربة أو تلك لم تنجح فإن ذلك يدعوه إلى أن يعيد النظر في نفسه، وأن يعيد النظر في اجتهاداته، وأن يعيد النظر في آرائه، ولا شك أيضاً أنه وهو يقرأ تجارب الآخرين من السابقين واللاحقين.. الماضين والذين يعيش معهم، لا شك أنه حين يقرأ تجارب من سبقه وعاصره يرى أن هناك تجارب لم يكتب لها النجاح، فيدعوه هذا إلى المراجعة، ويدعوه إلى أن يفتش عن أسباب؛ لأن الفشل له أسباب، لكن هل فشل فلان من الناس يكون بالضرورة سببه الانحراف في المنهج؟ قد يكون ذلك، فالمنهج المنحرف لن يكتب له النجاح، لكن ليس هذا بالضرورة فقد تكون هناك أسباب أخرى أدت إلى ذلك، منها تقصيره في الأخذ ببعض الأسباب المادية.

إن الله تبارك وتعالى أمرنا بأخذ القوة وأخذ العدة، وأن نتقيه ما استطعنا في كل شيء، قد يكون الإنسان على منهج صحيح، وعلى منهج سديد مستقيم لكنه يفرط في بعض الأسباب وبعض القضايا المادية التي ينبغي له أن يأخذ بها كما أمره الله تبارك وتعالى؛ فيفشل عمله أو يصاب بنكسة نتيجة إهماله وتفريطه، فهو هنا لا شك أُتي من تقصيره، لكن منهجه ليس منهجاً منحرفاً، ولا يسوغ أن نعود بعد ذلك لنقول: إن فشله في تحقيق هدفه دليل على انحراف منهجه، وقد يكون أيضاً فشله وعدم نجاحه عائداً إلى نوع من الخلل في نيته، قد يكون على منهج صحيح ومنهج سليم في الجملة، ولم يقرر باطلاً ولا بدعة، لكن قد يدخله في العمل بعض حظوظ النفس وبعض الرغبات الشخصية، وهنا قد لا يكتب له النجاح لعدم تحقيق تمام الإخلاص، فلا يدعونا هذا إلى أن نخطئ المنهج، نعم هو إنما أتي من عند نفسه، لكنه أتي من قضية النية، وأما المنهج الذي سلكه في الجملة فهو منهج سليم، فلا يسوغ أن نرفض منهجاً لأنه لم ينجح.

وقد يكون في الأمر ابتلاء وامتحان، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده المؤمنين، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد) فهل يسوغ أن نتهم هذا النبي الذي لم يستجب له إلا رجل أو رجلان رغم أنه استمر دهراً طويلاً في الدعوة، هل يسوغ أن نتهمه بأنه منحرف في المنهج بدليل أنه فشل في تحقيق الهدف الذي سعى إليه؟ هل يسوغ أن نتهم نوحاً عليه السلام -الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً- بأنه منحرف في منهجه بدليل أنه خلال هذا الدهر الطويل لم يؤمن معه إلا قليل؟ لا يمكن أن يجرؤ مسلم أن يقول هذه المقولة، إذاً فالأمور لها عوامل أخرى.

ونموذج آخر: أصحاب الأخدود حين جاء ذاك الغلام الذي حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، وهدى الله عز وجل على يديه وزير الملك وجليسه، وهدى على يديه الكثير من الناس، ثم أخذ جليس الملك وشق بالمنشار نصفين كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ الراهب وقتل، كل ذلك بسبب استجابتهما للغلام وبسبب دعوة الغلام، فهل يمكن أن نتهم هذا الغلام بأنه منحرف في المنهج؛ لأنه قاد هؤلاء إلى هذه النهاية، بل إنه قاد كل أولئك الذين آمنوا بالله إلى أن يحرقوا بنار الدنيا؟ وهل حرق أولئك جميعاً وقتلهم يعني أنهم قد فشلوا، وأن هذا الغلام مسئول عن تلك الدماء التي أريقت؟

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البقعة المباركة ودعا إلى الله تبارك وتعالى فآمن به من آمن، واتبعه من اتبعه صلى الله عليه وسلم، وتعرض المسلمون لما تعرضوا له من التعذيب والإيذاء والفتنة، فمنهم من قتل، ومنهم من بلغ به الأذى ما بلغ، ومنهم من هاجر إلى الحبشة وتغرب، ومنهم من هاجر إلى المدينة حتى كان كما قال أولئك: فرق بين الرجل وزوجه، وفرق بين الابن وأبيه، وحتى التقى الابن مع أبيه بسيفيهما في غزوة بدر، وحتى قاتل الأخ أخاه، هل يمكن أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته هي السبب فيما أصاب سمية ، أو هي السبب فيما أصاب ياسراً حين قتلا تحت التعذيب، أو هي السبب في اغتراب المسلمين وهجرتهم إلى الحبشة أو إلى المدينة أو في كل ما أصاب المسلمين؟ لا يمكن أن يقول ذلك قائل.

إذاً: لا يجوز أن تنسب هذه النتائج إلى الدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وأنهم هم المسئولون عنها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى خطوة أخرى وهي الاستشهاد بذلك على الخطأ في المنهج واتهام المنهج.

هذه أيها الإخوة بعض الأخطاء التي نقع فيها عند تقرير المنهج وتبيين معالمه، وأكرر ما قلت في بداية حديثي: إننا أحوج ما نكون الآن إلى محاولة الخروج برؤية واضحة يتفق عليها جميع أهل السنة حول الثوابت التي لا ينبغي لأحد أن يخالف فيها، بدلاً من الجدل واللغط والخصومة واللجاج، فتحرير معالم المنهج يضمن النجاة بإذن الله؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن تنجو إلا الطائفة التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحديد معالم المنهج الواضح هو ضمانة وأمان بإذن الله من الانحراف، ومن أن يستجيب المسلمون لأولئك الذين يدعون الناس على بنيات الطريق من دعاة الفتنة والبدعة والغواية والضلالة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنه سميع قريب.

هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أول خطأ من هذه الأخطاء: اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج.

إن هذا الدين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والعبودية في الناس إنما هي لله تبارك وتعالى، والاتباع إنما هو لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أحد في الأمة صغر أم كبر يتوجب على الأمة كلها أن تصدر عن رأيه، وأن تدين الله باجتهاداته وآرائه، هذه قضية بدهية لا يجادل فيها مسلم، ولا يكابر فيها إلا مكابر، إن الأئمة الأعلام والرجال الكبار لهم شأنهم ولهم قيمتهم، ولهم اعتبارهم ووزنهم، ولا ينبغي أن تسفه آراؤهم ولا أن تهان منزلتهم ومكانتهم، ولا يجوز أن يدعى إلى إسقاط مثل أولئك الرموز الذين تفتقر إليهم الأمة، لكن هذا شيء وأن تحول أقوالهم إلى حجة تلزم الأمة كلها بقبولها شيء آخر.

ومن ادعى هذا الادعاء فنقول له: أعطنا نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كلاماً لإمام معتبر من أئمة أهل السنة يرى أن الأمة ملزمة برأي فلان من الناس، لا سبيل إلى ذلك، بل هذا هو عنوان الابتداع، وهذه أمارة من أمارات الإعراض عن المنهج، فمن نصب شخصاً أياً كان، فوالى على موالاته، وعادى على معاداته، وجعل كلامه برهاناً على الحق والباطل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة الأعلام، وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى كان أولئك رضوان الله عليهم يرون أن آراءهم وأن اجتهاداتهم ليست ملزمة للأمة.

فها هو ابن عباس رضي الله عنه يقول في شأن رجلين من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هما أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يوشكون أن يهلكوا؛ أقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: قال أبو بكر وعمر ، نعم إن رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل قول فرد من الناس ولو كان حتى من أولئك الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم واختارهم تبارك وتعالى ليكونوا فرط هذه الأمة وقدوة هذه الأمة، إن هذا الأمر سبب للهلاك، وسبب للانحراف؛ فالأمة لم تتعبد إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما آراء الرجال أيّاً كانوا وفي أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان فينبغي أن تعرض على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذاً فلا يسوغ بحال أن نجعل كلام فلان أو فلان من الناس مهما علا قدره وارتفع شأنه أن نجعله هو المنهج، فضلاً عن أن نتهم من خالفه في اجتهاد أو في موقف أو في رأي أنه قد خالف المنهج، وأنه قد انحرف عن المنهج وتنكب الطريق، والأمة إنما هي متعبدة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولهذا كان سلف الأمة والمصلحون يشتكون من هذا العائق الذي يطرحه الكثير من الناس في وجوههم، كما قال أحدهم:

عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك

وهكذا كان أولئك يعترضون تارة بقول أشهب ، وتارة بقول غيره، ثم يقول:

فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

فإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

نعم إن ذكرت لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن مالكاً إنما ترك هذا الحديث لأنه قد أتاه حجة وبرهان.

وإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك

فالمنطق هنا هو نفسه، والشكوى هي ذات الشكوى التي يطرحها كل مصلح في كل زمان حين يصدم بهذا الحاجز، وهو حاجز التقليد، وتعبيد الناس لآراء الرجال.