خطب ومحاضرات
سبيل المؤمنين
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].
وقد قال في محكم التنزيل: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].
يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وقد أراد بحكمته البالغة أن يجعل هذه الدار الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، فجعلها دار امتحان وابتلاء، لا يجد فيه الإنسان سعادةً أبديةً مستمرة، وإنما يبلونا الله فيها بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فيتعاقب فيها الخير والشر على الإنسان امتحاناً له وابتلاءً، هل يثبت على طريق الله وسبيله الذي ارتضاه أم يمكث العهد الذي بينه وبين الله فيرتد على عقبيه؟ وقد جعل الله فيها فتناً عظيمة تصرف الذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين عن سلوك طريقه، ولله الحكمة البالغة؛ فلذلك من حكمه في هذه الصوارف التي تصرف الناس عن طريق الحق أنه جل جلاله علم بحكمته أن الناس سينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، وقد ضمن الله للجنة أهلها، وضمن للنار ملأها، فلا بد أن يكون في الدنيا منهم من أهل الجنة، ومنهم من أهل النار، ومنهم من أهل السعادة، ومنهم من أهل الشقاء؛ فلذلك صرف الله الذين لا يرتضيهم بهذه الصوارف فانصرفوا عن سبيل الله، ومنهم من لم ير السبيل أصلاً، ولم يهتم به ولم يرده، ومنهم من رآه ولم يصل إليه، ومنهم من رآه ووصل إليه وأراده ولكنه لم يسلكه، ومنهم من رآه وأراده وسلكه لكنه تساقط عنه في الأثناء، وقليل منهم من سلكه ثم وصل.
وهذه الصوارف تعهد الله بها إذ قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
والذين ارتضى الله تعالى سلوكهم لهذا الطريق يختارهم له ويختاره لهم ويثبتهم عليه، قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
فأولئك يوفقهم الله سبحانه وتعالى لسلوك طريق الحق، ويختارهم له، فهم قبل خلقهم قد اختيروا وهيئوا لسلوك الطريق، فجاءت جوارحهم منقادةً للطاعة، وجاءت قلوبهم مطمئنةً بالحق، لا يشكون ولا يرتابون، وهم مهيئون قبل الخلقة لأن يكونوا من أهل الجنة، ولأن يسلكوا طريق الجنة؛ ولذلك إذا ابتلوا بأنواع البلاء فإنه لا يصرفهم عن طريقهم الذي سلكوه واختاروه قيد أنملة، كما قال أحد سلفنا الصالح وهو الزبيري رحمه الله لما أتاه بعض المبتدعة يجادله في العقيدة قال:
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم، فيصبرون على سلوك طريق الحق، ويستمرون عليه، وهم بذلك يعلمون أنهم سيتعرضون للكثير من الامتحانات، فقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
وهذا السبيل بينه الله سبحانه وتعالى أتم بيان، فأرسل به الرسل، وأقام عليه الحجج، وقفى على آثار الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهي صراط دنيوي هو تنزيل للصراط الأخروي.
مشابهة سبيل المؤمنين للصراط الأخروي
وهذا الصراط لا شك مماثلته للصراط الأخروي تقتضي مشابهةً في بعض الجوانب، فهو دقيق جد ومسلك وعر، كما أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يسقط من كلوب الواحد منها سبعون ألفاً في قعر جهنم، فكذلك هذا الصراط المستقيم السوي فيه نكبات وعقبات، ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، لا بد أن يجد فيه الإنسان عناءً ومشقةً؛ ولذلك فإن الشيطان يحاول صرفه عنه وجبهته مفتوحة، والنفس الأمارة بالسوء تحاول صرفه عنه وجبهتها مفتوحة، وإخوان السوء والقرناء يحاولون صرف الإنسان عنه وشغله عنه وجبهته المفتوحة، ومفاتن الدنيا وشهواتها جبهة رابعة، وبعد ذلك نعم الله سبحانه وتعالى المتوافرة المتواترة جبهة خامسة، إذا ركن إليها الإنسان أخذ بها ولم يشكرها لله شغلته عن طاعته وذكره كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
اختيار الله لسبيل المؤمنين وبيان مراتبه
وهذا الطريق طريق اختاره الله سبحانه وتعالى ولم يشاورنا في اختياره، فعبده ومهده، وجعله موافقاً للفطرة موافقاً للعقل، كافلاً لكل المصالح، غير معطل عن الحكم، فلم يحل الله سبحانه وتعالى شيئاً إلا لمصلحة بني آدم، ولم يأمر بشيء إلا لمصلحة متمحضة لا وجوباً ولا ندباً، ولم يحرم شيئاً إلا لضرر متمحض، ولم يكره شيئاً وينهى عنه نهياً دون ذلك إلا لضرر فيه، ومن هنا فأصل هذا السبيل هو الإيمان، وهو بمثابة الحياة في جذع الشجرة، ثم فوقه اللحاء الذي دون القشرة وهو الفرائض التي لا بد من امتثالها، والكبائر والفواحش التي لا بد من اجتنابها، وفوق ذلك القشرة قشرة جذع الشجرة وهي السنن والمندوبات التي ينبغي امتثالها، والمكروهات وخلاف الأولى التي ينبغي اجتنابها، وإذا خرقت القشرة فإنه سييبس ما يقابلها من اللحاء، ثم ييبس ما يقابل ذلك من الجذع، ثم تتأثر ثمرة الشجرة في كل عام بما نقص من جذعها، فإذا حصل الخرق فخرق اللحاء بالكلية فسيدب الخلل والخراب في الجذع من أصله، وبذلك تموت الشجرة ولو كان الموت بطيئاً بالتدريج، ومن هنا فإيمان الإنسان محوط بهذه الأسوار، فإذا ارتكب الإنسان فاحشةً أو كبيرة أو ترك فريضةً من فرائض الله فإن إيمانه عرضة للهلاك بالكلية، وإذا لم يفعل ذلك ولكنه ارتكب صغيرةً من اللمم أو وقع في مكروه أو خلاف أولى، أو ترك سنةً أو مندوباً عمداً فإن ذلك ينقص لحاء الإيمان أيضاً السور الذي بعد السور الأول يتأثر بذلك، ومن هنا فهذا السبيل مدرج بهذا التدريج، فقد شرع الله شرائع منها الفرائض التي لا يمكن تضييعها، وحرم أشياء فلا يمكن ارتكابها، وحد حدوداً فلا يمكن تعديها، وسكت عن أشياء رحمةً بالعباد وهي الأمور الاجتهادية، فهذه إذا ترجح لدى الإنسان فيها شيء عمل بمقتضى ما ترجح لديه من الدليل، وإذا لم يترجح لديه شيء فترددت بين الإباحة والتحريم فهنالك الورع؛ ولذلك أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).
أقوال العلماء في المشتبهات بين الحلال والحرام
وهذه المشتبهات التي هي بين الحلال والحرام قد اختلف أهل العلم في تفسيرها على خمسة أقوال:
القول الأول: أنها المكروهات وخلاف الأولى، أي: ما نهى الشارع عنه نهياً غير جازم، فهذه لا يعاقب مرتكبها، ولكنها نقص في إيمانه وضرر يصل إليه، ولو كان ذلك الضرر طويل الأمد بالتدريج، فإذا لم يكف الإنسان لسانه عن اللغو، واللغو غير حرام، لكن إذا لم يكف الإنسان لسانه عنه فسيقسو قلبه، وقسوة القلب ضررها بين على الإيمان، ومثل ذلك كل ما هو مكروه إذا تعمده الإنسان فلا بد أن يصل إلى قلبه شيء من الضرر، وهكذا إذا ترك سنةً أو مندوباً أياً كان تجاسراً فإنه لا يعاقب بسبب الترك، ولكن ترك المندوب وترك السنة لهما شؤم يصل إليه، وهذا الشؤم يصل منه الضرر إلى الإيمان ولو كان ذلك على الأمد البعيد، فإذا ترك الإنسان ما كان يفعله من قيام الليل ليلةً أو ليلتين فسيشق عليه قيام الليل فيما بعد، وإذا ترك صياماً كان يصومه فسيشق عليه الصيام فيما بعد؛ ولذلك ( كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة )، وبين: ( أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )، وقال: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وهذا يدلنا على أن أفعال الخير ينبغي أن تكون متتابعةً متواترةً، وأن يحرص الإنسان على ما وفق له منها، ومن رزق في باب فليلزمه، فمثلاً إذا كان هناك درس في يوم في الأسبوع في وقت محدد فشهده أحدهم فنفعه الله بما انتفع به منه، فليعلم أنه باب خير فتحه الله له، فليأته بصفة اعتيادية وعلى وجه دائم، إذا رزق مثلما رزق أولاً فذلك بفضل الله ورحمته، وإلا فقد بذل الأسباب كما يبذل الناس جميعاً أسبابهم في التجارات، فتارةً يرزق الإنسان، وتارةً يخسر، لكن كل ذلك بقدر.
القول الثاني: إن المشتبهات هي ما سكت عنه ولم يرد فيه نص، لا من كتاب ولا من سنة، كالأمور المتجددة، والحوادث التي تنزل في حياة الناس في تاريخهم الطويل، ولم يرد فيها نص من كتاب ولا من سنة، فتبقى حاملةً للاجتهاد، وقابلة للحمل على أي وجه من وجوه القياس.
القول الثالث: إن المشتبهات هي ما اجتمع فيه الحلال والحرام من الأموال ونحوها، كمعاملة من بعض ماله حلال وبعض ماله حرام، وأخذ التبرعات منهم، فهذا جمع ماله حلالاً وحراماً فكان مشتبهاً من المتشابهات.
القول الرابع: إن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة، فوجدنا دليلاً صحيحاً صريحاً يقتضي النهي عنه، ووجدنا دليلاً صريحاً صحيحاً يقتضي الأمر به، وحينئذ يحتاج إلى أهل الرسوخ في العلم؛ لأنهم يعلمون أوجه الجمع، وإذا عجزوا عن الجمع ذهبوا إلى الترجيح، وإذا عجزوا عنه ذهبوا إلى النسخ، ولهم مندوحة بل لهم مناديح كثيرة في ذلك؛ لأنهم يمكن أن يحملوا على التخصيص، أو على النقل، أو على الاشتراك، أو على المجاز، أو على النسخ، وهي محامل عند تعارض الألفاظ وهي التي تسمى عند الأصوليين بتعارض مقتضيات الألفاظ وهي خمسة، وهذه الخمس متدرجة في جدول ثلاثي الأبعاد لدى الأصوليين معروف.
القول الخامس في تعريف المشتبهات: أنها ما اختلف فيه أهل العلم، فكل مسألة اختلف فيها العلماء بين مبيح ومحرم فتكون من المشتبهات، ويكون الورع خروجاً من الخلاف، وأن يخرج الإنسان من الخلاف فيأخذ بالاحتياط؛ لأنه قال: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، واستبرأ معناه طلب البراءة لدينه وعرضه، والبراءة هي النقاء والطهارة، فيكون بذلك بريئاً من المعصية؛ لأنه طلب الأشد فأخذ به، فلا يرى أحد بطلان صلاته، أو لا يرى أحد حرمة بيعه، أو لا يرى أحد بطلان نكاحه؛ لأنه أخذ بالأشد والأقوى، وهذا الورع ليس واجباً، ولكن مع ذلك به تتفاوت منازل المتقين.
موقف أصحاب الهمم العالية من المؤمنين يوم القيامة
والناس في هذه الحياة من امتحانهم امتحان يسمى امتحان الهمم، وهو من سبيل المؤمنين، فالمؤمنون منهم ذوو الهمم العالية الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، وبغيتهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ويريدون جوار النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ويريدون في الحياة الدنيا أن يعبروها كأنها لجج وأمواج، وأن يعبروها بسلامة وطاعة، فيجعلونها زاداً للدار الآخرة، ويريدون أن يرزقهم الله حسن الخاتمة فيها والتخلص من شأنها، ثم بعد ذلك يريدون الفرح عند لقاء الله، ويريدون أن تكون قبورهم رياضاً من رياض الجنة، وأن تملأ عليهم خضر ونور وروح وريحان، وأن تكون خير بيت يعمرونه، وأن يكون الموت خير غائب ينتظرونه، ويريدون أن يحشروا آمنين ناجين، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103]، فهم يريدون قوة إيمان عجيبة تقتضي شجاعةً وقوةً عجيبة.
ومن المعلوم أن الإنسان الآن العادي مهما بلغت شجاعته إذا سمع صوت الرعد القاصف أو الصاعقة الشديدة لا بد أن يرتاع لها، وإذا سمع صوت اصطدام سيارات هائل يرتاع لها، وإذا رأى حريقاً هائلاً مدوياً يرتاع له، وإذا سمع انفجاراً كبيراً يرتاع لأجله، فكيف إذا سمع تشقق السموات السبع وهي يومئذ واهية؟ تتشقق كما تتشقق الملابس، وسمع طي التراب وهي تطوى فتكون خبزةً يتكفؤها الجبار بيمينه نزلاً لأهل الجنة، ورآها تنفض كما ينفض الجراد، فتخرج منها أثقالها فلا يبقى فيها معدن، ولا يبقى فيها ميت، ولا يبقى فيها كنز إلا أخرج، وتزول الجبال فتكون كالعهن المنفوش تكفئها الرياح يميناً وشمالاً، وتزول الأودية فتستوي الأرض جميعاً، فإذا وقف الواقف في طرفها رأى طرفها الآخر، ثم بعد ذلك يسمع الصيحة العجيبة المدوية التي تملأ السموات والأراضين، وهي صيحة الفزع التي يصعق لها الخلائق، ثم بعد ذلك يسمع الصيحة الأخرى التي تتشقق بها الأرض عن الأموات فيقومون لرب العالمين، يخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويرى الملائكة عياناً بياناً، ويرى حشر الخلائق فيرى الناس يخرجون من قبورهم وتنبت أجسامهم، وتركب أناملهم وعظامهم، ويرى المكان الواحد الذي كان مألوفاً لديه معروفاً، ما بين بيتك وبين المسجد تراه يخرج منه الملايين من البشر كانوا أمواتاً فيه على مر العصور، ويرى في أطراف بيته وأنحاء المكان الذي يعمره أمواتاً يخرجون، وقد كان يعيش بينهم ومعهم، فهذه أمور مروعة مفظعة، وكل ما وراءها فهو أفظع منها، فأعظم من ذلك أن تأتي الساهرة فيرى الشمس قد كورت فوق رأسه حتى تكون كالميل، ويرى جهنم على ضخامتها وكبر شأنها يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة بأزمتها وهم يجرونها جراً شديداً على شدتهم وقوتهم، وهم يجرونها جراً شديداً حتى تحيط بالناس من كل جانب، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24].
فمن كان من أهل الاستقامة على هذا السبيل السوي وعلى هذا الصراط المستقيم لا يفزع يوم يفزع الناس، فيستثنيهم الله تعالى من الفزع، فحينئذ يفزع الناس إلا هؤلاء الذين استثناهم الله، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]، فهؤلاء لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يرتاعون لهذا الهول المروع، ويثبتون ثباتاً عظيماً، وهم يسيرون في أمر وطمأنينة إلى رب العالمين.
جعل العراقيل على سبيل المؤمنين
هذا السبيل الذي هو تنزيل للسبيل الأخروي العراقيل والعقبات التي عليه مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب مفتحة في سورين محيطين بهذا الطريق، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه، وفوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه )، وهذه الأبواب هي بنيات الطريق: المآثم، البدع، والكبائر، هذه بنيات الطريق، وهي أبواب مفتحة يسهل الدخول فيها، وعليها ستور، وهي فطرة الإنسان ووازعه الديني الذي يحول بينه وبين الاقتراف والاعتراف، ثم بعد ذلك منادي الله ينادي: (يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه) وفي كل باب داع يدعو إليه، فالدعاة على أبواب جهنم هم الذين يدعون إلى الكبائر والفواحش والآثام، فمنهم من يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات، ومنهم من يدعو إلى الخمور والمخدرات، ومنهم من يدعو إلى الربا وأكل مال الناس بالباطل، ومنهم من يدعو إلى الكذب والنميمة والغيبة والسخرية والفحشاء، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن الصلاة، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن العلم وطلبه، ومنهم من يدعو إلى التهاون بشأن الدعوة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، كل يدعو على باب من أبواب جهنم حجب عنه بستر وهو يريد أن يدخله وأن يدخل معه من أطاعه، وإذا دخله لم يخرج منه؛ لأنه سيزين له، فكل من اقترف شيئاً مما سوى سبيل المؤمنين يزين له ذلك الذي اقترفه فيظن أنه هو الصواب، وأنه هو الحق، وأنه هو الدين، وأن ما سواه هو الباطل المحض، فيستمر على باطله مفتوناً به فتنةً عظيمةً.
ومن أغرب ذلك أن كثيراً من المفتونين من المعلوم أنهم يحبون الجنة ويكرهون النار، وأنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً إذا رجعوا إلى قرارة أنفسهم عرفوا أنهم يحبونهم حباً شديداً، ولكنهم مع ذلك يزنون به الرجال، فيعدلون عن قوله إلى قول الناس، فتعجب لشأنهم إذا رجعوا إلى قرارة أنفسهم قالوا: لا أحد أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن نساويه بأي رجل آخر، ولكن إذا جاء قوله وجاء قول الرجال الآخرين أخذوا بأقوال الرجال وتركوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا من الفتنة العجيبة عن سبيل المؤمنين.
ضيق سبيل المؤمنين واتساعه
وهذا السبيل كذلك لا بد من بيان أن فيه ضيقاً في بعض الطريق واتساعاً في بعضه، ففي بعض الطريق يأتي الضيق حيث يأتي النص القاطع بالوحي الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وحينئذ لا معدل عنه، ولا يمكن أن يميل عنه الإنسان يميناً ولا شمالاً إلا ضل، ويأتي الاتساع في الطريق في موضع آخر، فلا يأتي النص صريحاً أو لا يأتي صحيحاً، أو لا يرد أصلاً، فيبتلي الله المؤمنين حينئذ باجتهادهم، وهم مأجورون عليه جميعاً، من أصاب منهم له أجران، ومن أخطأ له أجر، وحينئذ فسحة للخلاف، يمكن أن يختلفوا في ذلك الموقع، ويسامح بعضهم بعضاً؛ لأنه يعلم أن الأمر غير محسوم وغير مضيق، فإذا وصلوا إلى المكان المضيق الذي جاء فيه النص اجتمعوا ولم يفترقوا، ثم بعد ذلك إذا وصلوا إلى التوسعة تفرقوا واتسعت بهم السبيل، ثم يأتي مكان آخر يضيق النص فيه فيرجعون إلى النص.. وهكذا.
وهذا السبيل لا تظنون أنه بمثابة شارع واحد متساوي الأطراف والأبعاد، عرضه من جميع الجهات واحد، بل في بعض الأحيان يتسع اتساعاً كبيراً عندما يضيق الأمر، وفي بعض الأحيان يضيق فيفرض على جميع السالكين له أن يمروا من هذا المضيق، ولا معدل لهم عنه، وذلك حيث لا ضرر بسلوكهم بالطريق من هذا المكان، لا ضرورة ولا حاجة تنزل منزلة الضرورة، ولا تختلف الظروف في أي زمان ولا أي مكان، فحينئذ يضيق الشارع، وهذا يدلنا على أن هذا التشريع هو من حكمة الجبار جل جلاله، فهو العليم الخبير الحكيم؛ فلذلك يوسع حيث نحتاج نحن إلى التوسعة، ويضيق حيث نحتاج نحن إلى التضييق، والله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا، فلو ضل جميع الخلائق ولم يسلكوا الطريق لما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو اهتدوا جميعاً فسلكوا الطريق، واستبقوا فيه، لما زاد ذلك في ملكهم شيئاً؛ ولذلك ثبت في الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى يقول: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً ).
فهو الملك الديان جل جلاله، ونحن عباده، نبوء له بنعمته علينا، ونبوء بذنوبنا، ونعلم أن من اهتدى منا فبهدى الله سبحانه وتعالى وفضله ورحمته، وأن من ضل منا فبعدل الله سبحانه وتعالى، لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
الحرص على اتباع سبيل المؤمنين
ومن هنا لا بد أن نحرص على سبيل المؤمنين، وأن نلزمهم، فهذه الدار بنيت على صراع أبدي بين الحق والباطل، لا يتوقف هذا الصراع. أحصوا في كل عصر من العصور سكان الأرض فستجدونهم مقسومين إلى حزب الله وحزب الشيطان، وما من عصر من العصور إلا وجميع سكان الأرض ينقسمون إلى هذين القسمين، لا عبرة بتقاسيمهم الأخرى أن هذا غني وهذا فقير، وأن هذا حاكم وأن هذا محكوم، وأن هذا عالم وأن هذا جاهل، وأن هذا طويل وأن هذا قصير، وأن هذا أبيض وأن هذا أسود، وأن هذا مالك وأن هذا مملوك، هذه التقاسيم لا عبرة بها؛ لأنها مؤقتة ومدة بقائها فقط مدة الحياة الدنيا، فإذا وقفت على المقبرة فهل تجد فرقاً بين من كان جميلاً ومن كان قبيحاً في القبور؟ هل تجد فرقاً بين من كان مالكاً ومن كان مملوكاً؟ هل تجد فرقاً بين من كان عالماً ومن كان جاهلاً؟ هل تجد فرقاً بين الأبيض والأسود؟ لا تجد أي فرق، فدل ذلك على أن هذه الفروق الدنيوية مدتها مثل مدة ركوبنا في سيارة تسافر من هنا إلى نواكشوط، فبعضنا يركب في مقدمها، وبعضنا يركب في مؤخرتها، فإذا وصلنا إلى نهاية المشوار نزلنا، فلا الذي كان في المقدمة توضع عليه علامة أنه كان في المقدمة، بل قد نزلنا جميعاً وأتينا رفقةً واحدة، وكذلك حال أهل الدنيا يتفاوتون هذا التفاوت اليسير الذي ليس مدعاةً للفخر، ولا للخيلاء ولا للتكبر، فهم جميعاً بمثابة الأواني والصحون يجعل الله فيها ما يشاء، فيجعل في هذا عسلاً، ويجعل في هذا صبراً وحنظلاً، ويجعل في هذا ماءً ملحاً أجاجاً، ويجعل في هذا ماءً فراتاً بارداً، ويجعل في هذا سمناً، ويجعل في هذا غثاً.. وهكذا، فله الحكمة البالغة في ذلك.
سبيل حزب الله
فإذا عرفنا هذا عرفنا أننا جميعاً كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، بمختلف الأجناس والألوان والشرائح والمستويات، وبمختلف التخصصات كذلك لنا سبيل واحد، وإذا افترقنا فهذه الفروق ستكون ضئيلة ضعيفة ومدتها محدودة، بمجرد انتزاع الروح من البدن نستوي جميعاً فيما يتعلق بالظاهر وما نراه من شأن الدنيا، ويبقى بعد ذلك التفاضل فقط بين حزبين حزب الله وحزب الشيطان.
فحزب الله مهمتهم في هذه الحياة أنهم يريدون إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وإظهار هذا الدين، وهم يعلمون أنهم خلقوا من أجل حكمتين بالغتين: إحداهما تختص بالإنس، والأخرى مشتركة بين الجن والإنس، فالحكمة المختصة بالإنس هي الاستخلاف في الأرض، والحكمة المشتركة بين الجن والإنس هي تحقيق العبادة لله فيها، فالحكمة الأولى شرف الله بها آدم وذريته؛ ولذلك قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وقال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29].
والحكمة الثانية مشتركة بين الإنس والجن كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على ما صنع وخلق من أجله فيحقق هاتين الحكمتين معاً، وهو يعلم أن كل جهاز صنع بحكمة محددة، إذا لم يؤد تلك الحكمة التي من أجلها صنع فليس له فائدة ولا ثمن بل يرمى في القمامة، فهذا الجهاز لماذا صنع؟ لمعرفة الوقت، فإذا توقف ولم يدل على الوقت، فهل يشتريه أحد منكم؟ وهذا الجهاز لماذا صنع؟ لتسجيل الصوت، فإذا لم تكن فيه هذه الحكمة فهل يشتريه أحد منكم؟ وأين موضعه؟ القمامة، يرمى في القمامة، والإنسان خلق لماذا؟ لهاتين الحكمتين البالغتين، فإذا تعطلتا معاً فلا خير فيه أبداً ويرمى في القمامة، وإذا تحقق فيه بعضهما ولو بصفة نسبية فإنما يحب على قدر ما فيه، ويزداد ثمنه وتزداد قيمته بقدر ما فيه من تحقيق هذه الحكمة، فالذي هو عابد لله جل جلاله من العباد المعروفين بالعبادة، فهذا لا شك أن قيمته كبيرة بحسب ما أداه مما صنع من أجله، والذي يحقق الاستخلاف في الأرض فهو ساع ليله ونهاره في عمارة الأرض والعدالة فيها، ونفع أهلها، وأن يكون نافعاً ويترك فيها بصماته لا يدع مجالاً من مجالات حياة الناس إلا وكانت له مساهمة في الإصلاح فيه، فهو مصلح في السياسة، مصلح في الاقتصاد، مصلح في الاجتماع، مصلح في العلم والثقافة، مصلح في الزراعة والصناعة، مصلح في كل أوجه حياة الناس، فهذا لا شك أنه أيضاً تزداد قيمته بحسب ما أتقنه مما خلق من أجله.
وهذا الصراط لا شك مماثلته للصراط الأخروي تقتضي مشابهةً في بعض الجوانب، فهو دقيق جد ومسلك وعر، كما أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يسقط من كلوب الواحد منها سبعون ألفاً في قعر جهنم، فكذلك هذا الصراط المستقيم السوي فيه نكبات وعقبات، ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، لا بد أن يجد فيه الإنسان عناءً ومشقةً؛ ولذلك فإن الشيطان يحاول صرفه عنه وجبهته مفتوحة، والنفس الأمارة بالسوء تحاول صرفه عنه وجبهتها مفتوحة، وإخوان السوء والقرناء يحاولون صرف الإنسان عنه وشغله عنه وجبهته المفتوحة، ومفاتن الدنيا وشهواتها جبهة رابعة، وبعد ذلك نعم الله سبحانه وتعالى المتوافرة المتواترة جبهة خامسة، إذا ركن إليها الإنسان أخذ بها ولم يشكرها لله شغلته عن طاعته وذكره كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
وهذا الطريق طريق اختاره الله سبحانه وتعالى ولم يشاورنا في اختياره، فعبده ومهده، وجعله موافقاً للفطرة موافقاً للعقل، كافلاً لكل المصالح، غير معطل عن الحكم، فلم يحل الله سبحانه وتعالى شيئاً إلا لمصلحة بني آدم، ولم يأمر بشيء إلا لمصلحة متمحضة لا وجوباً ولا ندباً، ولم يحرم شيئاً إلا لضرر متمحض، ولم يكره شيئاً وينهى عنه نهياً دون ذلك إلا لضرر فيه، ومن هنا فأصل هذا السبيل هو الإيمان، وهو بمثابة الحياة في جذع الشجرة، ثم فوقه اللحاء الذي دون القشرة وهو الفرائض التي لا بد من امتثالها، والكبائر والفواحش التي لا بد من اجتنابها، وفوق ذلك القشرة قشرة جذع الشجرة وهي السنن والمندوبات التي ينبغي امتثالها، والمكروهات وخلاف الأولى التي ينبغي اجتنابها، وإذا خرقت القشرة فإنه سييبس ما يقابلها من اللحاء، ثم ييبس ما يقابل ذلك من الجذع، ثم تتأثر ثمرة الشجرة في كل عام بما نقص من جذعها، فإذا حصل الخرق فخرق اللحاء بالكلية فسيدب الخلل والخراب في الجذع من أصله، وبذلك تموت الشجرة ولو كان الموت بطيئاً بالتدريج، ومن هنا فإيمان الإنسان محوط بهذه الأسوار، فإذا ارتكب الإنسان فاحشةً أو كبيرة أو ترك فريضةً من فرائض الله فإن إيمانه عرضة للهلاك بالكلية، وإذا لم يفعل ذلك ولكنه ارتكب صغيرةً من اللمم أو وقع في مكروه أو خلاف أولى، أو ترك سنةً أو مندوباً عمداً فإن ذلك ينقص لحاء الإيمان أيضاً السور الذي بعد السور الأول يتأثر بذلك، ومن هنا فهذا السبيل مدرج بهذا التدريج، فقد شرع الله شرائع منها الفرائض التي لا يمكن تضييعها، وحرم أشياء فلا يمكن ارتكابها، وحد حدوداً فلا يمكن تعديها، وسكت عن أشياء رحمةً بالعباد وهي الأمور الاجتهادية، فهذه إذا ترجح لدى الإنسان فيها شيء عمل بمقتضى ما ترجح لديه من الدليل، وإذا لم يترجح لديه شيء فترددت بين الإباحة والتحريم فهنالك الورع؛ ولذلك أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).
وهذه المشتبهات التي هي بين الحلال والحرام قد اختلف أهل العلم في تفسيرها على خمسة أقوال:
القول الأول: أنها المكروهات وخلاف الأولى، أي: ما نهى الشارع عنه نهياً غير جازم، فهذه لا يعاقب مرتكبها، ولكنها نقص في إيمانه وضرر يصل إليه، ولو كان ذلك الضرر طويل الأمد بالتدريج، فإذا لم يكف الإنسان لسانه عن اللغو، واللغو غير حرام، لكن إذا لم يكف الإنسان لسانه عنه فسيقسو قلبه، وقسوة القلب ضررها بين على الإيمان، ومثل ذلك كل ما هو مكروه إذا تعمده الإنسان فلا بد أن يصل إلى قلبه شيء من الضرر، وهكذا إذا ترك سنةً أو مندوباً أياً كان تجاسراً فإنه لا يعاقب بسبب الترك، ولكن ترك المندوب وترك السنة لهما شؤم يصل إليه، وهذا الشؤم يصل منه الضرر إلى الإيمان ولو كان ذلك على الأمد البعيد، فإذا ترك الإنسان ما كان يفعله من قيام الليل ليلةً أو ليلتين فسيشق عليه قيام الليل فيما بعد، وإذا ترك صياماً كان يصومه فسيشق عليه الصيام فيما بعد؛ ولذلك ( كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة )، وبين: ( أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )، وقال: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وهذا يدلنا على أن أفعال الخير ينبغي أن تكون متتابعةً متواترةً، وأن يحرص الإنسان على ما وفق له منها، ومن رزق في باب فليلزمه، فمثلاً إذا كان هناك درس في يوم في الأسبوع في وقت محدد فشهده أحدهم فنفعه الله بما انتفع به منه، فليعلم أنه باب خير فتحه الله له، فليأته بصفة اعتيادية وعلى وجه دائم، إذا رزق مثلما رزق أولاً فذلك بفضل الله ورحمته، وإلا فقد بذل الأسباب كما يبذل الناس جميعاً أسبابهم في التجارات، فتارةً يرزق الإنسان، وتارةً يخسر، لكن كل ذلك بقدر.
القول الثاني: إن المشتبهات هي ما سكت عنه ولم يرد فيه نص، لا من كتاب ولا من سنة، كالأمور المتجددة، والحوادث التي تنزل في حياة الناس في تاريخهم الطويل، ولم يرد فيها نص من كتاب ولا من سنة، فتبقى حاملةً للاجتهاد، وقابلة للحمل على أي وجه من وجوه القياس.
القول الثالث: إن المشتبهات هي ما اجتمع فيه الحلال والحرام من الأموال ونحوها، كمعاملة من بعض ماله حلال وبعض ماله حرام، وأخذ التبرعات منهم، فهذا جمع ماله حلالاً وحراماً فكان مشتبهاً من المتشابهات.
القول الرابع: إن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة، فوجدنا دليلاً صحيحاً صريحاً يقتضي النهي عنه، ووجدنا دليلاً صريحاً صحيحاً يقتضي الأمر به، وحينئذ يحتاج إلى أهل الرسوخ في العلم؛ لأنهم يعلمون أوجه الجمع، وإذا عجزوا عن الجمع ذهبوا إلى الترجيح، وإذا عجزوا عنه ذهبوا إلى النسخ، ولهم مندوحة بل لهم مناديح كثيرة في ذلك؛ لأنهم يمكن أن يحملوا على التخصيص، أو على النقل، أو على الاشتراك، أو على المجاز، أو على النسخ، وهي محامل عند تعارض الألفاظ وهي التي تسمى عند الأصوليين بتعارض مقتضيات الألفاظ وهي خمسة، وهذه الخمس متدرجة في جدول ثلاثي الأبعاد لدى الأصوليين معروف.
القول الخامس في تعريف المشتبهات: أنها ما اختلف فيه أهل العلم، فكل مسألة اختلف فيها العلماء بين مبيح ومحرم فتكون من المشتبهات، ويكون الورع خروجاً من الخلاف، وأن يخرج الإنسان من الخلاف فيأخذ بالاحتياط؛ لأنه قال: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، واستبرأ معناه طلب البراءة لدينه وعرضه، والبراءة هي النقاء والطهارة، فيكون بذلك بريئاً من المعصية؛ لأنه طلب الأشد فأخذ به، فلا يرى أحد بطلان صلاته، أو لا يرى أحد حرمة بيعه، أو لا يرى أحد بطلان نكاحه؛ لأنه أخذ بالأشد والأقوى، وهذا الورع ليس واجباً، ولكن مع ذلك به تتفاوت منازل المتقين.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4132 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3907 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |