شرح عمدة الأحكام [71]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[كتاب الأيمان والنذور.

عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة ! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير).

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها)].

من الأحكام الكلام على الأيمان وعلى النذور، واليمين هي الحلف، ويُسمى قسماً، وسمي يميناً لأن المتحالفين في الجاهلية كانوا يتقابضون بالأيمان من باب التأكد ومن باب التقوية، فيمسك أحدهما بيمين الآخر ثم يقسم هذا القسم المؤكد، فمن ثمَّ سمي الحلف يميناً، كما ذكر في قول الله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، وذكر باسم الحلف في قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، حيث ذكر الله كفارة اليمين، ثم ذكر أن هذا حلف، وذكر باسم القسم في قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [الأنعام:109]، وفي قوله: وَقَاسَمَهُمَا [الأعراف:21] يعني: حلف لهما.

وقد أقسم الله تعالى بالقرآن في عدة مواضع، كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير:15]، وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق:16]، وقوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، وقوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، وكذا قوله: وَالْفَجْرِ [الفجر:1]، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، وقوله: وَالضُّحَى [الضحى:1]، وقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وقوله: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً [العاديات:1]، وقوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1]، وقوله: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً [الصافات:1]، وقوله: وَالطُّورِ [الطور:1]، وقوله: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [الذاريات:1] وما أشبهها، فهذه تُسمى أقسام القرآن التي أقسم الله فيها.

والله تعالى له أن يقسم من خلقه بما يشاء، وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بخالقه وبربه، وذلك لأن القسم تعظيم للمقسم به كما سيأتي.

فائدة اليمين

اليمين أو القسم يعتبر مؤكداً للكلام، فإذا أقسم على شيء فمعناه تقوية ذلك الشيء وتأكيده والتحقق من وجوده وما أشبه ذلك، فإذا حلف أنه سيأتيك فإن هذا تعهد، وإذا حلف أنه ما ضرب فلاناً فهذا تأكيد لعدم فعله، وإذا حلف أن يعطيك كذا وكذا فإن هذا تقوية؛ لأنه تعهد بإعطائك، وإذا حلف أن فلاناً موجود فإن هذا أقوى من أن يقول: إنه موجود حاضر دون أن يأتي بيمين، وهكذا بقية الأمثلة، فالقسم يؤكد الكلام.

ولأجل هذا يستعمل اليمين في الحكومات وفي القضايا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي حديث آخر: (قضى باليمين على المدعى عليه)، واليمين التي هي الحلف جعلها على المنكر أو على المدعى عليه، وذلك لأن فيها نفياً لما ادعي به، فهذا دليل على أن اليمين تؤكد الكلام، فإذا قال: ما عندي لك دين ثم حلف على ذلك فقد تقوى النفي وتقوت براءته من ذلك الحق الذي تتدعيه عليه.

شرح حديث: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة..)

في هذين الحديثين أنه يجوز الحنث والكفارة إذا كان في ذلك خير، فالحديث الأول يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، والمراد بها الولاية على مجموعة والرئاسة عليهم، فالأمير هو الذي يكون والياً على أهل بلد أو والياً وأميراً ورئيساً على قسم أو على جهة أو على أسرة أو قبيلة أو نحو ذلك يرجعون إليه ويطيعونه، ويأمرهم بما يراه صالحاً لهم ونحو ذلك، والإمارة يُختار لها الأكفاء الذين فيهم الأهلية، ويبتعد عن اختيار من ليس كفؤاً لها، والإنسان لا يحرص عليها، وذلك لما فيها من المسئولية، ولما فيها من التعب والعمل الذي يناط بذلك الأمير، ولأن الناس يتعلقون به ويطلبون منه أن يفعل كذا وكذا، فيكون ذلك قدحاً في عدالته إذا اتهم وألصقت به التهم، أو عمل وليس من أهل العمل أو نحو ذلك، فلأجل هذا ينهى عن أن يسألها.

أما إذا عين الإنسان أميراً أو رئيساً أو مديراً أو نائباً وهو لم يسأل هذه الولاية وإنما اُختير لها واتُفق على اختياره لكونه كفؤاً فإنه يُعان عليها، يعينه الله ويسدده.

كفارة اليمين

ما يتعلق بالإمارة في هذا الحديث ذكر استطراداً، والشاهد من الحديث قوله: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك).

فالإنسان قد يحلف ويؤكد الحلف، ويكون حلفه على ترك معروف أو على فعل منكر أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يندم على يمينه، ويقول: ليتني ما حلفت. لقد أوقعتني هذه اليمين في حرج. فإذا حلف الإنسان -مثلاً- أن لا يدخل بيت أخيه، أو حلف أن لا يكلم أباه، أو حلف أن لا يعطي المساكين من الصدقات ونحوها، أو لا يعطي هذا المسكين، أو حلف أن لا يصلي بهذا المسجد كراهية لإمامه ولا ذنب له مثلاً، أو حلف أن لا يصل أرحامه، أو حلف أن يعق أباه، أو حلف أن يقطع أقاربه، أو حلف أن لا يأكل عند فلان وإن كان أكلاً عادياً أو نحو ذلك، ثم رجع إلى نفسه فهذا الحلف تارة يكون على مخالفة ومعصية وتارة يكون على أمر عادي، فالأولى له في الحالات كلها أن يفعل الذي هو خير، حتى ولو كان من الأمور العادية، وسيأتي لها أمثلة في النذور إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، وإذا حلف أن يهجر فلاناً ولا يسلم عليه فبقي على هذا الهجران شهراً، وفكر بعد ذلك وقال: أليس هذا ذنباً؟ وأجاب: بلى. إن التهاجر ذنب، فما المخرج وأنا قد حلفت؟ فنقول: المخرج أن تكفر فتطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم به أهلك، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام متتابعة، وتفعل الذي هو خير، فسلامك على أخيك خير من هجرانه، وأكلك من طعامه جبراً لنفسه خير من تركك لذلك، وصلتك لأرحامك خير من القطيعة، بل إن القطيعة ذنب.

وكذلك عند الحاجة قد يحلف الإنسان وتحمله الحاجة على المخالفة، فجعل الله له كفارة، فقال تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... [المائدة:89]، وتعقيد الأيمان يعني تأكيدها وتقويتها، وفي قراءة (عاقدتم الأيمان) يعني: عقدتم اليمين وأكدتموها.

وقد عفا الله تعالى عن اللغو، فكثيراً ما يجري على لسانك وأنت في المجلس قولك: لا والله، وبلى والله. وأنت ما عزمت على الحلف، فهذا من اللغو الذي يُعفى عنه، وأما إذا عزمت وجزمت وحلفت أنك ما تركب هذه السيارة، أو أنك ما تعطي ولدك مفاتيحها مثلاً، أو أنه ما يقود بك سيارة، أو أنه لا يدخل عليك طوال حياتك مثلاً، أو حلفت أن تقتل هذا الرجل وأنت ظالم له، أو حلفت أن تقطع يده بغير حق، أو تقطع منه طرفاً، أو حلفت أن لا تقضيه حقه مع أنه مستحق، أو حلفت أن لا تشتري من هذا الدكان بغير ذنب وأنت ستحتاج إلى أن تشتري منه، فمثل هذه الأشياء الأولى بك أن تخالف ما حلفت عليه، وأن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو خير.

ومن الدليل عليه أيضاً حديث أبي موسى وقصته في غزوة تبوك، فالأشعريون كانوا أربعة أو خمسة يحبون أن يغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجدون ما يركبون، ولا يجدون رواحل يرحلون عليها، فأرسلوا واحداً منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فعند ذلك جاؤوا إليه وهو غضبان من كثرة من ينازعه وكثرة من يطلبه، ففي حالة طلبهم له وهو غضبان قال: (ما عندي ما أحملكم، ووالله ما أحملكم) صدرت منه هذه اليمين: (والله ما أحملكم)، فرجعوا يبكون أسفاً على أنه لم يحملهم، وبعد ساعات جاءت إليه عليه الصلاة والسلام رواحل، فقال: (أين أبو موسى الأشعري ؟)، فقيل: إنه رجع. فأرسل إليهم بخمس من الإبل ليركبوها وليرتحلوا عليها ويغزوا معه، فلما جاءتهم قالوا: إنه قد حلف أن لا يحملنا، إنا استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لا يبارك لنا. فعند ذلك رجعوا إليه وقالوا: إنك قد حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا! فقال: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وتحللتها) أي: فعلت الذي هو خير. فجعل هذا من فعل الخير، فهو حلف أنه لا يحملهم، وكان في غزوهم مصلحة ومنفعة وخير، فحملهم بعد ما حلف أن لا يفعل، وكفر عن يمينه، فهذا ونحوه دليل على أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله.

ذكروا أن رجلاً كان له دين على إنسان، فأفلس ذلك المدين وكثر عليه الدين، فقالوا لصاحب الدين: لعلك تنزل وتسقط عنه شيئاً من دينك -أي: من باب التسامح- فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حلف أن لا يفعل معروفاً) ثم أمره أن يكفر ويسقط عنه بعض الشيء)، فهذا مثال في أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله ويكفر عن يمينه، ومن حلف أن يفعل منكراً فإن عليه أن يتركه، كما سيأتي.

وعلى كل حال فاليمين إذا كان الترك خيراً من الفعل فالإنسان يترك ما حلف عليه، وفي الكفارة محو لذلك الذنب الذي فعله، فإذا كفر الكفارة التامة محي عنه ذلك الحنث، وأما إصراره على ذلك فإنه مذموم، قال تعالى: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46] يعني: فعل الشيء بدون كفارة.

فهناك ثلاثة أشياء:

الأول: الحلف على فعل منكر ثم يفعله، فهذا منكر.

الثاني: الحلف على ترك معروف ثم يتركه، فهذا أيضاً منكر.

الثالث: أن يحلف على فعل شيء ثم يرى أن فعله منكر، فيكفر ويمحو الله عنه اليمين الذي حلف بها.

اليمين أو القسم يعتبر مؤكداً للكلام، فإذا أقسم على شيء فمعناه تقوية ذلك الشيء وتأكيده والتحقق من وجوده وما أشبه ذلك، فإذا حلف أنه سيأتيك فإن هذا تعهد، وإذا حلف أنه ما ضرب فلاناً فهذا تأكيد لعدم فعله، وإذا حلف أن يعطيك كذا وكذا فإن هذا تقوية؛ لأنه تعهد بإعطائك، وإذا حلف أن فلاناً موجود فإن هذا أقوى من أن يقول: إنه موجود حاضر دون أن يأتي بيمين، وهكذا بقية الأمثلة، فالقسم يؤكد الكلام.

ولأجل هذا يستعمل اليمين في الحكومات وفي القضايا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي حديث آخر: (قضى باليمين على المدعى عليه)، واليمين التي هي الحلف جعلها على المنكر أو على المدعى عليه، وذلك لأن فيها نفياً لما ادعي به، فهذا دليل على أن اليمين تؤكد الكلام، فإذا قال: ما عندي لك دين ثم حلف على ذلك فقد تقوى النفي وتقوت براءته من ذلك الحق الذي تتدعيه عليه.

في هذين الحديثين أنه يجوز الحنث والكفارة إذا كان في ذلك خير، فالحديث الأول يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، والمراد بها الولاية على مجموعة والرئاسة عليهم، فالأمير هو الذي يكون والياً على أهل بلد أو والياً وأميراً ورئيساً على قسم أو على جهة أو على أسرة أو قبيلة أو نحو ذلك يرجعون إليه ويطيعونه، ويأمرهم بما يراه صالحاً لهم ونحو ذلك، والإمارة يُختار لها الأكفاء الذين فيهم الأهلية، ويبتعد عن اختيار من ليس كفؤاً لها، والإنسان لا يحرص عليها، وذلك لما فيها من المسئولية، ولما فيها من التعب والعمل الذي يناط بذلك الأمير، ولأن الناس يتعلقون به ويطلبون منه أن يفعل كذا وكذا، فيكون ذلك قدحاً في عدالته إذا اتهم وألصقت به التهم، أو عمل وليس من أهل العمل أو نحو ذلك، فلأجل هذا ينهى عن أن يسألها.

أما إذا عين الإنسان أميراً أو رئيساً أو مديراً أو نائباً وهو لم يسأل هذه الولاية وإنما اُختير لها واتُفق على اختياره لكونه كفؤاً فإنه يُعان عليها، يعينه الله ويسدده.

ما يتعلق بالإمارة في هذا الحديث ذكر استطراداً، والشاهد من الحديث قوله: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك).

فالإنسان قد يحلف ويؤكد الحلف، ويكون حلفه على ترك معروف أو على فعل منكر أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يندم على يمينه، ويقول: ليتني ما حلفت. لقد أوقعتني هذه اليمين في حرج. فإذا حلف الإنسان -مثلاً- أن لا يدخل بيت أخيه، أو حلف أن لا يكلم أباه، أو حلف أن لا يعطي المساكين من الصدقات ونحوها، أو لا يعطي هذا المسكين، أو حلف أن لا يصلي بهذا المسجد كراهية لإمامه ولا ذنب له مثلاً، أو حلف أن لا يصل أرحامه، أو حلف أن يعق أباه، أو حلف أن يقطع أقاربه، أو حلف أن لا يأكل عند فلان وإن كان أكلاً عادياً أو نحو ذلك، ثم رجع إلى نفسه فهذا الحلف تارة يكون على مخالفة ومعصية وتارة يكون على أمر عادي، فالأولى له في الحالات كلها أن يفعل الذي هو خير، حتى ولو كان من الأمور العادية، وسيأتي لها أمثلة في النذور إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، وإذا حلف أن يهجر فلاناً ولا يسلم عليه فبقي على هذا الهجران شهراً، وفكر بعد ذلك وقال: أليس هذا ذنباً؟ وأجاب: بلى. إن التهاجر ذنب، فما المخرج وأنا قد حلفت؟ فنقول: المخرج أن تكفر فتطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم به أهلك، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام متتابعة، وتفعل الذي هو خير، فسلامك على أخيك خير من هجرانه، وأكلك من طعامه جبراً لنفسه خير من تركك لذلك، وصلتك لأرحامك خير من القطيعة، بل إن القطيعة ذنب.

وكذلك عند الحاجة قد يحلف الإنسان وتحمله الحاجة على المخالفة، فجعل الله له كفارة، فقال تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... [المائدة:89]، وتعقيد الأيمان يعني تأكيدها وتقويتها، وفي قراءة (عاقدتم الأيمان) يعني: عقدتم اليمين وأكدتموها.

وقد عفا الله تعالى عن اللغو، فكثيراً ما يجري على لسانك وأنت في المجلس قولك: لا والله، وبلى والله. وأنت ما عزمت على الحلف، فهذا من اللغو الذي يُعفى عنه، وأما إذا عزمت وجزمت وحلفت أنك ما تركب هذه السيارة، أو أنك ما تعطي ولدك مفاتيحها مثلاً، أو أنه ما يقود بك سيارة، أو أنه لا يدخل عليك طوال حياتك مثلاً، أو حلفت أن تقتل هذا الرجل وأنت ظالم له، أو حلفت أن تقطع يده بغير حق، أو تقطع منه طرفاً، أو حلفت أن لا تقضيه حقه مع أنه مستحق، أو حلفت أن لا تشتري من هذا الدكان بغير ذنب وأنت ستحتاج إلى أن تشتري منه، فمثل هذه الأشياء الأولى بك أن تخالف ما حلفت عليه، وأن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو خير.

ومن الدليل عليه أيضاً حديث أبي موسى وقصته في غزوة تبوك، فالأشعريون كانوا أربعة أو خمسة يحبون أن يغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجدون ما يركبون، ولا يجدون رواحل يرحلون عليها، فأرسلوا واحداً منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فعند ذلك جاؤوا إليه وهو غضبان من كثرة من ينازعه وكثرة من يطلبه، ففي حالة طلبهم له وهو غضبان قال: (ما عندي ما أحملكم، ووالله ما أحملكم) صدرت منه هذه اليمين: (والله ما أحملكم)، فرجعوا يبكون أسفاً على أنه لم يحملهم، وبعد ساعات جاءت إليه عليه الصلاة والسلام رواحل، فقال: (أين أبو موسى الأشعري ؟)، فقيل: إنه رجع. فأرسل إليهم بخمس من الإبل ليركبوها وليرتحلوا عليها ويغزوا معه، فلما جاءتهم قالوا: إنه قد حلف أن لا يحملنا، إنا استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لا يبارك لنا. فعند ذلك رجعوا إليه وقالوا: إنك قد حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا! فقال: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وتحللتها) أي: فعلت الذي هو خير. فجعل هذا من فعل الخير، فهو حلف أنه لا يحملهم، وكان في غزوهم مصلحة ومنفعة وخير، فحملهم بعد ما حلف أن لا يفعل، وكفر عن يمينه، فهذا ونحوه دليل على أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله.

ذكروا أن رجلاً كان له دين على إنسان، فأفلس ذلك المدين وكثر عليه الدين، فقالوا لصاحب الدين: لعلك تنزل وتسقط عنه شيئاً من دينك -أي: من باب التسامح- فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حلف أن لا يفعل معروفاً) ثم أمره أن يكفر ويسقط عنه بعض الشيء)، فهذا مثال في أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله ويكفر عن يمينه، ومن حلف أن يفعل منكراً فإن عليه أن يتركه، كما سيأتي.

وعلى كل حال فاليمين إذا كان الترك خيراً من الفعل فالإنسان يترك ما حلف عليه، وفي الكفارة محو لذلك الذنب الذي فعله، فإذا كفر الكفارة التامة محي عنه ذلك الحنث، وأما إصراره على ذلك فإنه مذموم، قال تعالى: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46] يعني: فعل الشيء بدون كفارة.

فهناك ثلاثة أشياء:

الأول: الحلف على فعل منكر ثم يفعله، فهذا منكر.

الثاني: الحلف على ترك معروف ثم يتركه، فهذا أيضاً منكر.

الثالث: أن يحلف على فعل شيء ثم يرى أن فعله منكر، فيكفر ويمحو الله عنه اليمين الذي حلف بها.

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ولـمسلم : (فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي رواية: قال عمر : (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكراً ولا آثراً) يعني: حاكياً عن غيره أنه حلف بها].

هذا الحديث يتعلق بالحلف، والحلف: هو القسم بالله أو بأسماء الله أو بصفات الله على أمر من الأمور لتأكيده وتقويته. والإنسان إذا أراد أن يؤكد قولاً من الأقوال فإنه يقنع الحاضرين والسامعين بهذا الحلف، فيقول: والله إن الأمر كذا. وبالله إنه لكذا. أو: أحلف بالله لقد قال فلان كذا. أو ما أشبه ذلك.

حكم الحلف بغير الله عز وجل

كان أهل الجاهلية يحلفون بما يعظمونه، وكانت آلهتهم في نظرهم عظيمة، فلذلك كانوا يقولون في حلفهم: واللات والعزى. و(اللات): المعبد الذي في الطائف. (والعزى): الذي في نخلة بين مكة والطائف. وكلاهما معظم عندهم.

فورد النهي عن ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، فالذي تحلف به يكون قدره في قلبك عظيماً، فتعظمه بهذه اليمين.

والتعظيم لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يعظم مخلوقاً، ولهذا جاء الأمر بالحلف بالله وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، فأمر الذي يحلف بالله أن يحلف وهو صادق، ونهاه أن يحلف بغير الله أياً كان ذلك المحلوف به.

وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم، وبقي ذلك عند بعض من أسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه -وهو من أذكى الناس وأفطنهم- حلف مرة بعدما أسلم بأبيه، فقال: بأبي إن الأمر كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ولما سمعه عمر رضي الله عنه امتثل ذلك، فتوقف عن هذا منذ أن نهاه، وذلك لأن الصحابة وقافون عند حدود الله، ومتى أمرهم الله بأمر توقفوا عنده، ومتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر امتثلوه ولم يتجاوزوه، فلذلك يقول عمر (والله ما حلفت بأبي بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً. يعني: لا ذاكراً له مبتدئاً له من نفسي، ولا آثراً ناقلاً لكلامي عن غيري. حتى النقل، فلم يقل: إن فلاناً قال: بأبي إن الأمر كذا من شدة امتثاله وتمسكه بما سمعه من الحديث المرفوع تمسكاً زائداً، فلم ينقل عن أحد قوله: بأبي إن الأمر كذا. وما ذاك إلا أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه إلا وهو حرام لا يجوز.

وقد ورد أيضاً ما يدل على أنه من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

فذكر في هذا الحديث أن الحلف بغير الله كفر أو شرك، ولكن إذا قيل: إنه كفر فهو كفر دون كفر، إنما هو كفر جزئي، بمعنى أنه جهل لما أمرنا به من الحلف بالله تعالى، وإذا قيل: إنه شرك فإنه من الشرك الأصغر الذي هو دون الأكبر، ولا يخرج من الملة، ولكن ما دام أن اسمه شرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، وهو داخل في الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فالذي يموت وهو مصر على نوع من الشرك كالحلف بغير الله يعتبر من الذين لا يغفر شركهم، بل لابد من عقوبتهم على قدر شركهم بما يقدره الله تعالى.

وعلى كل حال فإنه ما دام أنه ذنب وما دام أنه وصل إلى تسميته شركاً في هذا الحديث فإنه يدل على كبره وكونه أكبر الكبائر؛ لأن كبائر الذنوب كالزنا والربا ونحوها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنها وغفرها لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدرها، وأما الشرك ولو كان صغيراً فلابد من عذاب صاحبه في الآخرة بقدر شركه أو قدر ذنبه، فهذا دليل على عظمته.

والإنسان عليه أن يكون حذراً، عليه أن يكون تعظيمه لله، فإنه إذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك المخلوق به، ودل على أنه أنزل في قلبه ذلك المحلوف به منزلة عظيمة يقدره بها ويرفع مقامه، وهو بهذا رفعه عن قدره، وقد جعله مستحقاً لنوع من التعظيم الذي هو حق الله تعالى.

ويدخل في ذلك الحلف الأشخاص والبقع والصفات ونحوها، كل ذلك من الحلف بغير الله.

وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22] فقال: الأنداد: هو الشرك، وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. وحياتي. فجعل هذا من الحلف بغير الله ومن الشرك، فمن قال: وحياتك يا فلان. أو: بحياتك يا فلان. أو: بحياتي فإن هذا قد حلف بغير الله، وقد أثبت ابن عباس أنه من الشرك الذي هو خفي، بمعنى أن الناس لا يفطنون له ولا ينتبهون له، وهي كلمات -كما يقولون- تجري على الألسن، فيُتساهل بها، وهي في الحقيقة من الشرك الخفي، فينتبه لها، فإذا قال قائل: وحياتك يا فلان. أو: وحياتك يا فلانة. أو: وحياتي. أو قال: وشرفي. أو: ونسبي. أو نحو ذلك فهذا من الشرك، والذي يحلف بشرفه فإن شرفه لا يستحق أن يعظم بهذا التعظيم، وكذلك لو قال: ونسبي. أو: ومنصبي. أو: مفخري. أو: ومفخر فلان أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الشرك.

وهكذا إذا أقسم بالتراب، كأن يقول: بتربة فلان. أو ما أشبه ذلك، أو أقسم بالحرمة، كأن يقول: بحرمة فلان. أو: بحرمة صاحب هذا القبر. أو: بحرمة الولي أو بالقبر الفلاني أو بالشهيد أو بالولي الفلاني أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا يعتبر تعظيماً لذلك المحلوف به، والذي يحلف به يعتبر كأنه رفعه عن مقامه، فكان بذلك مشركاً، فيتجنب الإنسان الحلف بالمخلوق، ولا يحلف إلا بالخالق سبحانه وتعالى.

وإذا قلت: إن الله تعالى أقسم بكثير من المخلوقات؟

نقول: الله تعالى يقسم من خلقه بما يشاء، كما في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:75-76]، ولكن المسلم الذي يلتزم ويوحد الله يجعل إقسامه بالله، فلا يقسم إلا بربه؛ لأن القسم تعظيم، والتعظيم هو من حق الله تعالى على عباده، فحق على العباد أن يكون تعظيمهم لربهم.

ومع الأسف نسمع كثيراً لا يقنعون بالحلف بالله حتى يحلف لهم بغير الله، ففي كثير من البلاد التي تنتحل الإسلام وتدعي أن أهلها يعظمون الله ويعظمون القرآن ويؤمنون بالبعث يُحكى لنا عن بعضهم أنه كان له دين عند شخص، فأُحضر عند القاضي وحلف عشرة أيمان أنه ليس له حق لخصمه، فقال خصمه للقاضي: قل له يحلف بتربة الولي فلان. فألزمه القاضي أن يحلف بتربته، فامتنع أن يحلف واعترف بالحق، وقال: إذا حملتوني على أن أحلف بتربة السيد فلان فإنني لا أحلف، بل أقول: إن الحق عندي إذا أكرهتموني. فصارت تربة ذلك السيد الذي يعبدونه ويعظمونه ويسمونه ولياً وسيداً أعظم في قلبه من الخالق سبحانه وتعالى، فيا للعجب!! حلف بالله عدة أيمان وهو كاذب ولم يتجرأ أن يحلف بتربة السيد! فهذا لا شك أنه قد يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه عظم ذلك السيد وصار في قلبه له وقع مع أنه مخلوق، ولو حلف به وهو صادق لأشرك وصدق عليه أنه مشرك.

فالحاصل أن المسلم عليه أن يكون تعظيمه لربه سبحانه، فلا يعظم أي مخلوق بأي نوع من أنواع التعظيم، لا بالحلف ولا غيره، ومتى عرف المسلم أنه تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير فإنه يعرف أنه المستحق لجميع العبادات كلها، فحينئذٍ هو المستحق أن يُدعى وحده ولا يُدعى غيره، وهو المستحق لأن يُرجى وأن يُخاف وأن يُعتمد عليه، وأن يُتوكل عليه، وأن يُستعان به، وأن يُستغاث به، وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى، فيصرفها لله، ويترك التعلق على مخلوق سوى الله.

حكم الإكثار من الحلف

معلوم أن الحلف تأكيد للمحلوف به، ولكن قد ذكرنا أنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على الحلف وهو شاك في الأمر، ولا وهو كاذب، وإذا حلف هو كاذب على أمر من الأمور لاسيما إذا كان يستحل بحلفه مالاً يأخذه بغير حق فإن ذلك حرام عليه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود السواك الذي يستاك به، فلو اقتطع باليمين سواكاً فإنه يُعتبر قد اقتطع مالاً بغير حق بيمين هو فيها كاذب، فجمع بين الكذب وبين أخذ ما لا يستحقه من المال ولو كان يسيراً، فاستحق أن يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان.

كذلك نقول: إن على المسلم أيضاً أن يحترم أسماء الله تعالى، فلا يكثر الحلف مخافة أن يقع في كذب وهو غير متعمد ثم يلام على ذلك، وقد كثر حلف الناس على البيع والشراء، وهو بغير شك يوقعهم في كثير من الفجور أو نحو ذلك، وقد قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ [القلم:10]، و(حلّاف) صيغة مبالغة، أي: كثير الحلف. فإن الذي يكون كثير الحلف لابد أن يقع في شيء من الكذب.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وذكر منهم رجلاً حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطي بها كذا وكذا وهو كاذب، وخص بعد العصر لأنه وقت شريف من أفضل الأزمنة، وخص الحلف مع أنه حلف بالله لأنه حلف على كذب فصدقه الذي حلف له وزاد في ثمن تلك السلعة لأنه حلف، فهذا أخذ ما لا يستحقه وحلف بالله وهو كاذب، وامتهن حرمة الزمان الذي هو وقت شريف وهو بعد العصر، فكان ذلك سبباً لعقوبته بهذه العقوبة، ولذلك نتواصى بأن نحفظ أيماننا، كما يقول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أي: لا تكثروا الحلف فتقعوا في الحنث.

وكذلك لا نكثر الحلف بالله، كما يقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] أي: لا تكثروا من الحلف الذي هو مظنة الكذب أو نحو ذلك، وعلى كل حال الكلام على الأيمان معروف، والحمد لله.

كان أهل الجاهلية يحلفون بما يعظمونه، وكانت آلهتهم في نظرهم عظيمة، فلذلك كانوا يقولون في حلفهم: واللات والعزى. و(اللات): المعبد الذي في الطائف. (والعزى): الذي في نخلة بين مكة والطائف. وكلاهما معظم عندهم.

فورد النهي عن ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، فالذي تحلف به يكون قدره في قلبك عظيماً، فتعظمه بهذه اليمين.

والتعظيم لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يعظم مخلوقاً، ولهذا جاء الأمر بالحلف بالله وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، فأمر الذي يحلف بالله أن يحلف وهو صادق، ونهاه أن يحلف بغير الله أياً كان ذلك المحلوف به.

وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم، وبقي ذلك عند بعض من أسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه -وهو من أذكى الناس وأفطنهم- حلف مرة بعدما أسلم بأبيه، فقال: بأبي إن الأمر كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ولما سمعه عمر رضي الله عنه امتثل ذلك، فتوقف عن هذا منذ أن نهاه، وذلك لأن الصحابة وقافون عند حدود الله، ومتى أمرهم الله بأمر توقفوا عنده، ومتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر امتثلوه ولم يتجاوزوه، فلذلك يقول عمر (والله ما حلفت بأبي بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً. يعني: لا ذاكراً له مبتدئاً له من نفسي، ولا آثراً ناقلاً لكلامي عن غيري. حتى النقل، فلم يقل: إن فلاناً قال: بأبي إن الأمر كذا من شدة امتثاله وتمسكه بما سمعه من الحديث المرفوع تمسكاً زائداً، فلم ينقل عن أحد قوله: بأبي إن الأمر كذا. وما ذاك إلا أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه إلا وهو حرام لا يجوز.

وقد ورد أيضاً ما يدل على أنه من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

فذكر في هذا الحديث أن الحلف بغير الله كفر أو شرك، ولكن إذا قيل: إنه كفر فهو كفر دون كفر، إنما هو كفر جزئي، بمعنى أنه جهل لما أمرنا به من الحلف بالله تعالى، وإذا قيل: إنه شرك فإنه من الشرك الأصغر الذي هو دون الأكبر، ولا يخرج من الملة، ولكن ما دام أن اسمه شرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، وهو داخل في الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فالذي يموت وهو مصر على نوع من الشرك كالحلف بغير الله يعتبر من الذين لا يغفر شركهم، بل لابد من عقوبتهم على قدر شركهم بما يقدره الله تعالى.

وعلى كل حال فإنه ما دام أنه ذنب وما دام أنه وصل إلى تسميته شركاً في هذا الحديث فإنه يدل على كبره وكونه أكبر الكبائر؛ لأن كبائر الذنوب كالزنا والربا ونحوها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنها وغفرها لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدرها، وأما الشرك ولو كان صغيراً فلابد من عذاب صاحبه في الآخرة بقدر شركه أو قدر ذنبه، فهذا دليل على عظمته.

والإنسان عليه أن يكون حذراً، عليه أن يكون تعظيمه لله، فإنه إذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك المخلوق به، ودل على أنه أنزل في قلبه ذلك المحلوف به منزلة عظيمة يقدره بها ويرفع مقامه، وهو بهذا رفعه عن قدره، وقد جعله مستحقاً لنوع من التعظيم الذي هو حق الله تعالى.

ويدخل في ذلك الحلف الأشخاص والبقع والصفات ونحوها، كل ذلك من الحلف بغير الله.

وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22] فقال: الأنداد: هو الشرك، وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. وحياتي. فجعل هذا من الحلف بغير الله ومن الشرك، فمن قال: وحياتك يا فلان. أو: بحياتك يا فلان. أو: بحياتي فإن هذا قد حلف بغير الله، وقد أثبت ابن عباس أنه من الشرك الذي هو خفي، بمعنى أن الناس لا يفطنون له ولا ينتبهون له، وهي كلمات -كما يقولون- تجري على الألسن، فيُتساهل بها، وهي في الحقيقة من الشرك الخفي، فينتبه لها، فإذا قال قائل: وحياتك يا فلان. أو: وحياتك يا فلانة. أو: وحياتي. أو قال: وشرفي. أو: ونسبي. أو نحو ذلك فهذا من الشرك، والذي يحلف بشرفه فإن شرفه لا يستحق أن يعظم بهذا التعظيم، وكذلك لو قال: ونسبي. أو: ومنصبي. أو: مفخري. أو: ومفخر فلان أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الشرك.

وهكذا إذا أقسم بالتراب، كأن يقول: بتربة فلان. أو ما أشبه ذلك، أو أقسم بالحرمة، كأن يقول: بحرمة فلان. أو: بحرمة صاحب هذا القبر. أو: بحرمة الولي أو بالقبر الفلاني أو بالشهيد أو بالولي الفلاني أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا يعتبر تعظيماً لذلك المحلوف به، والذي يحلف به يعتبر كأنه رفعه عن مقامه، فكان بذلك مشركاً، فيتجنب الإنسان الحلف بالمخلوق، ولا يحلف إلا بالخالق سبحانه وتعالى.

وإذا قلت: إن الله تعالى أقسم بكثير من المخلوقات؟

نقول: الله تعالى يقسم من خلقه بما يشاء، كما في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:75-76]، ولكن المسلم الذي يلتزم ويوحد الله يجعل إقسامه بالله، فلا يقسم إلا بربه؛ لأن القسم تعظيم، والتعظيم هو من حق الله تعالى على عباده، فحق على العباد أن يكون تعظيمهم لربهم.

ومع الأسف نسمع كثيراً لا يقنعون بالحلف بالله حتى يحلف لهم بغير الله، ففي كثير من البلاد التي تنتحل الإسلام وتدعي أن أهلها يعظمون الله ويعظمون القرآن ويؤمنون بالبعث يُحكى لنا عن بعضهم أنه كان له دين عند شخص، فأُحضر عند القاضي وحلف عشرة أيمان أنه ليس له حق لخصمه، فقال خصمه للقاضي: قل له يحلف بتربة الولي فلان. فألزمه القاضي أن يحلف بتربته، فامتنع أن يحلف واعترف بالحق، وقال: إذا حملتوني على أن أحلف بتربة السيد فلان فإنني لا أحلف، بل أقول: إن الحق عندي إذا أكرهتموني. فصارت تربة ذلك السيد الذي يعبدونه ويعظمونه ويسمونه ولياً وسيداً أعظم في قلبه من الخالق سبحانه وتعالى، فيا للعجب!! حلف بالله عدة أيمان وهو كاذب ولم يتجرأ أن يحلف بتربة السيد! فهذا لا شك أنه قد يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه عظم ذلك السيد وصار في قلبه له وقع مع أنه مخلوق، ولو حلف به وهو صادق لأشرك وصدق عليه أنه مشرك.

فالحاصل أن المسلم عليه أن يكون تعظيمه لربه سبحانه، فلا يعظم أي مخلوق بأي نوع من أنواع التعظيم، لا بالحلف ولا غيره، ومتى عرف المسلم أنه تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير فإنه يعرف أنه المستحق لجميع العبادات كلها، فحينئذٍ هو المستحق أن يُدعى وحده ولا يُدعى غيره، وهو المستحق لأن يُرجى وأن يُخاف وأن يُعتمد عليه، وأن يُتوكل عليه، وأن يُستعان به، وأن يُستغاث به، وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى، فيصرفها لله، ويترك التعلق على مخلوق سوى الله.

معلوم أن الحلف تأكيد للمحلوف به، ولكن قد ذكرنا أنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على الحلف وهو شاك في الأمر، ولا وهو كاذب، وإذا حلف هو كاذب على أمر من الأمور لاسيما إذا كان يستحل بحلفه مالاً يأخذه بغير حق فإن ذلك حرام عليه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود السواك الذي يستاك به، فلو اقتطع باليمين سواكاً فإنه يُعتبر قد اقتطع مالاً بغير حق بيمين هو فيها كاذب، فجمع بين الكذب وبين أخذ ما لا يستحقه من المال ولو كان يسيراً، فاستحق أن يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان.

كذلك نقول: إن على المسلم أيضاً أن يحترم أسماء الله تعالى، فلا يكثر الحلف مخافة أن يقع في كذب وهو غير متعمد ثم يلام على ذلك، وقد كثر حلف الناس على البيع والشراء، وهو بغير شك يوقعهم في كثير من الفجور أو نحو ذلك، وقد قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ [القلم:10]، و(حلّاف) صيغة مبالغة، أي: كثير الحلف. فإن الذي يكون كثير الحلف لابد أن يقع في شيء من الكذب.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وذكر منهم رجلاً حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطي بها كذا وكذا وهو كاذب، وخص بعد العصر لأنه وقت شريف من أفضل الأزمنة، وخص الحلف مع أنه حلف بالله لأنه حلف على كذب فصدقه الذي حلف له وزاد في ثمن تلك السلعة لأنه حلف، فهذا أخذ ما لا يستحقه وحلف بالله وهو كاذب، وامتهن حرمة الزمان الذي هو وقت شريف وهو بعد العصر، فكان ذلك سبباً لعقوبته بهذه العقوبة، ولذلك نتواصى بأن نحفظ أيماننا، كما يقول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أي: لا تكثروا الحلف فتقعوا في الحنث.

وكذلك لا نكثر الحلف بالله، كما يقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] أي: لا تكثروا من الحلف الذي هو مظنة الكذب أو نحو ذلك، وعلى كل حال الكلام على الأيمان معروف، والحمد لله.

قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته).

قوله: فقيل له: قل: إن شاء الله يعني: قال له الملك.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً [آل عمران:77]) إلى آخر الآية].

الحديث الأول موضوعه في الاستثناء في اليمين، وأنه ينفع إذا كان الاستثناء متصلاً بأن يقول: إن شاء الله أو إلا ما شاء الله، أو إلا أن يشاء الله ونحو ذلك، فإذا استثنى في يمينه ثم لم يوف بها لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته.

والقصة صحيحة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة) وفي رواية: (على مائة امرأة)، وذلك لأنه كان له نساء كثير، منهن زوجات ومنهن إماء سريات يملكهن، فالتزم بأنه سوف يطوف على مائة أو على سبعين، أي: يطأهن في تلك الليلة، وأن كل واحدة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله فنسي ولم يقل، وليس ذلك عصياناً ولا استبداداً، ولكنه نسي أن يقول ذلك أو انشغل، فلما طاف بهن لم تلد منهن ولم تحمل منهن في تلك الليلة إلا واحدة ولدت شق إنسان، أي: نصف إنسان. أي: غير كامل.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سببه عدم الاستثناء بقول (إن شاء الله)، أو (إلا ما شاء الله).

وأثبت العلماء بهذا الحديث وبغيره أن الاستثناء يكون مبرراً لعدم الحنث، وأن من حلف وأقسم وقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، ويسمى هذا الاستثناء، قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18]، فأهل الجنة كان لهم بستان فيه ثمار، فحلفوا في ليلتهم أنهم إذا أصبحوا سوف يصرمون ذلك النخل أو تلك الثمار، ولم يقولوا: إلا أن يشاء الله. ولم يستثنوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20] أي: احترقت ولم يبق فيها شيء، فأصبحت كأنها مصرومة. حتى إنهم لما رأوها قالوا: إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم:26] أي: ليس هذا بستاننا. ثم اعترفوا أنهم ظالمون، فقالوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [القلم:29]، فدل على أنه إذا أقسم الإنسان على شيء أو ذكر شيئاً فإن عليه أن يقول: إلا أن يشاء الله. أو يقول: إن شاء الله. أو نحو ذلك.

وإذا كان الأنبياء قد عوقبوا بمثل هذا فغيرهم من باب أولى.

وكذلك أيضاً ورد أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء: عن فرقة ذهبت في الدهر وكان لهم حديث عجيب، وعن الروح، وعن رجل طاف بالمشرق والمغرب. فقالوا: أخبرنا، فإن أخبرتنا فأنت نبي، وإلا فأنت رجل متقول. وأخذوا هذه الأسئلة عن اليهود، فقال لهم: (أخبركم غداً)، ونسي أن يقول: إن شاء الله. فلم ينزل عليه الملك بالوحي إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعاتبه الله تعالى بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

فلما قال: (إني آتيكم بها غداً) ولم يقل: إن شاء الله تأخر عليه الوحي، فأفاد بأن على الإنسان أن يحرص على أن يستثني في كلامه، فإذا قال: سأفعل هذا الأمر فليقل: إن شاء الله. وهكذا لو قال: سأسافر إلى البلاد الفلانية غداً. فعليه أن يقول: إن شاء الله. وكذا إذا قال: سأبيع هذا. أو: سأشتري لك كذا وكذا فليقل: إن شاء الله.

وهكذا المواعيد ونحوها، فعلى المسلم أن يستثني في المواعيد، فيقول مثلاً: آتيك غداً إن شاء الله. أو: تأتيني إن شاء الله. أو: يأتيني فلان إن شاء الله. وما أشبه ذلك، فهذا الاستثناء يعتبر تبركاً ويعتبر تعليقاً للأمر على مشيئة الله؛ لأنه إذا لم يشأه الله فإنه لا يحصل، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] أي: إذا أردتم أمراً فإنه لا يحصل إلا إذا شاءه الله وأرده إرادة كونية قدرية، فعلقوا أموركم المستقبلة على مشيئة الله تعالى.

فائدة الاستثناء في اليمين

أما الاستثناء في الحلف فإذا حلف على أمر مستقبل وقال: والله لآتينك غداً إن شاء الله ثم لم يأتك فإنه لا كفارة عليه، بخلاف ما إذا لم يقل: إن شاء الله. فلو قال: والله لأقضينك دينك غداً. أو: لأبيعنك. أو: لأحضرن لك هذه السلعة غداً ثم لم يحضرها أو لم يعطك فمثل هذا عليه كفارة.

والكفارة هي التي ذكرها الله بقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... [المائدة:89] إلخ، فإذا استثنى فلا كفارة عليه، فهذه هي فائدة الاستثناء.

ويمكن أن يخصص بعض الأشياء، فإذا قال مثلاً: بعتك هذا إن شاء الله فقلت: قبلته إن شاء الله. أو قال -مثلاً-: زوجتك موليتي إن شاء الله فقلت: قبلت إن شاء الله فإن ذلك ينعقد ولو كان فيه هذا الاستثناء، وكذلك إذا قال: طلقت امرأتي إن شاء الله فإنها تطلق، وذلك لأن هذا شيء ظاهر، فلا يعلق على مشيئة الله الخفية؛ لأنا لا نعلم مشيئة الله إلا بالأمر الواقع، فإذا رأينا الأمر قد وقع قلنا: هذا قد شاءه الله، شاء الله أن يولد لفلان، وشاء الله أن يموت فلان، وشاء الله أن يشفى، وشاء أن يستغني وما أشبه ذلك، فمشيئة الله تعالى ظاهرة بوقوع الأمور التي شاءها، وإذا رأينا الأمر تخلف قلنا: لم يشأ الله أن يحصل لفلان ولد، ولم يشأ الله أن يستغني فلان، أو أن ينجح في سعيه، أو يربح في بيعه.

والاستثناء يؤتى به أيضاً للترك، كما ورد في القرآن، قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27] مع أنه وعد محقق، ولكن عُلق بمشيئة الله تعالى للتبرك، وكذلك الاستثناء الذي في دعاء زيارة القبور: (وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون)، فالاستثناء هنا للتبرك، أو لتخصيص البقعة أو نحو ذلك، وإلا فالموت محقق، وكل الأحياء لاحقون بالأموات.